إسرائيل تستهدف قياديا في "حزب الله "    معرض الفرس بالجديدة يواصل جذب الزوار.. و"التبوريدة" تلقى متابعة واسعة    جمارك عبدة تحرق أطنانا من المخدرات    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    هل تغيّر سياسة الاغتيالات الإسرائيلية من معادلة الصراع في الشرق الأوسط؟    بايتاس يُشيد بالتحكم في المديونية    انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي و"طرد البوليساريو".. مسارات وتعقيدات    مشفى القرب بدمنات يواجه أزمة حادة    طرائف وحوادث الإحصاء    "النملة الانتحارية".. آلية الدفاع الكيميائية في مواجهة خطر الأعداء    بذل عمل جديدة لعناصر الجمارك "توضح تراتبية القيادة" شبه العسكرية    فاتح شهر ربيع الآخر 1446 ه يوم السبت 5 أكتوبر 2024    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    المياه المعدنية "عين أطلس" لا تحترم معايير الجودة المعمول بها    رسميا: فيفا يعلن عن موعد انطلاق مونديال كرة القدم سيدات تحت 17 في المغرب    الحسيمة.. عائلة من افراد الجالية تتعرض لحادثة سير خطيرة على طريق شقران    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    إسبانيا على وشك خسارة استضافة مونديال 2030 بعد تحذيرات الفيفا    أسعار النفط العالمية ترتفع ب 5 في المائة    الملك يهنئ رئيس الحكومة اليابانية الجديدة    "مجموعة العمل من أجل فلسطين": الحكومة لم تحترم الدستور بهروبها من عريضة "إسقاط التطبيع" ومسيرة الأحد تؤكد الموقف الشعبي    مومن: قائمة المنتخب المغربي منطقية    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان        مشروع هام لإعادة تهيئة مركز جماعة "قابوياوا"    "درونات" مزودة بتقنية الذكاء الاصطناعي لمراقبة جودة البناء    الركراكي: الانتظام في الأداء أهم المعايير للتواجد في لائحة المنتخب المغربي    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    الركراكي يساند النصيري ويكشف هوية قائد المنتخب    حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية تدخل شهرها الأخير    أخبار الساحة        أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مهرجان سيدي عثمان السينمائي يكرم الممثل الشعبي إبراهيم خاي    قراصنة على اليابسة    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    عبد اللطيف حموشي يستقبل المستشار العسكري الرئيسي البريطاني للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    استدعاء وزراء المالية والداخلية والتجهيز للبرلمان لمناقشة تأهيل المناطق المتضررة من الفيضانات    "جريمة سياسية" .. مطالب بمحاسبة ميراوي بعد ضياع سنة دراسية بكليات الطب    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    جائزة نوبل للسلام.. بين الأونروا وغوتيريس واحتمال الإلغاء    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    مؤتمر علمي في طنجة يقارب دور المدن الذكية في تطوير المجتمعات الحضرية    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    القطب الرقمي للفلاحة.. نحو بروز منظومة فلاحية رقمية فعالة        وقفة أمام البرلمان في الرباط للتضامن مع لبنان وغزة ضد عدوان إسرائيل    مندوبية طنجة تعلن عن منع صيد سمك بوسيف بمياه البحر الأبيض المتوسط    المغرب يشرع في فرض ضريبة "الكاربون" اعتبارا من 2025    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    دراسة: التلوث الضوئي الليلي يزيد من مخاطر الإصابة بالزهايمر    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة نقدية في مشروع القانون التنظيمي الخاص بالتعيين في الوظائف السامية

لقد أثار مشروع القانون التنظيمي الخاص بالتعيين في المؤسسات العمومية، المنصوص عليه في الفقرة الأخيرة من الفصل 49 من الدستور، جدلا سياسيا ودستوريا واسعا؛ وتأتي أهمية هذا الجدل من كون المشروع المذكور، هو أول خطوة في تفعيل المقتضيات الدستورية المرتبطة بالقوانين التنظيمية التي هي، بطبيعتها، مكملة للنص الدستوري. وإسهاما في هذا النقاش/الجدل، نقدم رؤيتنا للموضوع من خلال هذه القراءة النقدية، اعتمادا على النص الدستوري نفسه.
فبالرجوع إلى الفصل 49 من الدستور،الذي يقع في الباب الخاص بالملكية ويتعلق بالمجلس الوزاري الذي يرأسه الملك، ندرك سبب الجدل الذي أثاره هذا المشروع الذي يناقض روح الدستور الجديد. ويمكن القول بأن الفهم السطحي لهذا الفصل (حتى لا نقول شيئا آخر) أوقع في الخطأ مشروع القانون التنظيمي، موضوع هذه القراءة، حين اعتبر ذلك كافيا لجعل ما ورد فيه في شأن التعيين في الوظائف السامية، من اختصاص رئيس الدولة؛ ذلك أنه يكفي، لكي ندرك الخطأ الذي وقع فيه هذا المشروع، أن نستعرض محتوى الفصل المذكور والانتباه إلى صيغته، لنجد أنفسنا أمام نص يتحدث عن «التداول» في أمر التعيين، ولا يتحدث عن الآلية التي يتم بها هذا التعيين؛ والإشكالية المطروحة، موضوع الجدل السياسي والدستوري، هي بالضبط في آلية التعيين، خصوصا وأن القانون التنظيمي الذي عهد إليه الدستور بتحديد المؤسسات والمقاولات الإستراتيجية، لم يُعهد له بتحديد آلية التعيين في هذه المؤسسات، في حين يميز المشروع الذي قدمته الحكومة بين الوظائف التي يجب أن يبقى أمر التعيين فيها بيد الملك، بمعنى الاحتفاظ على التعيين بظهير، وبين الوظائف التي يعين فيها رئيس الحكومة، أي تلك التي يتم فيها التعيين بمرسوم، مما يعد مخالفة صريحة للدستور، كما سنحاول تبيان ذلك من خلال هذه السطور.
بالرغم من أن مسألة دستورية القوانين، تظل مسألة فقهية وأن فقهاء القانون الدستوري هم المؤهلون أكثر للفصل فيما يخص ملاءمة مشروع القانون الذي نحن بصدده، مع بنود الدستور الجديد؛ بالرغم من كل ذلك، يظل التناول السياسي للموضوع هو المطلوب، خصوصا وأننا في مرحلة تأسيسية، لا يجب أن نخطئ فيها الهدف الذي هو تعزيز التوجه الديمقراطي لبلدنا، مما يستدعي التمسك بشعار «التنزيل الديمقراطي للدستور». فالفصل 49 من الدستور يتحدث عن التداول في «التعيين، باقتراح من رئيس الحكومة، وبمبادرة من الوزير المعني، في الوظائف المدنية التالية: والي بنك المغرب، والسفراء والولاة والعمال، والمسؤولين عن الإدارات المكلفين بالأمن الداخلي؛ والمسؤولين عن المؤسسات والمقاولات العمومية الإستراتيجية»؛ لكنه لم يتعرض مطلقا لآليات التعيين في هذه الوظائف ولم يعهد بذلك، كما أسلفنا، للقانون التنظيمي الذي تُرك له أمر تحديد لائحة المؤسسات والمقاولات الإستراتيجية. ثم، حتى إذا سلمنا بمنطق الاستثناء، فيما يخص المؤسسات والمقاولات ذات الطابع الإستراتيجي، فهل يعقل أن يصل عددها إلى 37 مؤسسة ومقاولة؟ أضف إلى ذلك أن الدستور لا يخرج هذه المؤسسات، بشكل صريح، من نفوذ رئيس الحكومة، ولا يضعها خارج سلطة الوزراء المعنيين، مثل ما هو واضح من صيغة الفقرة المشار إليها أعلاه، حيث إن الوزير المعني هو الذي يبادر، ورئيس الحكومة هو الذي يقترح؛ فمسؤوليتهما، إذن، واضحة، ويبقى للمجلس الوزاري أن يتداول في الأشخاص المقترحين، قبل أن يقوم رئيس الحكومة بالتعيين، المشروط، طبعا، بموافقة المجلس الوزاري.
صحيح أن بعض بنود الدستور التي تحيل على الفصل 49، قد تثير بعض اللبس في هذا الشأن. فحين نقرأ في الفصل 91:»يعين رئيس الحكومة في الوظائف المدنية في الإدارات العمومية، وفي الوظائف السامية في المؤسسات والمقاولات العمومية، دون إخلال بأحكام الفصل 49 من هذا الدستور»، يمكن أن يتبادر إلى الذهن أن أحكام هذا الفصل لا تسمح لرئيس الحكومة بالتعيين في الوظائف التي يتداول فيها المجلس الوزاري. لكن، التفسير الأقرب إلى الصواب، وتماشيا مع روح الدستور الجديد، هو أن المشرِّع، لما ميز بين وظائف سامية يتداول فيها مجلس الحكومة وأخرى يتداول فيها مجلس الوزراء، إنما فعل ذلك ليميز بين المؤسستين الدستوريتين من حيث رئاستهما، وبالتالي اختلاف دورية اجتماعهما، ومن حيث القضايا التي تتدارسها كل مؤسسة، ومن بينها التداول في التعيين في الوظائف السامية. وإذا كان الدستور قد نص في الفصل 91 على أن رئيس الحكومة يعين «في الوظائف السامية في المؤسسات والمقاولات العمومية»، فإن عدم الإخلال بأحكام الفصل 49 من الدستور، يعني، بالضرورة، المرور من المجلس الوزاري للتداول في الاقتراح المقدم من قبل رئيس الحكومة، قبل التعيين في الوظائف المحددة في هذا الفصل، الذي يجب أن يقوم به رئيس الحكومة. فحتى عندما أوكل المشرع للقانون التنظيمي أمر تحديد «المؤسسات والمقاولات الإستراتيجية»، فإنما بهدف تحديد نوع المؤسسات والمقاولات التي يعين فيها رئيس الحكومة بعد أن يتم التداول في شأنها في مجلس حكومي، وتلك التي عليه، قبل أن يقوم بالتعيين، أن يقترح التداول فيها على مجلس الوزراء. وما يعزز هذا الطرح، هو ما جاء في الفصل 92 المتعلق بمجلس الحكومة، في الفقرة المتعلقة بالتداول في التعيين، حيث نقرأ: «وللقانون التنظيمي المشار إليه في الفصل 49 من هذا الدستور، أن يتمم لائحة الوظائف التي يتم التعيين فيها في مجلس الحكومة». فهذه الفقرة تجعل القانون التنظيمي لا يتناول فقط التعيينات التي يتداول فيها المجلس الوزاري، وإنما أيضا تلك التي يتداول فيها مجلس الحكومة. فالتعيين، إذن، لا يتم إلا بعد التداول؛ والتداول، إما أن يتم في مجلس الحكومة، وإما أن يتم في المجلس الوزاري؛ ولا يعني سوى إفساح المجال لإبداء الرأي، إما بالاعتراض أو بالقبول، ولا يعني التعيين في حد ذاته، أو بالأحرى آلية تنفيذه. لذا نرى أنه، إذا كان على رئيس الحكومة أن يطلع الملك على خلاصات مداولات مجلس الحكومة (الفقرة الأخيرة من الفصل 92 من الدستور)، فإن منطوق الدستور الجديد يترك له، باعتباره رئيس السلطة التنفيذية (الفصل 89 من الدستور)، أمر تنفيذ القرارات التي يصادق عليها المجلس الوزاري، بعد التداول، فيما يخص التعيين في بعض الوظائف السامية. ولذلك، بدا «الاجتهاد» الذي قدمه مشروع القانون التنظيمي مثيرا للجدل.
وقد عكست الصحافة المكتوبة والإلكترونية جانبا من هذا الجدل، مباشرة بعد نشره على العموم؛ كما أن هذا الجدل قد انتقل إلى ردهات مجلس النواب، بعد أن شرعت لجنة العدل والتشريع في مناقشة المشروع المذكور. ويكفي أن نشير إلى تدخل الأخوين إدريس لشكر وحسن طارق عن الفريق الاشتراكي، اللذين أبرزا مخالفته لروح الدستور. وتأتي أهمية هذا الجدل ليس فقط من كون هذا المشروع يعتبر باكورة الحكومة المنبثقة عن انتخابات 25 نونبر 2011، في مجال القوانين التنظيمية التي عهد إليها الدستور بالتدقيق في الصلاحيات والاختصاصات والقواعد التي يجب إتباعها في التنفيذ، بل تأتي هذه الأهمية أيضا من كون الأمر يتعلق بتفعيل مطلب ما فتئت القوى الديمقراطية تنادي به، ألا وهو جعل التعيين في المؤسسات العمومية من اختصاص السلطة التنفيذية، نظرا للإشكالات الكبرى التي كانت تطرحها آلية التعيين(ونقصد بها التعيين بظهير) التي كانت تحول دون المحاسبة والمساءلة، وتحول دون تحكم الوزراء في تصرفات الكتاب العامين ومديري الإدارات المركزية ومسؤولي المؤسسات والمقاولات العمومية التابعة للقطاعات الحكومية التي يشرفون عليها؛ بل إن الوزير الأول نفسه لم يكن يتحكم في الموظفين المعينين بظهير. إننا نتذكر كيف أن عبد الرحمان اليوسفي لم يتمكن من الاجتماع بالولاة والعمال إلا لمرة واحدة فقط، وبترخيص من الملك الراحل الحسن الثاني.
ويبدو أن صياغة مشروع القانون المذكور تسير في الاتجاه المعاكس لروح الدستور ولمضمونه الإيجابي. أو لنقل إن الأغلبية الحكومية الحالية ماضية في مراكمة السلبيات وتوجيه الإشارات غير المُطمئِنة فيما يخص التنزيل الديمقراطي للدستور. نتذكر كيف أن الإعلان عن الحكومة الحالية صاحبه جدل دستوري (وسياسي أيضا) حول مدى مطابقة هيكلها التنظيمي والبشري لبنود الدستور الجديد ومدى دستورية الخطوات التي أقدمت عليها بمجرد تعيينها؛ وهاهو الجدل نفسه يتكرر، مرة أخرى، عند إقدام الجهاز التنفيذي على أول خطوة في تنزيل القواعد الدستورية المتصلة بالقوانين التنظيمية. وعلى كل حال، فهذا الجدل أساسي وضروري لحماية مؤسساتنا الدستورية من البناء غير السليم أو على الأقل لدق ناقوس الخطر حتى يتم تدارك ما يمكن تداركه قبل فوات الأوان، خصوصا وأننا في مرحلة أساسية ومُؤسِّسة من تاريخنا الوطني، تتميز بالشروع في تنزيل بنود الدستور الجديد الذي ينتظر منه المغاربة - الذين صادقوا عليه بكثافة في فاتح يوليو 2011- أن ينقلهم إلى مرحلة متقدمة من البناء الديمقراطي لدولتهم الوطنية. فكل خطأ أو تعثر في البناء المؤسساتي أو في التنفيذ، ستكون آثاره وخيمة على مستقبل هذا الوطن الذي لم يعد بوسعه تحمل مزيد من النكسات في مجال البناء الديمقراطي الذي تعرض لشتى أنواع التشويه والتلاعب؛ إن المنطق يقتضي أن يراعي الجميع أننا دخلنا في مرحلة، يعرف فيها المغرب أول تناوب ينبثق من صناديق الاقتراع، ويحكمه نص دستوري جديد قوامه احترام المنهجية الديمقراطية والاحتكام إلى التأويل الديمقراطي لبنوده.
لكن توالي الإشارات السلبية , وسط هالة الضوء الوحيدة التي شكلها نشر لائحة المستفيدين من «الكريمات»، على أمل أن تتبعها إجراءات عملية تضع حدا لاقتصاد الريع، بدل الاكتفاء بالاستغلال الإعلامي لهذه القضية- يؤكد أن الحكومة بعيدة كل البعد عن التفكير في التنزيل الديمقراطي للدستور، رغم تبنيها لهذا الشعار. ففي الوقت الذي يربط فيه الدستور المسؤولية بالمحاسبة ، ويجعل من هذا المبدأ أحد أسسه الموجِّهة؛ وفي الوقت الذي اعتمد التصريح الحكومي هذا المبدأ وجعله أحد مرتكزاته الأساسية، يفاجئنا مشروع القانون التنظيمي المذكور ب»احتفاظه» بآلية التعيين القديمة، مما يشكل خطورة ذات مداخل متعددة، لعل أخطرها يكمن في كون بلادنا ستحيد عن بناء تقاليد جديدة تقطع مع أساليب الماضي وتعتمد التأويل الإيجابي لبنود أسمى قانون في البلاد، الذي يعزز التوجه الديمقراطي للدولة، في أفق الملكية البرلمانية التي نص عليها الفصل الأول من الدستور في فقرته الأولى.
لكن المؤسف أن رئيس الحكومة يتملص من مسؤوليته في هذا المجال، ويتستر وراء الملك من أجل تبرير عدم القدرة على الدفاع عن الاختصاصات والصلاحيات الواسعة التي يخولها له الدستور الجديد. فحين يرد السيد «بنكيران» على من يتهمه بالتنازل عن اختصاصاته، بأنه «لن ينازع الملك إرضاء للعلمانيين»، فإنما يعطي الدليل بأنه لا يحتكم إلى الدستور في علاقته مع باقي المؤسسات، وإنما يحتكم إلى تصوره الخاص للأشياء؛ وإلا كيف نفسر إقحام العلمانية في مسألة تفعيل الدستور؟ ثم إن السيد «بنكيران»، وهو يعلق إخلافه للموعد مع اللحظة التاريخية على مشجب العلمانيين، فهو يعلم حق العلم أن ما أقدم عليه من خذلان لتصويت فاتح يوليو 2011، هو محط انتقاد من كل فصائل نخب الشعب المغربي من علمانييها وإسلامييها ولبرالييها...وأحيله على رأي أحد منظري وقياديي الحزب الذي يرأسه، ألا وهو السيد «عبد العالي حامي الدين» الذي انتقد، في مقال له بجريدة «أخبار اليوم»، استناد مشروع القانون التنظيمي المعلوم في ديباجته إلى أحكام الفصل 42 من الدستور، الذي ينص على « أن جلالة الملك ,و ضامن دوام الدولة واستمرارها والحكم الأسمى بين مؤسساتها، والساهر على احترام الدستور وحسن سهر المؤسسات الدستورية»، مضيفا أن «تسلل هذا الفصل إلى نص تشريعي» يذكره ب «التأويل التعسفي للفصل 19 من دستور 1996 الذي تم توظيفه لسن مجموعة من التشريعات، وهو ما جر الكثير من الانتقادات على هذا الفصل في المرحلة السابقة، والاستناد عليه في هذا المشروع يتعارض مع التأويل الديمقراطي للدستور، على اعتبار أن المعاني السامية الواردة في هذا النص تبقى مرتبطة بالوظائف التحكيمية والسيادية الكبرى التي يتولاها الملك باعتباره رئيس الدولة». فهل أصبح «حامي الدين» علمانيا ومعارضا دون علم «بنكيران»؟ وما علاقة العلمانية بمسألة ممارسة الاختصاصات واحترامها؟ أليس خلط لأوراق هذا، فيه إساءة كبيرة للمرحلة...؟؟؟
على كل، لا أحد يطالب رئيس الحكومة بأن ينازع الملك في اختصاصاته؛ ولا يحق له ذلك. فاختصاصات الملك محددة دستوريا، ويمارسها بآليات دستورية أيضا، أي «بمقتضى ظهائر، من خلال السلطات المخولة له صراحة بنص الدستور»( الفصل 42، الفقرة الثالثة). بمعنى أن كل السلطات التي لا تُخوّْل له صراحة بنص الدستور، تبقى من صلاحيات السلطة التنفيذية، ويجب أن تخضع للتأويل الديمقراطي، الكفيل بالقطع مع الممارسات السابقة التي كانت تقف عرقلة في وجه كل تقدم على درب التحول الديمقراطي. لذا، فإننا نرى في تبرير السيد «بنكيران» لتنازله عن اختصاصاته بعدم منازعة الملك، ما يعكس عدم استيعاب البعد السياسي للإصلاح الدستوري الذي عرفته بلادنا. فالدستور حدد صراحة المجالات المحفوظة للملك باعتباره أميرا للمؤمنين وباعتباره رئيسا للدولة وممثلها الأسمى؛ وبالتالي لا مجال للخلط بين ما هو محفوظ للملك في الدستور وبين مهام الحكومة ودورها التدبيري للشأن العام؛ أضف إلى ذلك أن الاحتفاظ بالتعيين بظهير، يبقي على الإشكال المرتبط بالقوة السياسية والمعنوية للظهير، التي تجعل الموظفين السامين خارج سلطة الحكومة والوزراء؛ أي خارج المراقبة، بينما الفصل 89 من الدستور ينص على أن الحكومة «تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية». فكيف يمكن للحكومة أن تمارس هذا الإشراف وهذه الوصاية، إذا لم يكن لها حق التعيين فيها؟ لذا، فإن المنطق يقتضي أن يتم التعيين بمرسوم في كل الوظائف السامية، ما دام الدستور يميز صراحة بين التعيينات التي يباشرها الملك وفق اختصاصاته الدستورية المحفوظة له ( التعيين بظهير) وبين التعيينات التي يقتصر فيها دور المجلس الوزاري على التداول، كما ورد في الفصل49 من الدستور.
وإذا ما استحضرنا النضال المرير من أجل تثبيت الاختيار الديمقراطي (والذي كانت له كلفة باهظة، تشهد علي بعضها تقارير وملفات هيئة الإنصاف والمصالحة)، واستحضرنا السياق السياسي العام الذي تمت فيه الإصلاحات الدستورية؛ وإذا ما رجعنا إلى خطاب 9 مارس التاريخي، فإننا، صراحة، لا نفهم دوافع هذا التمييز بين المناصب السامية ولا نستسيغ مبررات هذا التنازل عن حق دستوري يستمده السيد رئيس الحكومة من الإرادة الشعبية المتمثلة في المشاركة المكثفة في الاستفتاء على الدستور، كما يستمده من الصدارة ألتي منحها الناخبون لحزبه، في الانتخابات التشريعية ألأخيرة، رغم استمرار تخاصم المغاربة مع صناديق الاقتراع، ما عدا إذا كان السيد «بنكيران» يمارس قناعاته الشخصية التي تعاكس مطلب الملكية البرلمانية الذي رفعته حركة 20 فبراير(التي كان ضدها) والذي يتلاقى ومطلب الحركة التقدمية وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي الذي رفع هذا المطلب منذ مؤتمره الثالث في سنة 1978 وأعاد التأكيد عليه في مؤتمره الثامن سنة 2008. إن التنازل عن الاختصاصات التي حددها الدستور، صراحة أو ضمنيا، يلغي جزءا مهما من ذلك المجهود الذي بذلته النخب السياسية والحقوقية وفعاليات المجتمع المدني، خلال مرحلة إعداد الوثيقة الدستورية، من أجل تحقيق مبدأ فصل السلط وتوازنها؛ وهذا يعني، من بين ما يعنيه، إعلان السيد «بنكيران» عن استعداده للتراجع عن المكتسبات، وبمبررات غير دستورية ودفوعات يكذبها الواقع؛ فحين يقول «بنكيران» بأن حزبه لن يدخل في نزاع مع الملك، فإنما ينسى أو يتناسى بأن ملك البلاد، في تجاوب ذكي مع متطلبات المرحلة (مرحلة الحراك الديمقراطي) هو من بادر إلى إطلاق عملية الإصلاح؛ كما أنه ما فتئ يؤكد على ضرورة «تكريس مقومات وآليات الطابع البرلماني للنظام السياسي المغربي، في أسسه القائمة على مبادئ سيادة الأمة، وسمو الدستور كمصدر لجميع السلطات، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وذلك في إطار نسق دستوري فعال ومعقلن، جوهره فصل السلط، واستقلالها وتوازنها...»(من نص الخطاب الذي وجهه الملك محمد السادس إلى الأمة بشأن الدستور الجديد). ثم إن حرص الملك على تعيين الأمين العام لحزب العدالة والتنمية رئيسا للحكومة، فيه إشارة تحمل رسالة غير مشفرة للجهاز التنفيذي من أجل حثه على تبني التأويل الإيجابي والديمقراطي للدستور.
لكن يبدو أن السيد «بنكيران» وأغلبيته الحكومية لم يستوعبوا هذه الرسالة جيدا. وقد ظهر ذلك جليا في مناسبات سابقة، منها قبول استوزار «التيقنوقراط»؛ كما يظهر اليوم، بوضوح، في تنازل رئيس الحكومة عن حقه الدستوري، من خلال مشروع القانون التنظيمي السالف الذكر، في التعيين في بعض الوظائف السامية. وبدل أن يستمع إلى الأصوات المتعالية من هنا وهناك، منتقدة هذا المشروع، يوصي السيد «بنكيران» الأغلبية بعدم تقديم أية تعديلات فيه؛ وهو أمر مقلق حقا، لأن الدستور الجديد، وكأي نص قانوني، يحتاج إلى تنزيل سليم حتى يتحقق منه المراد؛ والحال أننا أمام ممارسات لا تبعث على الاطمئنان، مما يبعث على التساؤل، وبقلق:
- هل هي رغبة في العودة إلى الوراء، أي إلى دستور 96 وما قبله، وذلك بالالتفاف على مستجدات دستور فاتح يوليو 2011؟
- هل هناك نية في التنازل باليمنى عما حققته القوى الحية باليسرى ؟
- هل هو إيحاء بأن ما استشعره المغاربة من تقدم ملموس في مجال التشريع ما هو إلا مجاز دستوري؟
- ثم، هل يحق لرئيس الحكومة، باعتباره مؤسسة دستورية، أن يتجاهل مستجدات بنود الدستور الذي، بموجبه، أسندت له هذه المهمة.؟
- وهل يحق له أن يفرط في سمو القانون إرضاء لرغبة ذاتية أو لضغوطات خارجية...؟؟؟
بدون مواربة، أقول لا، ولكنه قد فعل، وقد يفعل، ما دام قد فعل.
- أوليس في هذا ما يساعد على تعميق الإحساس بالخيبة واليأس والإحباط، ويزيد في ابتعاد المواطنين عن المشاركة السياسية (التي هي أصلا ضعيفة)...؟؟؟
- ألا يعتبر هذا تعزيزا للمواقف العدمية التي لا تألو جهدا في التدليل على أن لا شيء تغير في هذا الوطن...؟؟؟!!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.