على الرغم من أن الدستور المغربي الجديد دخل حيز التنفيذ لمدة تجاوزت السنة، إلا أن مجموعة من التعيينات الأخيرة جرت على ضوء روح الدستور القديم كما لم تتماشى ومبادئ الدستور الجديد، وكان التعيين الأخير لإدريس جطو (وقبله تعيين أمينة لمريني رئيس للمجلس الأعلى للاتصال السمعي-البصري) من ضمن التعيينات التي ناقضت قاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة وهو ما يضرب في العمق فكرة التنزيل الديمقراطي للدستور. فتعيين السيد إدريس جطو في منصب رئيس المجلس الأعلى للحسابات جرى وفق النص القانوني المنظم للمجلس والذي لم يقع تعديله بعد إقرار الدستور الجديد، فالقانون صدر بناء على الفصل 30 من الدستور القديم والذي ينص على "الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، وله حق التعيين في الوظائف المدنية و العسكرية كما له أن يفوض لغيره ممارسة هذا الحق" وكان من الطبيعي أن يصدر القانوني المنظم للمجلس الأعلى للحسابات متوافقا ومنطق هذا النص، إذ أن المجلس مؤسسة مدنية ومن الطبيعي أن يعين الملك رئيسها. ولكن الدستور الحالي لم يعطي الحق للملك بان يعين في جميع الوظائف المدنية وإنما حدد ذلك بنصوص الدستور أو أحال ذلك على النصوص التنظيمية ولم يستثني أي مؤسسة من ذلك أو وظيفة. فبالرجوع إلى النص الدستوري نجد في الفقرة الأخيرة من الفصل 49 "التعيين باقتراح من رئيس الحكومة، وبمبادرة من الوزير المعني، في الوظائف المدنية لوالي بنك المغرب، والسفراء والولاة والعمال، والمسؤولين عن الإدارات المكلفة بالأمن الداخلي؛ والمسؤولين عن المؤسسات والمقاولات العمومية الإستراتيجية. وتحدد بقانون تنظيمي لائحة هذه المؤسسات والمقاولات الإستراتيجية"، فالدستور حدد بالاسم المؤسسات التي يعين فيها الملك باقتراح من رئيس الحكومة وأحال تحديد المؤسسات الإستراتيجية للقانون التنظيمي الذي يشرعه البرلمان، فضلا عن الوظائف العسكرية والدينية التي أعطى الدستور الحق للملك حق التعيين فيها بشكل متفرد ودون اقتراح من رئيس الحكومة كما هو منصوص عليه في الفصول 41 و42 من الدستور. وبالعودة أيضا إلى القانون التنظيمي رقم 02.12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا لا نجد من ضمن هذه المناصب رئيس المجلس الأعلى للحسابات، وبالتالي فإنه لا يوجد أي نص قانوني يمنع رئيس الحكومة من تعيين رئيس المجلس الأعلى للحسابات أو يعطي للمك الحق في تعيينه دون الرجوع إلى المجلس الوزاري. فأن يتم اعتبار المجلس مؤسسة دستورية ويستغل الفراغ القانوني لسحب المجلس من المؤسسات التي يشرف عليها المجلسين الحكومي أو الوزاري، فإن ذلك محض اجتهاد صب في إضافة المجلس الأعلى للحسابات إلى خانة المؤسسات التي يعين رئيسها الملك، وهو اجتهاد اعتبر هذه المؤسسة خارج المؤسسات التي تسري عليها الأحكام الانتقالية وبالتالي يسري عليها القوانين العادية. وهم ما يمكن انتقاده من عدة أوجه قانونية. إن الدستور القديم لم يتطرق للمجلس الدستوري إلا من باب التنصيص عليه دون أن يحدد اختصاصاته أو يتوسع في التعريف به، ولهذا جاءت الفصول التي تتحدث عنه محصورة في فصلين، أما الدستور الحالي فلقد تطرق للمجلس الأعلى للحسابات في أربعة فصول، وهم ما يدل على العناية التي أولاها المشرع لهذه المؤسسة وكان من باب أولى أن يستتبع هذا التوسع في الحديث عن المجلس تغييرا للقانون المنظم له، وألا يتم ترك الإشراف على هذا المجلس في يد جهة واحدة وإنما يكون من ضمن المؤسسات التي يتم الإشراف عليها من قبل المجلس الوزاري. ومن ناحية أخرى، ورغم أن الدستور فيما يتعلق بالأحكام الانتقالية نص في فصله 179 على "تظل النصوص المتعلقة بالمؤسسات والهيئات المذكورة في الباب 12 من هذا الدستور، وكذا تلك المتعلقة بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي وبالمجلس الأعلى للتعليم، سارية المفعول، إلى حين تعويضها، طبقا لمقتضيات هذا الدستور" واستثنى من تعديل القوانين المنظمة لتلك المؤسسة قانون المجلس الأعلى للحسابات، إلا أن ذلك لا يمنع من تغيير هذا القانون بشكل يجعل تعيين رئيسه من صلاحيات المجلس الحكومي أو المجلس الوزاري. فمن المؤسسات التي نص الدستور على إمكانية تغيير قوانينها نجد في الفصل 165 الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، ورغم ذلك رأينا أن رئيستها تم تعيينها من قبل الملك بدون اقتراح من رئيس الحكومة. وبالتالي يمكن، إذا أردنا تنزيلا ديمقراطيا للدستور، أن ننتظر تغيير قانون المجلس الأعلى للحسابات بشكل يتوافق مع روح الدستور الجديد بما يضمن ربط المسؤولية بالمحاسبة (مع وجود مؤاخذات كثيرة على جطو). هناك من سيستطرد على موقفنا بكون المجلس الأعلى للحسابات مؤسسة قضائية ولا يمكن تركها في يد الجهاز التنفيذي ولا بد أن تبقى مستقلة عن التوظيف السياسي، ولكن هذا القول متهافت من عدة مناحي: أولا: إن جعل تعيين رئيس المجلس الأعلى للحسابات من صلاحيات المجلس الحكومي أو الوزاري لايعني فقدان هذا المجلس لاستقلاليته، فكثير من المؤسسات، رغم أهميتها، يشرف عليها المجلس الحكومي أو المجلس الوزاري من قبيل النيابة العامة التي تشرف عليها وزارة العدل، أو وزارة الداخلية التي يرأسها وزير سياسي، أو مديرية الأمن التي يقترح مديرها رئيس الحكومة. ثانيا: إن المجلس المذكور لا يعتبر هيئة قضائية إلا في حالات ضيقة، وإنما مهمته رقابية بشكل أساس، فهو يمارس، حسب الفصول الدستورية المنظمة له، مهمة تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية، ويتولى المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية. ويتحقق من سلامة العمليات، المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون، ويقيم كيفية تدبيرها لشؤونها، ويتخذ،عند الاقتضاء، عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة. وهذه كلها مهام تنفيذية تحاسب عليها الحكومة انتخابيا. ثالثا: إن سحب المجلس من سلطة الإشراف الحكومي، لا يعني أنها أصبحت من إختصاص جهاز تنفيذي، فالملكية فالمغرب هي بدورها سلطة تنفيذية. رابعا: لقد أوجب الدستور على المجلس الأعلى للحسابات تقديم المساعدة لكل من البرلمان والحكومة والقضاء، وهو ما يتنافى ومسألة الاستقلالية المقيسة على السلطة القضائية، فالأخيرة غير مكلفة بتقديم المساعدة لأي جهة أخرى. خامسا: إذا اعتبرنا بان المجلس الأعلى للحسابات مؤسسة دستورية ويحق للملك تعيين رئيسها دون المرور عبر المجلس الوزاري، فهذا يعني أن جميع المؤسسات الدستوري سيسري عليها هذا الأمر، ومن تم سيعين الملك رؤساء: المجلس الأعلى للتعليم، الهيئة الوطنية للوقاية من الرشوة، مجلس المنافسة، المجلس الاستشاري للأسرة، المجلس الاستشاري للشباب، الهيأة المكلفة بالمناصفة، مجلس الجالية المغربية، الوسيط، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والهيئة العليا للسمعي البصري (عين الملك رئيسة لها بالفعل)، علاوة على المجلس الاقتصادي والاجتماعي، المحكمة الدستورية، المجلس الأعلى للقضاء، والمجلس العلمي العلى. ومع ذلك يتحدث الدستور عن ربط المسؤولية بالمحاسبة، فهل سيحاسب المواطن المغربي؛عبر صناديق الاقتراع؛ رئيس حكومة تنفلت كل هذه القطاعات والمؤسسات، فضلا عن المؤسسة العسكرية والمؤسسات الإستراتيجية التي حددها القانون التنظيمي رقم 02.12، من مسؤوليته وإشرافه، وكيف سيقيم المواطن تدبير الأحزاب السياسية لمسائل المراقبة المالية والوقاية من الرشوة وتحقيق المناصفة والعناية بالجالية وغيرها من السياسيات العمومية؟ *باحث في العلوم السياسية [email protected]