عندما قررنا أن نتفاعل مع دستور 2011 بالإيجاب فلاعتقادنا بأن هذا الدستور استجاب لجزء كبير من مطالبنا في الإصلاح بشكل واسع، وأسس لتقدم ديمقراطي واضح على صعيد الحقوق والحريات وعلى صعيد التطور المؤسساتي، مع يقيننا التام بأن هناك العديد من الملاحظات على الكثير من الفصول، الشيء الذي يؤكد بأن ورش الإصلاح الدستوري يجب أن يبقى مفتوحا، والمغرب يحتاج إلى مراجعات دستورية أخرى ليكون أكثر ديمقراطية. لكن من المفيد القول بأن توفر البلاد على وثيقة دستورية جيدة وحدها لا يكفي ، بل لابد من شروط وإجراءات داعمة لتتجه البلاد نحو الديمقراطية الحقيقية التي تؤسس لدولة الحق والقانون. وأولها شرط الإرادة السياسية التي تنفخ في المتن الدستوري روحا ديمقراطية وتعمل على تأويل مقتضياته تأويلا ديمقراطيا. كما أن من واجب جميع الديمقراطيين أن يناضلوا من مواقعهم المختلفة على تفعيل الدستور وفق مضامين ديموقراطية وإلا فإن إمكانية التأويل اللاديمقراطي واردة، الشيء الذي سيجعل مكتسبات هذه المرحلة تتبخر في أي لحظة بسبب النزعة الهيمنية لدى بعض المؤسسات التي تحاول فرض الأمر الواقع خلافا لروح الدستور والقانون. في الأسابيع الأولى لعمل الحكومة الجديدة المنبثقة عن الدستور الجديد بدأنا في رسم قواعد اللعب وأي خطأ ستكون له انعكاسات سلبية ليس فقط على التجربة الحالية ولكن على المراحل القادمة التي ربما ستجد نفسها مكبلة بسوابق من الصعب تداركها إذا لم يتم الحسم فيها اليوم. نعم، في المغرب الجميع على وعي تام بأنه رغم التنصيص الدستوري في الفصل الأول على أن نظام الحكم المغربي نظام ملكية دستورية برلمانية واجتماعية، فإننا لم نصل إلى ملكية برلمانية حقيقية بعد. وأقصى ما يمكن أن نقول هو أننا وصلنا إلى ملكية شبه برلمانية، لكن من الضروري التنبيه على أن النخب السياسية التي تؤمن بالإصلاح في إطار النظام السياسي القائم في حاجة ماسة اليوم إلى أن تؤسس قناعاتها في اتجاه ترسيخ قواعد الملكية البرلمانية التي تجسد فيها معاني الديمقراطية الحقيقية، من قبيل الفصل التام بين السلط وربط جميع السلط بالمراقبة والمحاسبة. خاصة وأن النص الدستوري الذي بين أيدينا يتيح إمكانيات هائلة للمضي في هذا الاتجاه. الملك رئيس الدولة بصلاحيات تحكيمية وسيادية إن الفصل 19 من دستور 1996 الذي كان يمثل للبعض دستورا فوق الدستور وساهم في تهميش دور المؤسسات في الحياة المؤسساتية، أصبح مقسما إلى فصلين هما: الفصل 41 و42. فالفصل 41 ينظم صلاحيات الملك باعتباره أميرا للمؤمنين، وينص على أن الملك يمارس هذه الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين والمخولة له حصريا بواسطة ظهائر، وفي هذا تحقيق لهذه الصفة، دون أن يعني ذلك بالضرورة حرمان البرلمان من حقه في مناقشة المجال الديني. كما أن الفصل 42 ينظم صلاحيات الملك بصفته رئيسا للدولة، فلم يعد الملك ممثلا للأمة بل أصبحت له صفة الممثل الأسمى للدولة. فضلا عن أن مقتضيات الفصل 29 في دستور 1996، الذي خضع للتعديل، تم إدماجه في الفصل 42، حيث نص على أن الملك يمارس المهام المخولة له بمقتضى الدستور صراحة وبواسطة ظهائر توقع بالعطف من طرف رئيس الحكومة، وهكذا لم نعد أمام فصل فوق الفصول بل فصلان ضمن باقي الفصول. وهو ما يعني أن الملك لا ينبغي له أن يقوم بأدوار تنفيذية بل يجب أن يقوم بأدوار تحكيمية. أما رئاسة الملك للعديد من المجالس فلا تتعارض مع الأدوار التحكيمية السامية ولكنها تساهم في حيادية هذه المؤسسات ولا تجعلها منفصلة عن بعضها البعض، الأمر الذي من شأنه أن يضمن التعاون بين المؤسسات أكثر. إن نظرية فصل السلط تكتسب أهميتها في ربط المسؤولية بالمراقبة والمحاسبة، والمهم في السياق المغربي هو أن تكون سلطات الملك بعيدة عن المجال التنفيذي. أما قيام الملك بالدور التحكيمي فمن شأنه أن يضمن السير العادي للمؤسسات ولذلك فإن هذا الدور مطلوب وسيستمر حتى في ظل ملكية برلمانية كاملة. فليس المطلوب من الملك أن يتنازل عن رئاسته لبعض المؤسسات فهو رئيس الدولة، ورؤساء الدول سواء في الملكيات أو الجمهوريات لهم اختصاصات سيادية حتى في الجمهوريات البرلمانية. إنما المطلوب هو أن لا تكون للمك اختصاصات تنفيذية. فالملك هو رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية وفي ذلك مصلحة مؤكدة لتعميق استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، كما أن الملك هو رئيس المجلس الأعلى للأمن، لكن ذلك لا يندرج ضمن المجال التنفيذي ولكنه من الصلاحيات السيادية والتحكيمية بالنظر إلى الاختصاصات التي ينص عليها مشروع الدستور بالنسبة للأمن القومي. وعندما ينص الدستور على أن الملك أميرا للمؤمنين وهو بهذه الصفة رئيس المجلس العلمي الأعلى فهذا ليس فيه أي مس باستقلالية العلماء على عكس بعض التأويلات في هذا الباب. إن القصد من رئاسة الملك لهذه المؤسسة هو ضمان حيادها وإبعادها عن التقاطب الحزبي، وليس معنى ذلك منعها من الانخراط في المجال العام والقيام بمهامها في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إن حضور الملك على رأس هذه المؤسسات لا يمكن أن تكون له إلا وظائف إيجابية ما دام لا ينتج عنه سلطات تنفيذية، على اعتبار أن هذه الأخيرة هي التي تثير إشكالات حقيقية وليس السلطات السيادية أو التحكيمية. نعم هناك بعض المقتضيات التي تكرس بقايا الملكية التنفيذية في الدستور الجديد من قبيل سلطة الملك في إعفاء الوزراء، لكن في بعض الملكيات البرلمانية الأوربية التي تتضمن دساتيرها سلطات ذات طبيعة تنفيذية للملك، لا يتم اللجوء إليها، بحيث إن الممارسة الديموقراطية تطورت في الاتجاه الذي يقوي من مكانة رئيس الحكومة ويجعل منه المسؤول الأول عن مؤسسة الحكومة ، وهو ما يؤكد ضرورة تدشين تقاليد جديدة تسمح بتطوير الممارسة الديموقراطية في اتجاه الانسحاب التدريجي للطابع التنفيذي للمؤسسة الملكية، كما يدعو إلى اعتماد التأويل الديموقراطي الذي ينزع نحو تقوية الطابع البرلماني في الممارسة السياسية. رئيس الحكومة هو رئيس السلطة التنفيذية إن ما يؤكد ما ذهبنا إليه هو ما نص عليه الباب الخامس من اختصاصات هامة لمؤسسة الحكومة ورئيسها. في هذه النقطة حصل تطور هام ففي هذا الباب الذي جاء تحت عنوان "السلطة التنفيذية" يتم الحديث عن مؤسسة الحكومة فقط مع غياب واضح للملك، وهو ما يعني أن الملك ليس جزءا من السلطة التنفيذية، وأن الاختصاصات التي يمارسها بصفته رئيسا لمجلس الوزراء ينبغي قراءتها باعتبارها مهاما مرتبطة بوظائفه التحكيمية والسيادية المشار إليها سابق باعتباره رئيسا للدولة، ولا ينبغي تأويلها في الاتجاه الذي يضعنا أمام ممارسة تنفيذية تفتقر إلى آليات المحاسبة والمراقبة. وهو ما يتأكد مع نص الفصل 89 على ما يلي: "تمارس الحكومة السلطة التنفيذية. تعمل الحكومة، تحت سلطة رئيسها، على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين. والإدارة موضوعة رهن تصرفها، كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية"، وبموجب التعديلات الجديدة فإن رئيس الحكومة يمارس السلطة التنظيمية ويعين في الوظائف المدنية في الإدارات العمومية، وفي الوظائف السامية في المؤسسات والمقاولات العمومية، وهو ما يعني إرجاع العديد من المؤسسات العمومية إلى منطق التبعية للحكومة وإخضاعها للسياسة العامة للدولة التي أصبحت من اختصاص مجلس الحكومة قبل عرضها على المجلس الوزاري. لقد أصبح مجلس الحكومة يتداول/ يقرر في السياسات العمومية والسياسات القطاعية وفي القضايا الراهنة المرتبطة بحقوق الإنسان وبالنظام العام وفي مشاريع القوانين ومنها قانون المالية الذي تعرض توجهاته العامة بالمجلس الوزاري وفي مراسيم القوانين وفي مشاريع المراسيم التنظيمية وفي المعاهدات والاتفاقيات الدولية قبل عرضها على المجلس الوزاري وفي تعيين الكتاب العامين ومديري الإدارات المركزية في الإدارات العمومية ورؤساء الجامعات والعمداء، ومديري المدارس والمؤسسات. كما أن التعيين في بعض الوظائف داخل المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك،ينبغي أن يتم في دائرة المقترحين من طرف رئيس الحكومة، وبمبادرة من الوزير المعني، وذلك في الوظائف المدنية التالية: والي بنك المغرب، والسفراء والولاة والعمال، والمسؤولين عن الإدارات المكلفة بالأمن الداخلي، والمسؤولين عن المؤسسات والمقاولات العمومية الاستراتيجية. إن المكانة التي يحتلها رئيس الحكومة في الدستور الجديد تجعل منه الرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية إذا حرص على ممارسة مهامه الكاملة كما هو منصوص عليها دستوريا، فاقتراح أعضاء الحكومة يمثل سلطة حقيقية لا يمكن للملك أن يعين من خارجها، وهي سلطة كاملة لا استثناء فيها ولا وجود فيها ل"بدعة" وزراء السيادة، فجميع الوزراء، وفق المنطق البرلماني، يتمتعون بالسيادة الشعبية لأن الحكومة بأكملها منبثقة عن الإرادة الشعبية.. كما أن تعيين والي بنك المغرب والولاة والعمال والسفراء ومديري المؤسسات العمومية الاستراتيجية لا يخرج عن دائرة الرغبة التي يعبر عنها رئيس الحكومة من خلال سلطة الاقتراح. إن سلطة الاقتراح هي سلطة حقيقية وهي سلطة سيادية كاملة لرئيس الحكومة، وليس المقصود بها اقتراح من يُقترحون عليه، وليست مرهونة بمبادرة أي وزير. إن مبادرة الوزير المعني في التعيينات لا تمثل سلطة مستقلة بذاتها قادرة على رهن اختيارات رئيس الحكومة ولكنها مبادرة محكومة بتوجيهات رئيس الحكومة واختياراته الكبرى، التي على أساسها قام باقتراح الوزراء أنفسهم على الملك قصد تعيينهم، ويمكن لرئيس الحكومة في هذا المجال أن يحدد للوزير المعني نوعية هذه المبادرة وشكلها والمواصفات التي يبحث عنها، كما أن الإدارة بمجموعها رهن تصرف رئيس الحكومة لتزويده بما يحتاجه من معلومات في هذا الباب. إن دلالات تعيين رئيس الحكومة من الحزب الأول واعتماد التنصيب البرلماني في تشكيل الحكومة تبرزان بالضبط في مثل هذه المحطات. النظام البرلماني مدخل محاربة الفساد إن العلاقة بين رئيس الحكومة والملك من جهة وعلاقة مجلس الحكومة بالمجلس الوزاري من جهة أخرى، ينبغي أن تتميز بتدشين تقاليد جديدة بين المؤسستين مطبوعة بالتعايش. هذا التعايش الذي ينبغي أن يتم بناء على معيار واضح هو: النظام البرلماني الذي يباشر فيه الملك مجموعة من المهام المرتبطة بوظيفة التحكيم والإشراف العام على السير العادي لمؤسسات الدولة بينما تقوم الحكومة بممارسة سلطتها التنفيذية الكاملة فيما يتعلق بتحديد السياسة العامة للدولة، وبالمقابل تتحمل مسؤوليتها الكاملة أمام البرلمان انسجاما مع قاعدة الربط بين تعيين رئيس الحكومة ونتائج الانتخابات التشريعية لمجلس النواب، ومع قاعدة ربط المسؤولية العمومية بالمحاسبة ومع تقوية سلطة رئيس الحكومة على الوزراء بصفته رئيسا للسلطة التنفيذية ووضع حد للازدواجية القاتلة بين سلطة الدولة وسلطة الحكومة، وهكذا فإن رئيس الحكومة بمقتضى التعديلات الجديدة هو رئيس السلطة التنفيذية ويتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة وعلى الإدارة العمومية ويتولى قيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي، كما يوقع على الأعمال الملكية بالعطف طبقا لما يحدده للدستور، حتى يتحمل رئيس الحكومة مسؤوليته الكاملة باعتباره رئيسا للسلطة التنفيذية. إن من يدافعون عن التفسيرات التي تضفي طابعا تنفيذيا على القرارات الملكية إنما يدفعون بها إلى الممارسة اليومية المحفوفة بالأخطاء والمخاطر أيضا ويعرضون هيبتها و"قداستها" يوميا للتقييم والمحاسبة. كما أن تضخم مظاهر الفساد في الحياة العامة، وخاصة منه الفساد الذي يتحصن بالمؤسسة الملكية التي يكن لها المغاربة كل الاحترام والتقدير، هو الذي يؤكد ضرورة المضي في ترسيخ قواعد النظام البرلماني. الملكية البرلمانية هي النظام الذي يسمح بمساءلة ومحاسبة كل من يملك السلطة أو يتحمل مسؤولية عمومية، وهو النظام الذي لا يسمح بإمكانية استغلال البعض لقربهم من الملك لممارسة التعليمات ومباشرة اختصاصات من خارج المؤسسات التي تشتغل في النور لتصفية حسابات مع المخالفين... وهو النظام الذي يسمح بتدبير عادل لثروات البلاد بواسطة المؤسسات المنتخبة، وهو النظام الذي يسمح بانتخابات لها معنى... مشروع الدستور الجديد قطع نصف الطريق وأسس لملكية شبه برلمانية..ولكن اعتماد التأويل الديموقراطي وتوفر إرادة حقيقية للإصلاح هما شرطان أساسيان لتحسيس الناس بالتغيير الذين هم في حاجة ماسة إليه. *عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية