الاختيارات الأساسية للمراجعة الدستورية الإقرار الدستوري للديمقراطية كثابت غير قابل لأية مراجعة، إذ فضلا عن المقتضيات المتعلقة بالدين الاسلامي وبالنظام الملكي، لأول مرة تم اعتبار الاختيار الديمقراطي والمكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية، اختيارا لا رجعة فيه. إضافة الطابع البرلماني لتوصيف نظام الحكم بالمغرب الذي أصبح نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية، كترجمة للفكرة العامة لهذه المراجعة والمتمثلة في تعزيز التأويل البرلماني لنظامنا السياسي، من خلال تكريس أقوى لقضية المسؤولية السياسية وربط السلطة بالمحاسبة، وربط القرار السياسي بصناديق الاقتراع. الحسم الدستوري لإشكالية مصدر السلطة، حيث السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء، بصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها مع ربط التمثيل بالاقتراع الحر والنزيه والمنظم، وهو ما يعني إعادة تعريف البرلمان كمؤسسة لا تنازعها أية سلطة في وظيفة التمثيل السياسي للأمة، خاصة مع إعادة تعريف وظيفة الملك كممثل أسمى للدولة. اعتبار الهوية المغربية الوطنية، موحدة بانصهار مكوناتها الأساسية: العربية الاسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها المتعددة، مع الإقرار بالأمازيغية كلغة رسمية للدولة والتزام الدولة بصيانة الحسانية والعمل على انسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية. ترقية وظيفة الحزب السياسي، من مجرد مساهم في تأطير المواطنين، بمعية الجماعات المحلية والغرف المهنية والنقابات، الى مؤسسات تعمل على التأطير والتكوين السياسي وتعزيز انخراط المواطنين في الحياة الوطنية وتدبير الشأن العام، والتعبير عن إرادة الناخبين والمشاركة في ممارسة السلطة، مع الإقرار الدستوري ببعض المبادئ الأساسية لحرية الأحزاب وضمانات عملها مثل التنصيص على التدبير الديمقراطي لتنظيمها الداخلي، وعلى أنه لا يمكن حلها إلا بواسطة القضاء، مع ترقية قانون الأحزاب الى قانون تنظيمي. تكريس مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية، التي صادق عليها المغرب، على التشريعات الوطنية وحماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء. التوجهات الأساسية للمراجعة: أولا: إقرار دستور الحقوق: تعتبر فكرة حقوق الإنسان، فكرة مهيكلة لكل مشروع الدستورالمراجع، انطلاقا من الاختيارات الكبرى للتصدير، وداخل كل الأبواب والمقتضيات المتعلقة بجميع المؤسسات. لكن أساسا فإن هذا المشروع انخرط عمليا في مقاربة جيل دساتير الحقوق التي بالقدر الذي تنظم السلط، فإنها تفصل في مسألة الحقوق. إذ تم تخصيص باب كامل (الباب الثاني) للحريات والحقوق الأساسية، تضمن 21 فصلا، جاءت لتعزيز مبدأ المناصفة والمساواة والحق في الحياة والسلامة الشخصية وتجريم التعذيب وقرنية البراءة، والحق في المحاكمة العادلة وحرية الفكر والرأي والتعبير، والصحافة والحق في الولوج الى المعلومات وحريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات والانتماء النقابي والسياسي وحق الإضراب وحق التصويت والترشيح للانتخابات. كما تم إفراد فصل خاص للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (الصحة، الحمايةالاجتماعية، التعليم، السكن، الشغل...) مع تغيير في الصياغة يربط بين استفادة المواطنين من هذه الحقوق وبين عمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل لتحقيق ذلك. وبكثير من التدقيق، تم التنصيص كذلك على حقوق فئوية تهم الأسرة، والشباب والمعاقين. ثانيا: إعادة تحديد سلط ومهام المؤسسة الملكية: تقدم المراجعة فصلا واضحا بين صفتي أمير المؤمنين والرئيس الدستوري للدولة.حيث أصبح الملك كأمير للمؤمنين يرأس المجلس العلمي الأعلى ويمارس اختصاصاته الدينية المتعلقة بهذه الصفة والحصرية، بمقتضى ظهائر. إن تحديد اختصاصات إمارة المؤمنين في الصلاحيات الدينية، وحصرها في منطوق الفصل 41، يعني بالأساس أن هذه الصفة لن يعود بإمكانها السماح للمؤسسة الملكية بالحلول محل البرلمان في مجال التشريع، وهذا ما من شأنه الجواب على إشكالية الفصل 19 من الدستور الحالي وتعزيز مبدأ سمو الوثيقة الدستورية. أما الفصل 42 فيتحدث عن اختصاصات رئيس الدولة وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة وضامن دوام الدولة والحكم الأسمى بين مؤسساتها، الذي يسهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي وحقوق وحريات المواطنين والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة. هذه الاختصاصات ذات الطبيعة السيادية والتحكيمية تمارس هي الأخرى في حدود فصول الدستور، بمقتضى ظهائر. وتعزيزا لفكرة المسؤولية، فإنها وحدها الظهائر المتعلقة بالصلاحيات الدينية، وتعيين أعضاء بمجلس الوصاية وتعيين رئيس الحكومة وإعفائها وحل البرلمان أو أحد المجلسين، والموافقة على تعيين القضاة وإعلان حالة الاستثناء، وتعيين ستة أعضاء بالمحكمة الدستورية وعرض مشروع مراجعة الدستور، لا توقع بالعطف. مما يعني أن الأصل هو توقيع الظهائر من قبل رئيس الحكومة. تقدم هندسة المراجعة الدستورية، توزيعا للاختصاصات الملكية كالتالي: اختصاصات دينية مرتبطة بإمارة المؤمنين. اختصاصات سيادية متعلقة بالمجال العسكري والتمثيل الأسمى للدولة. اختصاصات تحكيمية. اختصاصات التوجيه الاستراتيجي وقضايا الأمن والخارجية. وإذا كانت الاختصاصات الدينية تدخل في المجال المحجوز للمؤسسة الملكية، شأنها في ذلك شأن الاختصاصات السيادية، فإن الاختصاصات ذات العلاقة بالمجال التنفيذي، بما في ذلك مجالات التدبير الأمني والخارجية، قد أصبحت تدخل في باب المجال المشترك بين الملك والحكومة، هذه الاخيرة التي أصبحت تتوفر دستوريا على اختصاص تداولي في قضايا السياسة العامة للدولة، كما أصبح بإمكانها اقتراح المسؤولين على إدارة الأمن الداخلي والسفراء والولاة والعمال. ثالثا: تقوية صلاحيات السلطة التشريعية وإعادة التوازن بين المجلسين رغم استمرار نظام الثنائية، فإن التوجه العام للمراجعة يروم إعادة بناء توازن جديد بين المجلسين في اتجاه منح أولوية واضحة لمجلس النواب في التسريع والرقابة. من حيث الصلاحيات، فقد تم توسيع مجال القانون بشكل ملحوظ، مع إضافة صلاحيات جديدة للمبرلمان تتجلى في تقييم السياسات العمومية، وفي إلزام جميع المؤسسات الوطنية، هيئات الحكامة والضبط، بتقديم تقارير سنوية تناقش أمام مجلس النواب. المعارضة أصبحت تتوفر على وضع خاص، بحقوق واضحة وأساسا من خلال تخفيض عتبات التوقيعات اللازمة للولوج إلى آليات الرقابة البرلمانية والإحالة على المحكمة الدستورية. فضلا عن إقرار مقتضيات لتخليق العمل البرلماني عن طريق حصر الحصانة في الرأي السياسي، ومنع الترحال. رابعا: انبثاق جديد لمؤسسة الحكومة ولرئيسها يشير مشروع الدستور إلى أن الحكومة تمارس السلطة التنفيذية، وأنها تعمل تحت سلطة رئيسها الذي لم يعد مجرد زميل أول بين زملائه الوزراء، مكلف فقط بمسؤولية التنسيق. توضع تحت تصرفها الإدارة، لكنها كذلك تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية. قراءة المشروع توضح إلى أبعد حد أن الحكومة مسؤولة أساسا أمام مجلس النواب، نعم الملك هو الذي يعين رئيس الحكومة، لكنه يفعل ذلك استجابة لقرار صناديق الاقتراع، نعم الملك هو الذي يعين الوزراء لكنه يفعل ذلك باقتراح من رئيسها. وأكثر من ذلك فإن تعيين الملك للحكومة، لا يجعلها منصبة. إذ أصبحت صلاحية التنصيب من اختصاصات مجلس النواب عن طريق التصويت بالثقة. لقد تعززت استقلالية الحكومة عن الملك من خلال مؤشرين: المؤشر الأول: التشكيل الذي أصبح مرتبطا بالمنهجية الديمقراطية وبحق رئيس الحكومةفي اقتراح الوزراء (لابد من الإشارة إلى الأسئلة التي تطرحها الفقرة الثالثة من الفصل 47، القاضية بإمكانية الملك أن يعفي عضوا أو أكثر من الحكومة بعد استشارة رئيسها، وهذا المقتضى لا يبدو متلائما مع المنطق العام للمراجعة. فالملك الذي ليس من حقه دستوريا إعفاء رئيس الحكومة، يمكنه إعفاء أحد الوزر اء؟. - المؤشر الثاني: يرتبط بالصلاحيات الذاتية التي صارت تملكها الحكومة، دون الرجوع إلى المجلس الوزاري من خلال: - السياسات العمومية - السياسات القطاعية - طلب الثقة.. - قضايا حقوق الإنسان والنظام العام - مشاريع القوانين - مراسيم القوانين - تعيين الكتاب العامين ومديري الإدارات المركزية ورؤساء الجماعات... خامسا: التأسيس لتوجه ديمقراطي تشاركي اعتبر الفصل الأول من الدستور أن من مقومات النظام الدستوري المغربي، إضافة الى فصل السلط وربط المسؤولية بالمحاسبة، الديمقراطية المواطنة والتشاركية. لذلك فإلى جانب أدوات النظام التمثيلي، وقنوات الأحزاب والانتخابات والمؤسسات التشريعية والجماعية، أصبح بإمكان المواطن المشاركة المباشرة في تدبير الشأن العام. تتجلى هذه الإرهاصات الأولى للفكرة التشاركية من خلال: - دسترة وظيفة المجتمع المدني، كمساهم في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية. - إحداث السلطات العمومية لهيئات التشاور، قصد إشراك امختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية وتفعيها وتنفيذها وتقييمها. - إقرار المساهمة الممكنة للمواطنين في تقديم اقتراحات في مجال التشريع. - دسترة تقنية عرائض المواطنين الموجهة للسلطات العمومية. - إقرار آليات لمساهمة المواطنين في تدبير الشأن العام المحلي عبر التشاور والحوار، والمقاربة التشاركية والعرائض الموجهة للجماعات الترابية. - إقرار نظام للحكامة مبني على شبكة من المؤسسات الوطنية، المبنية على مرجعية قيمية تتعلق بمعايير جودة وشفافية ومسؤولية المرافق العمومية، هذه المؤسسات التي تشتغل في مجالات حقوق الإنسان والجالية والمناصفة والنزاهة والشباب والأسرة والطفولة والعمل الجمعوي.. أصبحت هي الأخري خاضعة لتأويل المنطق البرلماني، إذ أن السلطة التشريعية هي التي أصبح من اختصاصها ، تحديد قواعد تأليفها وتنظيمها وتسييرها.