صيف السنة الحالية أثيرت في المغرب القضية التي "اتهم" فيها وزير المالية في الحكومة السابقة صلاح الدين مزوار وخازن المملكة نورالدين بن سودة، بتبادل مبالغ مهمة من التعويضات المالية كل من موقعه، هذه التي اعتبرت من طرف الجهات الحقوقية بأنها نهب سافر و صريح للمال العام . وزير المالية السابق لم يدَع الفرصة تمر، و استغل كل المنابر الإعلامية التي أتيحت له ليدافع عن استحقاقه لهذه التعويضات و يؤكد في كل مناسبة أنه كان و سيبقى "رجل دولة" ...إلخ. مفهوم "رجل الدولة" الذي تقمصه مزوار في دفاعه عن نفسه، هو في الواقع مفهوم يثير في النسق السياسي المغربي إشكاليات كبرى. هذه الإشكاليات التي يسكن و يخمد النقاش الذي يمكن أن تثيره، في ظل التطبيع الحاصل مع كثير من المفاهيم السياسية الرائجة، دون أن تتاح فرصة لتبين المراد منها و تحديد مدلولاتها و متعلقاتها. بعيدا عن التساؤلات التي تطرح بالتزامن مع هكذا تصريح من قبيل: هل ما إن يكن الفرد رجل دولة حتى يرفع عنه القلم؟. هل صفة رجل الدولة في المغرب تقف مانعا دون المتابعة القضائية عند حدوث ما يدعو إليها؟.هل هي صيغة من صيغ الحصانة؟.هل صفة رجل الدولة وشم يثبت لصاحبه في أي موقع كان أو سيكون؟. نترك جانبا هذه التساؤلات التي لها وجاهتها بدورها. لنتساءل بشكل أعمق: ما المقصود برجل / رجال الدولة في النسق السياسي المغربي؟. و ما هي الإشكالات التي يمكن أن تتقد جذوتها بالنبش في رماد دلالة المفهوم؟. شأن كل المفاهيم المرتبطة بالممارسة السياسة و الفكر السياسي، لا نعثر على دلالة متفق عليها لمفهوم رجل الدولة حتى لدى الأمم التي قطعت أشواطا طويلة على درب الممارسة الديمقراطية. فعندما تقول أحد المعاجم الفرنسية (Le Robert): "Homme , Femme d'Etat ; personne qui a ou peut avoir un rôle très important dans l'Etat" فإنها في الواقع لا تحدد شيئا. في المغرب و عطفا على كون المفهوم ليس له أصل دستوري و لا أساس قانوني، نجد أن مما تعزى له صعوبة التحديد الدلالي لهذا المركب اللفظي، وجود مفهوم "الدولة" فيه. فالدولة كمفهوم منفصل؛ هو في النسق السياسي المغربي كما في غيره من الدول حديثة العهد بالممارسة السليمة للسلطة على درجة كبيرة من الغموض؛ غموض تتعزز حدته أكثر بالمضاف إليه الذي أفرز لنا مفهوم "رجل الدولة". و من ثم فاختصار خطوات التحليل يقتضي رصد المفهوم في دلالته الواقعية الفعلية، بعيدا عن الدلالة التي تراكمت في الأدبيات السياسية. بناء على هذا الاختيار الإيبيستيمولوجي يمكن أن نقول أن الدولة في المغرب و بعيدا عن تعريف الجيوبوليتيك القائل أن الدولة أناس ومجال و سلطة حاكمة هي "النظام"، و بالمفهوم الذي يعرف المغاربة حق المعرفة، الدولة هي "المخزن"؛ ومن ثم فرجل الدولة هو "رجل المخزن"وهو الذي يعبر عنه باللسان الدارج ب"ولد المخزن"، وهو من المفاهيم التي تسمو فيها العامية المغربية على اللغة العربية في دقة الدلالة على حقيقة المراد. فأن يقول قائل في المغرب رجل دولة، أكيد أن كلامه سوف يتلبسه قدر من الغموض، لكن عندما يقول ولد المخزن، فليكن على يقين أن المعنى سيفهم و الرسالة ستصل وقد وصلت!. جرى العرف في المغرب على إطلاق مفهوم "ولد المخزن" على كل شخص يخدم السلطة الحاكمة، التي ليست شيئا آخر غير القصر، سواء من المحيط المقرب لهذا الأخير أو من موقع أبعد. و بهذا الاعتبار يكون آخر عبد السميع (مخبر أو مقدم) تابع لوزارة الداخلية رجلا للدولة!. و إذا كان ماكس فيبر قد خلص في فكره السياسي إلى أن رجالات الدولة لا يأتون أو هذا هو المفروض على الأقل إلى مواقع السلطة من فراغ، بل هم نخبة تفرزهم الاختيارات الصعبة و المواقف و الظروف الحرجة و فوق ذلك هو رجالات الإنجازات. إذا كان ذاك كذلك فإن رجل الدولة في المغرب لا يكون كذلك إلا بمقدار ما يضع نفسه رهن إشارة النظام/ المخزن. هذا في الواقع يكشف لنا ثلاث مفارقات من مفارقات الممارسة السياسية في المغرب في ارتباط بموضوعنا. المفارقة الأولى: كثير ما ردد الخطاب الرسمي في المغرب أن المفهوم الأحدث/ المنشود للدولة، هو أن تكون هذه الأخيرة "دولة مؤسسات". غير أن التطبيع مع مفهوم رجال الدولة بالمعنى المحلي، يجعل هذا الخطاب يبدي من الأماني ما لا يرغب أصلا في تحقيقه؛ كما أنه في ظل الدلالة السائدة لمفهوم رجل الدولة في النسق و الفكر السياسي المغربي، يبدو جليا أن هذا البلد يؤثر أن تستمر الدلالة العتيقة للمفهوم حيث كان هذا الأخير في بداية تشكله حكرا على النخبة من الأعيان ورجال الدين الموالين للسلطان. و من ثم فالمغرب عاجز عن سبق إسرار من الجهات المعلومة، عن صياغة نموذج سياسي يحذو حذو الديمقراطيات العريقة في دلالة المتميزة لرجل الدولة في بنيتها السياسية، و يصر على عدم إخراج المفهوم من شرنقة قاموس الانتربولوجيا السياسية لبلاد المخزن، حيث نجد العلاقة بين السلطان و ممن ذكرنا من الاعيان و رجال الدين، توطدت من خلال وصل الأول للتاليين بالهبات و العطايا، و من خلال ولاء هؤلاء المطلق للأول. و لعله من نافلة القول التأكيد أن خلق النظام لرجاله الموصوفين برجال الدولة، كان و لا يزال حقيقة من أهم وسائل كسب الشرعية و الإخضاع للنفوذ؛ لذلك نجد أن رجل / رجال الدولة كمفهوم لا وجود له في الأماكن التي ظلت عصية عن سلطان المخزن مثل منطقة الريف و الصحراء؛ و كل فرد سولت له نفسه الإقتراب من هذه الدائرة من أفراد هاته المناطق، كان يوصم بالخيانة، و تعقد له المحاكمات، و تاريخ منطقة الريف بالمغرب ناطق بكل هذا. المفارقة الثانية: في المغرب قد يكون الرجل رجل دولة و إن مع كونه في صف المعارضة، ما دامت المعارضة متجهة للحكومة لا للنظام!. كما أن رجل الدولة يخدم هذه الأخيرة من موقع المعارضة أحيانا أكثر مما يخدمها من أي موقع آخر. و للمغرب قصة مع الأحزاب الإدارية و لم يعد سرا السياقات التي تم تشكيلها فيها و لا الأهداف التي أريد لها تحقيقها. إن هذا الواقع السياسي الذي يحتفظ فيه الشخص بصفة رجل الدولة و إن مع تغير موقعه بين الحكومة و المعارضة، يساق في المغرب على أنه برهان على تداول السلطة، و من مظاهر عافية الممارسة السياسية في البلاد، بيد أنه لا يعدو كونه تبادلا للأدوار أحيانا اختياريا و أحيان عكس ذلك فقط لخلط الأوراق أمام من يعارض النظام و لا يعارض الحكومة، في المعارضة كان أو في أي موقع آخر. إذن فرجال الدولة ليسوا هم المحافظين بالتعبير السياسي، فحسب، بل رجال الدولة في النسخة المغربية قد يوجدون في الطرف الآخر الطرف المعارض، لكن المعارض المعترف به، ما دام صف المعارضة في هذا البلد أطياف و مستويات. و من ثم فليس برجل دولة من ترنم بمعزوفة معارضاتية لا تقبلها ألحان "دار المخزن" (مثال ذلك معارضة العدل والإحسان و أطياف اليسار الموصوف بالراديكالية)، فحتى المعارضة في هذا البلد مفصل لها كيف ينبغي أن تكون. و السؤال هو: ما يمنع أن يكون رجل الدولة من صف المعارضة غير المرضي عنها، إذ ليس كل معارض في المغرب يرغب في تغيير النظام وإسقاط الملكية، و ليس بصوت الأغلبية وحده تحيا الدول و الأمم؟. هل كل من يسعى لمزيد من الديمقراطية و حقوق الإنسان و محاربة الفساد من صف المعارضة لا يستحق هذا اللقب؟. أليس تحقيق كل هذا يندرج بتفاصيله الكثيرة في مفهوم العدل الذي هو أساس الملك أو بمعنى أصح دوام هذا الأخير، وهو ما ينبغي أن يكون هدف كل غيور على وطنه رجل دولة كان أم لم يكن؟. لست أعلم إن كان من الأسف أن أقول، بأن إسرائيل تمدنا من خلال تجربتها الديمقراطية بنموذج للتحليل غني في هذا الباب. وجه استحضار هذه التجربة هو السؤال التالي: من يستطيع أن ينكر أن ليبرمان مثلا لما كان معارضا شرسا (و هو عندنا من عصابة بني صهيون ) هو عند اليهود رجل دولة، بل من أقواهم؟..إنها المصلحة العليا للوطن إذا، المحدد القطب لمن يسمى رجل دولة، أما الاختلاف في "كيف" ذلك ، فهذا في مثل هذا النظام مكسب و ليس خسارة. قد يقول قائل لماذا نعطي إسرائيل هنا كنموذج و المغرب بتجربته التاريخية و السياسية الحالية على الأقل، تتحقق فيه الدلالة مضمون المثل، أليس إلياس العمري يقف حاليا باعتباره عضوا في حزب الأصالة و المعاصرة في طابور المعارضة، ومع ذلك لا خلاف حول كونه رجل دولة؟. أليس صلاح الدين مزوار يقود حاليا حزبا معارضا اسمه التجمع الوطني للأحرار وهو من يصرح في كل مناسبة أنه رجل دولة؟. أظن أن هكذا اعتراض يبلغ من السطحية ما لا يستحق بسببها الرد عليه. المفارقة الثالثة: و فيها تنعكس الآية، إذ في هذه الأخيرة، نجد شخصا أو أشخاصا هم من الأغلبية الحاكمة و مع ذلك لا يروج نعتهم برجال الدولة، وهنا المفارقة!. لقد حملت رياح الثورات الأخيرة في بلدان شمال إفريقيا و الشرق الأوسط حزب العدالة و التنمية إلى سدة "الحكم" في المغرب، ومع ذلك لا يسمى وزراء هذا الحزب برجال الدولة؛ اللهم ما كان من باب ما درجت عليه بعض الجهات في الخطاب!. بتأمل بسيط يمكن أن نقف على أسباب هذه المفارقة. قلنا في سابق الأسطر أن رجل الدولة في المغرب هو "ولد المخزن"، في حين وزراء حزب العدالة و التنمية و بغض النظر عن ما يقال عن أمينه العام ، ليس يُعرف عنهم أنهم كذلك. و فوق كونهم ليسوا أولاد المخزن، تلازمهم وصمة الإسلاميين الذين كانت و لا تزال تتوجس منهم الأنظمة. فالجهة التي تُقبل على مضض في "مقاسمة" السلطة لا يمكن أن يكون منها رجال دولة!.(كان ذلك سابقا مع بعض الزعامات اليسارية) لذلك تذهب كثير من التحليلات إلى أن إخوان بن كيران يواجهون حاليا امتحانا على مستويين اثنين: امتحان الإكراهات التي يواجهها المجتمع المغربي، و التي وعد حزب رئيس الحكومة بمعالجتها، و امتحان اختبار حسن النوايا لأنهم إسلاميون، وكون من يباشر السلطة إسلاميا يثير حساسية في كل الاتجاهات، و في هذا السياق يمكن أن تفهم عدم منازعة بن كيران لبعض الاختصاصات الملكية في الدستور الجديد، و إصراره على تقديم تقرير عن علاقته بالقصر و طمأنة من لست أعرف، على أن علاقته به دائما على ما يرام!. بيد أن النظام الذي لا يثق بأحد، لم و لن يكون على استعداد لخسارة من أي طبيعة كانت، فمن لا يضمن أن يكون له رجل دولة، فلا مندوحة من أن يصنع منه "رجل جولة" يمر به إلى بر الأمان من تقلبات و أمواج المرحلة، في انتظار أن تعود الدولة إلى رجالها!!. باحث بسلك الدكتوراه صحافي بإذاعة كاب راديو طنجة