الانتقال من مرحلة وجودية و تاريخية إلى أخرى، أو ادعاء حدوث هذا الانتقال يقتضي حدوث تحولات جذرية تجعل المرحلة اللاحقة؛ صحيح أنها قد تكون امتداد للتي قبلها، لكنها تقطع صلتها بسابقتها على مستويات كثيرة، قياسا على التحولات التي تقع عند الانتقال من فصل إلى آخر من فصول السنة. و عليه فعندما يصنف المغرب ضمن البلدان التي امتد إليها زحف ما سمي بالربيع العربي عربي و إن كان لم يغطي غير بلدان معدودة من الجغرافيا العربية وعندما نستحضر حجم التحولات التي وقعت في هذه البلدان بين مرحلة ما قبل الربيع و ما بعد هذا الأخير، نتساءل عن نصيب المملكة المغربية من هذه التحولات حتى ندخلها بدورها في زمرة البلدان الربيعية. مغرب ما قبل الربيع و مغرب ما بعد الربيع ...هل من تغيير يذكر؟. (نؤثر لضرورات موضوعية في هذا المقال أن نستخدم مفهوما سياسيا مغربيا خالصا هو مفهوم "المخزن" ذي الدلالة الخاصة و المكثفة). الربيع في كل البلاد التي زحف عليها أحدث تغيرات جذرية في موازين القوى بها، بوأ فاعلين جدد مركز الصدارة في سُلمية القرار السياسي، عادت السلطة إلى الشعب بعد طول انتظار، تم القطع بسببه و تحت ضغطه مع مراحل سابقة بكل تجلياتها، أطيح فيه بالاستبداد....و السؤال هل حدث شيء من هذا في المغرب؟. إن التتبع الدقيق لتعاطي المغرب سياسيا مع رياح العربي، يقودنا للحكم و دون مزايدات لغوية إلى خلاصة مفادها أن لاشيء تغير في هذا البلد تحت تأثير الثورات العربية الأخيرة !. لا يهمنا هنا ما روجت له بعض الجهات عن كون المغرب يشكل نموذجا "فريدا" في التعاطي مع المتغيرات الإقليمية، وأن قيادته الرشيدة، استطاعت تدبير المرحلة بحكمة مشهودة، فهذا كلام للترويج الإعلامي أغلبه مدفوع الثمن قبل أن تلتقطه وكالة المغرب العربي للأنباء، و تسبح بحمده منابر إعلامنا العمومي و الخصوصي. صحيح أن المغرب شكل "نموذجا فريدا" في التعاطي مع التحولات الأخيرة، لكن ليس بالفهم الذي تسوق له هذه الجهات، وإنما فرادة التعاطي المغربي تتمثل في كونه البلد الوحيد من بلدان محيطه الإقليمي، الذي تضاعفت فيه قوة "الطبقة الحاكمة" إن صح هذا التعبير و تعزز موقعها، أكثر مما كانت عليه قبل الثورات العربية. و عليه فإن المتتبع للحالة المغربية زمن الربيع العربي.. لا يجب أن يركز بعيني تتبعه على الطرف الذي كان من المفروض أن يتأذى برياح التغيير، و إنما و عكس المآلات الأخرى لباقي نسخ الربيع العربي، يجب على هذا الأخير أن يرصد ما آلت إليه أوضاع المعارضة و الانتكاسة التي منيت بها القوى التي كان من المفروض أن تستفيد من هكذا وضع، و التي لا نظن أن لها استطاعة أن تستعيد وهجها في الأجل المنظور، و هنا تطرح مجموعة من الأسئلة!. كيف استطاع المخزن أن يركب الوضع و يستغل المرحلة لصالح ليخرج منه أكثر قوة، أصلب عودا و أثبت عمادا؟. كيف استطاع المخزن أن يطوع القوى التي كانت معقد الأمل في التغيير، و يحولها إلى قوى محافظة أكثر من المخزن ذاته و حاشيته و المستفيدين من طبيعة النظام الذي يفرزه؛ قوى بالأمس كانت على استعداد لتقديم قرابين بشرية لإله السياسة حتى تقتسم السلطة مع ولي الأمر، و اليوم يعرض عليها هذا الأخير جزءا مما كانت تنافسه عليه سابقا فتأبى وتتمنع، و تتخذ موقف النبي يوسف في لحظة الغواية!. كيف استطاعت مجموعة من المفاهيم / المقولات التي روجتها الآلة الدعائية للمخزن بمختلف أذرعها، أن تقود هذا الأخير إلى بر الأمان في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ شمال إفريقيا و الشرق الأوسط، و على رأس هذه المفاهيم، مفهوما التغيير في ظل الاستقرار و الاستثناء المغربي؟. و من غريب الأمور أن الذي روج لهذه المفاهيم أول الأمر لم تكن وكالة المغرب العربي للأنباء، وكالة الأنباء الرسمية بالمغرب، و إنما الذي روج لها هي أقلام في جرائد القوى اليمينية المحافظة كجريدة "العلم" لسان حال حزب الاستقلال، وخصوصا – على سبيل المثال في عمود "مع الناس" للكاتب الصحفي عادل بن حمزة، و بعد ذلك، و بعد حسم الصراع الانتخابي لصالح حزب العدالة و التنمية، في مقالات كثيرة بجريدة التجديد و خصوصا على سبيل المثال دائما مقالات الكاتب بلال التليدي. ما الذي تغير في سلطات و نفوذ الملك و المؤسسة الملكية حتى بعد إلغاء الفصل 19 من دستور 1996؟. في لحظة صدق مع الذات لا شعورية، كثيرا ما تنتاب الساسة المغاربة عند الوقوف أمام معادلة سياسية و تدبيرية صعبة، و دون استشعار لدلالة المفهوم، لا يفتأ الفاعلون السياسيون (كراكيز العملية السياسية في المغرب/ نستحضر هنا قول ابن كيران:"أنا لست سوى رئيس حكومة") يرددون بأن تحريك الملف أو القضية الفلانية وقف على توفر "الإرادة السياسية"! ما معنى مفهوم الإرادة السياسية في النسق السياسي المغربي؟. معناه بكل بساطة المبادرة الملكية... إن هذه المبادرة و هذه الإرادة وحدها هي التي تملك "الحل و العقد" في هذا البلد. لقد تتبعنا إثارة عدد من ملفات الفساد في البلاد، هذه الملفات تختنق في ضجيج اللغط الذي يحوم حولها. لكن لماذا ملفات الفساد التي يحركها و يثيرها الفاعل السياسي الأقوى لا تقف في وجه طريقها للمحاكم عقبات و لا عراقيل (ملف الأمنيين والجمركيين بالمعابر الحدودية)، فيما ملفات الفساد الأخرى الأضخم، تطوق بمبدأ "عفا الله عما سلف... باستحضار الدور التحكيمي لشخص الملك، ألم يكن من ثمار "الربيع العربي" مغربيا أن تعزز موقع المؤسسة الملكية في زوايا لم يكن لها فيه حضور سابق على الأقل بالكثافة الحالية (تدخل الملك في حسم الخلاف حول دفاتر تحملات القطب الإعلامي العمومي). ما دلالة استمرار شخص الملك و المؤسسة الملكية في الهيمنة على القرار السياسي و المشهدية السياسية بشكل عام؟. بحيث لوحظ أن بعض نشرات أخبار القنوات العمومية لا يكون فيها أحيانا غير عنوان واحد هو النشاط الملكي هذا اليوم. مع تسجيل مؤشر آخر يتمثل في استمرار طقوس الملكية السابقة دون إلغاء شيء منها (ما يسمى حفل البيعة و الولاء). لكن كل هذا يغدو مفهوما إذا علمنا أن مسألة الملكية لم تطرح أصلا للنقاش في ظل هذه التحولات حتى من قبل التيارات الراديكالية، بل بموازاة ذلك تم الترويج لحصول إجماع مغربي على ما سمي "التغيير في ظل الاستقرار"، مع الترويج لتسمية خطاب 9 مارس بالخطاب التاريخي، و الإصرار على وصف المبادرات و الاستجابات الملكية لمطالب الشارع بكونها كانت أكبر و أعلى من سقف المطالب الشعبية، و هنا حسمت المسألة دون السماح بالتقاط الأنفاس لتبين صحة هذا الإدعاء الفج. لماذا ضعفت و استكانت قوى المطالبة بالتغيير، بل حتى الحركة التي وصفت بكونها تجسيدا لنبض الشارع التواق إلى التغيير تزامنا مع الربيع، تم احتواؤها هذا إذا لم نقل أنها إن لم تكن صنيعة مخزنية، فإنها نمت تحت رعايته و في كنفه وأمام ناظريه؟. إن قوى المعارضة المغربية في ارتباط بهذه التحولات، منها ما جُر إلى سلطة وهمية و صورية كما نتابع الآن، فخسر بالتي مساحات شاسعة من الشارع الذي ليس على استعداد للتعاطف إلا مع الصف المعارض في اللعبة السياسية، تأكيدا لثابت بنيوي في العقل السياسي المغربي. لقد استفاد المخزن من اعتماد بعض فصائل المعارضة على آليات و أدبيات سياسية عتيقة في التعاطي مع الحالة ومتطلباتها التي اقتضت منطقا لآخر للتدافع السياسي، و من ثم شكل تشتت صف المعارضة في مواقفه و حساباته ورهاناته، ألواح السفينة التي استطاع النظام أن يعبر بها إلى بر الأمان، و في الحقيقة لم يكن واردا و لا متوقعا أن يحدث غير ذاك. وما اعتبره البعض من مكتسبات المرحلة في سياق التفاوض السياسي، لا يفوق بكثير ما تخطفه الضباع من أفواه الأسود، إنه لا يعدو كونه عظاما تلهي و لا تغني. هذا دون أن ننسى أن بعض فصائل المعارضة لم تضفر حتى بهذه العظام، و إنما اكتفت بإحراج مرحلي للنظام، قبل أن تجد نفسها و هي تعيش في حالة حيرة و تصدع و انقسام، اكتفت تحت قهر واقعها فقط و لم تكن تملك غير ذلك بتوجيه نقد كلاسيكي للفاعلين السياسيين الذين يتصدرون المشهد؛ لا لتكتسب نقاط في النزال و إنما فقط لتثبت أنها ما تزال على قيد الحياة وقادرة على المناوشة و المناورة، لعبتها المفضلة. حاصل القول، أن الخصوصية المغربية تتمثل لا في فرادة الحالة فحسب، و إنما في ضرورة استحضار آليات خاصة للفهم و التحليل. عندما نحلل حالة المغرب ووضعه إبان الربيع العربي و بعده، لا ينبغي للحظة أن ننسى أننا بصدد نظام سياسي يجدد مفاهيمه حول مفهوم جوهري هو مفهوم المخزن. إن شأننا في هذا شأن الإخوة في أرض الكنانة. لقد أبدع المصريون خلال ثلاثين سنة في شتى النظريات السياسية في بلد ظل طيلة هذه الفترة محكوما بمفهوم واحد هو "نظام الطوارئ". إن من الخطأ قراءة تغير مجتمعي بمفاهيم تغير مجتمعي آخر، من الخطأ قراءة تغير سلمي أكبر ما يمكن أن يوصف به هو كونه إصلاحا بمفاهيم الثورة. إن قراءة تسلك هذا المسلك إن كانت صادرة عن حسن نية فهو حسن نية مع جهل و إن كانت ناتجة عن سوء نية فلا شك أنها تنبني على مغالطة يراد منها الترويج لأشياء كل المغاربة يعلمونها و كلهم يجهلونها أو يتجاهلونها. كم كان عبد الهش باها "ضمير بن كيران" حكيما حين قال في مؤتمر شبيبة العدالة و التنمية الأخير بمدينة طنجة:"حاسبونا بمنطق الإصلاح و ليس بمنطق الثورة"!!. و إذا استحضرنا أن كل فاعل سياسي في المغرب يدشن "دولته" في الحكم و السياسة بقوله تعالى:"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت"، أدركنا حقيقة المرحلة، و تمكنا من الإجابة على السؤال الذي هو عنوان هذا المقال. طالب باحث في سلك الدكتوراه صحفي بإذاعة كاب راديو بطنجة.