أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ورقة تقدير موقف تناولت الوضع المغربي الراهن، وتطوراته الممكنة مستقبلا، وجاءت تحت عنوان "ما بعد الانتخابات التشريعية المغربية". استهل المركز الذي يتخذ من العاصمة القطرية الدوحة مقرا له، الدراسة بمقدمة وضحت سياقات الانتخابات المغربية الأخيرة، ومن ضمنها المواقف الدولية الإيجابية من العملية، رغم نسبة المشاركة الضعيفة باستحضار الإصلاحات التي أطلقها الملك محمّد السّادس في التّاسع من آذار/مارس 2011. وعلى الرّغم من أنّ أوّل انتخابات تشريعيّة في المغرب تعود إلى سنة 1963، عندما كانت بقيّة دول الجوار ترزح تحت حكم الحزب الواحد، وعلى الرّغم من أنّ الحياة السّياسيّة المغربيّة تميّزت بطابعٍ تعدّديّ منذ ذلك الحين، فإنّ القصر احتفظ على الدّوام بدور لاعب رئيس مسيطر، تحكّم في تشكيل الخريطة السّياسيّة، وفي ضبط قوانين اللّعبة وتأطيرها ضمن حدودٍ معيّنة يعرف بقيّة اللّاعبين كيف يقفون عندها. ولا تشكّل الانتخابات التّشريعيّة الأخيرة استثناءً حقيقيًّا من جملة السّياق السّابق الذي كان من نتائجه تحجيم قوّة الأحزاب ومدى تأثيرها في الحياة العامّة، بما فيها حزب العدالة والتّنمية. ويعتقد المركز أنه خلافًا للتّقاليد السّياسيّة في الدّول اللّيبراليّة، التي تستمدّ فيها الأحزاب نفوذها وقوّتها من قاعدتها الشّعبيّة، يؤكّد تاريخ الأحزاب المغربيّة أنّ قوّة الحزب في السّاحة السّياسيّة هي التي يستمدّها من القصر. فكلّما كانت مواقف الحزب السّياسيّة وأدبيّاته منسجمة مع الإرادة الملكيّة، ضمن لنفسه حضورًا أكبر في مؤسّسات الدّولة، سواء بصفته الرّسميّة، أو من خلال رموزه وقياداته التي يختارها الملك عادةً لتتقلّد مسؤوليّات كبيرة في المؤسّسات. ويعرّف الدّستور المغربيّ الجديد الحزب السّياسيّ بما يلي: "تعمل الأحزاب السّياسيّة على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السّياسيّ، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنيّة، وفي تدبير الشّأن العامّ، وتساهم في التّعبير عن إرادة النّاخبين، والمشاركة في ممارسة السّلطة، على أساس التعدّديّة والتّناوب، بالوسائل الدّيمقراطيّة، وفي نطاق المؤسّسات الدّستورية". وأضاف: يستوقفنا في هذا التّعريف مقطع: "تساهم في التّعبير عن إرادة النّاخبين والمشاركة في ممارسة السّلطة". لا يبيّن الدّستور المغربيّ الجديد معنى الشّراكة وأطرافها. فهل هذه الشّراكة تهمّ سلطات الملك أم تعني تقاسم السّلطة مع أحزابٍ أخرى؟ والواضح أنّ الحزب السّياسيّ في المغرب لا "يحكم" بقدر ما يُعدّ "شريكًا" فقط في "ممارسة السّلطة". هذه المعطيات تحدّ في السّياق الحالي من قدرة أيّ حزب سياسيّ مغربيّ على إحداث تغيير حقيقيّ في معادلة الحكم، على الرّغم من نتيجة الانتخابات التي أتت بلاعبٍ جديد من المعارضة. وهنا نشير إلى موقف حركة 20 فبراير والأطراف المساندة لها، والتي تضغط من خارج المؤسّسات من أجل تغيير جذريّ في قواعد هذه المعادلة، وترفع شعار "ملكيّة برلمانيّة تكون فيها السّيادة للملك والحكم للشّعب"، على أساس فصلٍ بين السّلطات، ومنافسة حرّة بين القوى السّياسيّة على تمثيل النّاخبين بهدف الوصول إلى الحكم وتنفيذ برنامج محدّد، تضمن ذلك كلّه قوانين تربط المسؤوليّة السّياسيّة والإداريّة بالمراقبة والمحاسبة. وتؤكد الدراسة إلى أن المؤسّسة الملكيّة أو ما يُعرف ب"المخزن" في المغرب تتمتع بالقدرة الكبيرة على الاحتواء، وهي مهارة مكّنت الملكيّة من عبور مراحلَ صعبة من تاريخها. وفي هذا السّياق يستحضر مراقبون تجربة التّناوب التّوافقيّ التي أدخلت المعارضة بقيادة الزّعيم اليساريّ عبد الرّحمان اليوسفي إلى الحكومة عام 1997، حيث كان المغرب مهدّدًا ب"سكتة قلبيّة" كما عبّر الملك الرّاحل الحسن الثّاني، وكان القصر في حاجة إلى جسر يؤمّن انتقال مقاليد الحكم إلى محمّد السّادس، وهو ما حصل بالفعل، وانتهى في 2002 بعودة التّكنوقراط، واعتراف المعارضة اليساريّة بفشلها وأنّ ما حدث لم يكن تناوبًا ديمقراطيًّا. لكن ما يمثّله الرّبيع العربيّ اليوم من ضغوط على أكثر من بلد لم تقع فيه إصلاحات سياسيّة أو تغيير ديمقراطيّ هو ظرف "أخطر " بكثير على حكم تقليديّ أوتوقراطيّ من الظّرف الذي اضطرّ فيه الملك إلى قبول معارضيه اليساريّين. مرّة أخرى، أظهرت المؤسّسة الملكيّة مرونةً وسرعةً في التّجاوب مع الظّروف. فاضطرّت إلى القبول بانتصار حزب العدالة والتّنمية وقيادته لحكومة جديدة، بعد أن قضى أربع عشرة سنة في المعارضة البرلمانيّة، وفي محاولات متكرّرة لإثبات قدرته على تحمّل المسؤوليّة و جدارته بثقة الملك. وهو ما جعل الحزب يتحاشى ممارسة معارضة سياسيّة تُحْرج القصر. وتحت عنوان "التّوازنات الصّعبة" تؤكد الدراسة أن تحقيق توازن قوّة مع سلطة الملك في المغرب هو رهانٌ يعتبره العديد من المراقبين صعبًا جدًّا. ويبقى تحدّي عبور المرحلة عند المؤسّسة الملكيّة رهينًا بإقناع الحراك الشّعبيّ بالتّوقّف عن التّظاهر والاحتجاج في الفضاء العامّ، وانتظار نتائج حكومة العدالة والتّنمية. ولاتزال القوى المعارضة والمطالبة بإصلاحاتٍ جذريّة، تمثّل الرّقم الصّعب في المعادلة المغربيّة. فمن ناحية، مالم تستطع هذه القوى أن تحقّق تعبئة جماهيريّة فعليّة تتحدّى بها السّلطة بتحالفاتها التقليديّة مع "المخزن"، لن تصل إلى النّتيجة التي تريد. وإذا هادنت الحكومة، فهي ستصبح جزءًا من "اللّعبة". ومن ناحيةٍ أخرى، لن يستطيع القصر أن يستصحب هذه القوى في مشروعٍ وطنيّ يوفّر الجوّ المناسب لعمل الحكومة الجديدة ما لم تقع تنازلات من الجانبين. وضمن محور "امتحان العدالة والتّنمية" يرى المركز العربي للأبحاث أن أكبر العراقيل التي ستواجهها الحكومة الجديدة هي الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ في المغرب. فقد كشف تقريرٌ لبرنامج الأمم المتّحدة للتّنمية البشريّة لسنة2011 تراجع المغرب ب16 درجة في سلّم التّصنيف الدوليّ، ليحتلّ المرتبة 130 من بين187 دولة، والمرتبة 15 عربيًّا من بين 20 دولة عربيّة. أضف إلى ذلك الخسائر التي لحقت بالاقتصاد الوطنيّ في السّنوات الأخيرة، آخرها خسائر أربع شركات عموميّة هي: الشّركة الوطنيّة للطّرق السيّارة في المغرب، وشركة الخطوط الجوّية الملكيّة المغربيّة، والمكتب الوطنيّ للكهرباء. وسيكون حزب العدالة والتّنمية أمام اختبار كبير مقابل تدخّلات مستشاري الملك في الاختصاصات الحكوميّة، إضافةً إلى تحدّي التّأثير في القرار. فمفاتيح الحكم وتدبير الشّأن العامّ في المغرب لاتزال في يد الملك بموجب أحكام الدّستور. في حين أجملت الدراسة استنتاجاتها ضمن فقرة تقول: تختلف ظروف وصول العدالة والتّنمية المغربيّ عن باقي أحزاب "الإسلام السنّي المعتدل" في عناصرَ جوهريّة. فمثلا ارتبط وصول حزب العدالة والتّنمية التركيّ إلى الحكم بتحوّلٍ ديمقراطيّ عميق، تنازل فيه الجيش عن صلاحيّاته بحكم طبيعة المرحلة التّاريخيّة وضروراتها تحت ضغوط أوروبا التي فرضت شروطها لانضمام تركيا للاتّحاد الأوروبي. ولعلّه بالإمكان المقارنة بين دور الجيش في تركيا ودور "المخزن" في المغرب في نقطةٍ واحدة، وهي قدرتهما على التدخّل في الحياة السّياسيّة وضبط حدود اللّعبة. أمّا ما عدا ذلك، فهما على طرفي نقيض. ولا ننسى ما يمثّله حزب العدالة والتّنمية التركيّ من قوّةٍ اقتصاديّة اجتماعيّة داخل تركيا، وضعت يده على مفاتيح حاسمة في أيّ سباق إلى مواقع النّفوذ والسّلطة. وهو أمر لا ينطبق على حالة حزب العدالة والتّنمية في المغرب. وإذا ما نظرنا إلى الجوار العربيّ، سنجد أنّ أحزابًا كانت إلى زمنٍ قريب محظورة، أصبحت اليوم تقود السّياسة بعد الثّورة وتتحالف مع أحزابٍ علمانيّة لتشكيل الحكومة. ففي تونس، فاز حزب "النّهضة" بنسبةٍ مهمّة من الأصوات خوّلته قيادة الحكومة في الوقت الذي مكّنته من حصّة كبرى نسبيًّا في المجلس التّأسيسيّ الذي سينبثق عنه الدّستور التّونسيّ الثّاني. وفي مصر أسفرت الانتخابات الأخيرة عن فوزٍ كبير للإسلاميّين، ممّا زاد في تأثيرهم داخل البلاد. أمّا في المغرب، فإنّ وصول الإسلاميّين إلى الحكم لم يأت نتيجة ثورة وإنّما نتيجة لجملة من العناصر المركّبة تتمثّل في ضغوط الرّبيع العربيّ، وضغوط غربيّة، وضغوطٍ داخليّة سببها انسداد سياسيّ في غياب الإصلاح والتّغيير الدّيمقراطيّ، وتجاوب ملكيّ إلى حدٍّ ما مع المطالب الشّعبيّة ورغبة في الإصلاح، بالإضافة إلى غياب قوى سياسيّة ذات وزن عن ساحة المنافسة الانتخابيّة. وختم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ورقته بسيناريوهات جاءت كمايلي: * على افتراض أنّ القصر يمنح الحكومة الجديدة ثقته التامّة ويزيد على ذلك بمنحها صلاحيّات إضافيّة لم يمنحها في السّابق، فهذا سيضاعف من حظّها في معالجة المشاكل دون أن يؤدّي حتمًا إلى نجاحها بنسبةٍ عالية. سيكون النّجاح في كلّ الأحوال رهنا على الأقلّ بعنصرين: تجاوب القصر مع الحكومة، وتجاوب الحكومة مع الشّعب. في حالة غياب أحد هذين العنصرين، ستجد الحكومة نفسها عاجزة، وهو ما سيضاعف من قوّة المعارضة. وسينتهي الأمر بسقوط حكومة بن كيران، ومجيء حكومة أخرى. وقد تلعب الدّور الأساسيّ في هذا السّيناريو القوى "الخفيّة" المناورة من داخل "المخزن"، فضلًا عن المنافسين السّياسيّين الذين لن يسعدهم نجاح حكومة بن كيران في ما فشلوا فيه. * سيكون نجاح حكومة بن كيران رهينًا بتحقيق التّوازن مع المحيط الملكيّ، والتغلّب على جيوب مقاومة التّغيير، ثمّ إحداث تغيير يلمسه المواطن المغربيّ في حياته اليوميّة، ويستجيب لمطالب الشّباب والفئات المثقّفة، يبدأ برفع أجور العمّال والموظّفين وإنعاش الطّبقات المحرومة وإطلاق سراح المعتقلين السّياسيّين وتحويل ملفّات الفساد الاقتصاديّ العالقة إلى القضاء وإطلاق حريّة الصّحافة والتّرخيص للأحزاب السّياسيّة. ولكن يحتاج هذا السّيناريو المثاليّ إلى رفع سقف الإصلاح في المغرب كي يتحقّق. وهو لايزال موضع سؤال وموضوع مطالب الحراك الشعبيّ. وليس من الواضح وجود نيّة حقيقيّة إلى حدّ الآن في الاستجابة لتلك المطالب جملةً وتفصيلا. ومن ثمّ، فوضع الحكومة سيكون هشًّا، حيث تقع بين مطرقة الشّارع وسندان "المخزن". ومن ثمّ، سيتواصل الجدل في المغرب فترةً أطول، وقد يؤدّي إلى مأزقٍ أكبر يضطرّ معه القصر إلى اتّخاذ إجراءاتٍ مستعجلة، وتحميل الإسلاميّين مسؤوليّة الفشل. * هناك سيناريو ثالث، ولكنّه لا يزال بعيدًا. وهو أن تنفتح المؤسّسة الملكيّة نفسها على مطالب الذين يريدون أن يكون الملك فوق لعبة السّلطة والمعارضة، فلا يجازف بتأزيم النّظام حين تتأزّم الأوضاع الاجتماعيّة، ويكتفي بإعطاء توجيهاته لمن يختارهم الشّعب. وهذا أفضل الحلول على المدى البعيد، حيث يضمن استقرار الملكيّة في حين يصبح كلّ رجال السّياسة في البلاد خاضعين للمحاسبة، وهو ما يرضي الشّعب. ولكن من المستبعد أن يتحقّق في الغد القريب. للاطلاع على الدراسة كاملة، إليكم الرابط : http://www.dohainstitute.org