مرت سنة كاملة على انطلاق مسيرات عشرين فبراير ببلادنا، تغيرت أمور وبقيت أخرى على حالها، وفيما لا يزال النقاش دائرا حول مستقبل الحركة والحراك وإمكانية تطوير الأساليب الإحتجاجية، مع تزايد الإحتقان الإجتماعي، في ظل الوضع الإقتصادي الصعب الذي تمر منه البلاد، ثمة إجماع على أن الحركة ظلت طيلة السنة الماضية فاعلا قويا في الحياة السياسية بالرغم من أنها قاطعت الإستفتاء على الدستور والإنتخابات السابقة لأوانها. ورغم مرور أسابيع قليلة على تشكيل الحكومة الجديدة بقيادة حزب العدالة والتنمية الذي أتى إليها من المعارضة البرلمانية، فإن معالم المعادلة السياسية لمغرب الربيع العربي بدأت تتضح بناء على المعطيات التي أفرزها عام كامل من الحراك الشعبي والسياسي، ومدى تفاعله مع التراكمات التاريخية، السياسية والإقتصادية والثقافية. ولأنه من الصعب دائما التعاطي لقضايا يجد المرء نفسه طرفا فيها، فقد اختلفت وتضاربت القراء ات للوضع ببلادنا، من ذلك الذي يستبشر خيرا باستمرار الإستبداد ليقيه «شر الإسلاميين»، يدافع عن «الإستثناء المغربي» ويتوعد الدول الأخرى بشتاء دموي، إلى ذلك المعارض الذي ينطلق من تاريخ الخطاب السياسي الرسمي والنصوص الدستورية ليخلص إلى أن «الإستبداد مستمر» ولا وجود ل«إمكانية الإنتقال الديمقراطي»؛ يحتل الشارع ويطالب ب«ديمقراطية كاملة».. ومن بين التحاليل التي تحرت المنهج العلمي الدقيق، أطروحة الباحث هشام بن عبد الله العلوي، وبغض النظر عن اتفاقنا او اختلافنا مع المواقف السياسية للأمير، فإن التشخيص الذي أورده في محاضرته الأخيرة في باريس، يبقى أقرب إلى تحري التوازن والإستقلالية! ذهب المحاضر إلى كون الملك ما يزال يحتفظ بالآليات الرئيسية للسلطة، وبالمقابل يرى أن العلاقة بين القصر والحكومة ليست بالشكل التقليدي، أي الطاعة العمياء لرئيس الدولة. وربما لأنه تم اقحام جهات معروفة بولائها الكامل للمخزن لتدبير قطاعات أساسية داخل الحكومة، فإن الأمير أعاد صياغة العلاقة بين الحكومة والقصر في شكل تدافع بين «العدالة والتنمية»، الذي يقود الحكومة، والقصر من خلال المؤسسة الملكية والوزارات الموالية للمخزن. يعترف بوجود رغبة لدى القصر ولدى حزب العدالة والتنمية في تجاوز الأزمات، ويعتبر أن «إقبال القصر على وضع عراقيل امام العدالة و التنمية ستجعله في موضع اتهام بعرقلة التغيير، كما أن كل ضغط من الحزب على القصر قد يدفع الملكية الى وضع حد لهذه التجربة، الأمر الذي سيجعل حزب العدالة والتنمية في موقف حرج ويفقده المصادقية أمام المجتمع المغربي بسبب "الثقة الزائدة في المخزن"، وهذا سيضفي مزيدا من المصداقية على حركة 20 فبراير». وهكذا يصل المحاضر إلى أن العلاقة بين الطرفين علاقة تحكمها نظرية «الإختيار العقلاني»(1)، ووفقا لذات النظرية يخلص إلى أن «المغرب دخل مرحلة من التوازن اللامستقر ، حيث سيتم إيجاد حلول مؤقتة للنزاعات في إطار توافق سطحي. وأن التوازن اللامستقر» لن يصمد أمام المشاكل البنيوية التي لا تستطيع الملكية في وضعها الراهن ولا القوى المؤسساتية بما فيها الحزبية إيجاد حل لها». نتفق مع الأمير في ما ذهب إليه، بيد أنه لم يسهب في بالمشاكل البنيوية، من جهة المخزن على وجه التحديد، عملا بمقولة «أهل مكة أذرى بشعابها». بتفكيك بنية الطرفين، نجد أنفسنا أمام نزاع آخر، بين مكونات المخزن من جهة، وبينها وبين العدالة والتنمية من جهة أخرى، وتحكمه، أي النزاع، نظرية أخرى وهي «مأساة المشاع»، ليس بالصيغة التقليدية بل بصبغة أخرى. فإذا كان «البيجيدي» قواعد تنتخب وتراقب القيادات بشكل ديمقراطي شفاف بمن فيهم المرشحون للاستوزار، وتحت ضغطها، أي القواعد، والشارع المعارض طبعا، يضيق هامش المناورة الذي يتحرك فيه الحزب في إطار «التوافق السطحي»، فإن بنية المخزن أعقد بكثير. إنها ما يمكن وصفه ب«اللوبيات»، تستبد بالإقتصاد والثروة بمختلف أشكالها، وتستمد قوّتها من السيطرة على آليات صنع القرار السياسي والأمني والعسكري والإستراتيجي. وهكذا تجمع بين الثروة والسلطة، أو بالأحرى تسخر السلطة لحفظ وتراكم الثروة، مما يُسقط المشروعية على نمط الكسب، وهو ما يعبر عنه فقهاء القانون المشارقة بالتربح أو الكسب غير المشروع، إنه العمود الفقري للفساد الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه اللوبيات المخزنية هي تلك القوى نفسها التي تتحكم في مجلس المنافسة، وقوانين الحماية الإقتصادية، ومديرية الضرائب وتحول دون تفعيل المسطرة القضائية ضد المسؤولين عن الإختلالات المالية، ولعل أشهرها هي تقارير المجلس الأعلى للحسابات التي ظلت لفترة طويلة، ولا تزال، سجينة رفوف مكاتب صناع القرار. ولا يحتاج المرء إلى تخصص عال كي يدرك العلاقة بين تقهقر المغرب في تصانيف الفقر والتنمية البشرية خلال العهد الجديد، وتنامي الفساد، وتربح اللوبيات المخزنية، وهنا لابد أن نشير إلى أن تضاعف ثروة الملك عدة مرات قياسا بعهد والده الراحل، وتقارير البنك الدولي عن الأموال الهائلة المهربة الى الخارج، وما كشفت عنه برقيات ويكيلكس، ليس إلا الشجرة التي تخفي عيوب أشجار أخرى داخل دار المخزن دون أن ننسى التطور الذي شهدته بنية المخزن خلال العهد الجديد، بقدوم الوافدين الجدد، أي أصدقاء الملك كما بات يصفهم الجميع، وجهات أمنية عسكرية كانت لعبت دورا جوهريا في مرحلة انتقال الملك سنة 1999. وقد دخلت على خط الكسب هي الأخرى إلى أن باتت اسماؤها على يافطات المطالبين بالرحيل في شوارع المدن. واذا استحضرنا أن الملك نفسه «لا يستطيع إنصافك إذا ظلمك أحد الطغاة المحيطين به، مسامير الميدة»، بالحرف نقلا عن احمد بن الصديق، الذي هو الآخر إلى جانب زكريا مومني وخالد الوذغيري وغيرهم من ضحايا تلفيق التهم واصطناع الملفات، علاوة على ما ذكر آنفا، فإن العلاقة بين اللوبيات المخزنية، التي حولت المغرب إلى «ضيعة للكسب غير المشروع»، تحكمها نظرية «مأساة المشاع»(2)، والغلّة ها هنا ليست بالمعنى التقليدي المعروف، بل بالمفهوم القيمي الأخلاقي. وثمة أكثر من مؤشر على بداية استنزاف «الضيعة»، أي بداية النزاع في إطار «لعبة المشاع». تردّي الوضع الإقتصادي وتزايد الإحتقان، وعجز الحكومة عن شراء السلم الإجتماعي وتلبية مطالب الحركات الإحتجاجية الفئوية. تطوّر الوعي السياسي وموجة التغيير التي تجتاح البلاد وإصرار الشارع على المطالبة بإصلاحات سياسية ومحاكمة رموز الفساد. المؤشر الثالث ذو بعد سيكولوجي في النظرية المذكورة، وهو الأهم على المدى المتوسط، إذ أن كل طرف لن يتنازل لغيره عن أي فرصة للمزيد من الكسب، مثلما لن يسمح بالمس بمصالحه دون الآخر. ولأن البيجيدي في إطار مكافحة الفساد سيصيب بعض الرؤوس، فإن هذه الأخيرة لن تقف مكتوفة الأيدي وسترد كل مرة عبر مراكز نفوذها داخل منظومة المخزن، بل مستعدة أن تنهج سياسة الأرض المحروقة على شاكلتها الخاصة. نحن إذن أمام نزاعين، «التوازن اللامستقر» بين الحكومة والمخزن، و«مأساة المشاع» داخل المخزن. الثاني لن يعجل فقط بسقوط الأول وإنما سيؤثر بشكل سلبي في مآلاته. وبعبارة أخرى فإن استمرار حكومة البيجيدي مسألة وقت، والملكية البرلمانية التي تطالب بها المعارضة، في ظل المشاكل البنيوية التي يعاني منها النظام المخزني، خيار مستحيل! إن الذي سيحدد مآل النظام السياسي، ونظريا خياره الوحيد للإستمرار، هو مدى مصداقية خطابه لدى الشارع المعارض في حال اصلاحات جديدة، خصوصا أن هذا الأخير يتهمه بعدم الوفاء بوعود التاسع من مارس، وخرق الدستور أكثر من مرة !