تمر التجربة الحزبية الراهنة في المغرب بمنعطف يكاد يكون هو الأخطر من نوعه عبر تاريخ المغرب المعاصر ، فالتعددية الحزبية في المغرب والتي أتت كاختيار واع ومسؤول تحقق الإجماع الوطني حوله ومايزال باعتبارها الوسيلة المثلى للقطع مع أنماط الحكم الشعبوي (السلطوي) الذي تغيب فيه الحقوق المدنية والسياسية الفردية وكذلك الحقوق الجماعية الاقتصادية والاجتماعية، حيث لاتكون هناك أية فرصة حقيقية فى ظل الحكم الشعبوي والشمولي لتنمية ثقافة ديمقراطية أو توفير الظروف الملائمة لتأسيس القيم الديمقراطية فى المجتمع ، كما تغيب في مثل هذه الأنماط من الحكم المؤسسات والآليات التى تمارس من خلالها المنافسة السياسية العامة. إلا أن تأثيث المشهد الحزبي المغربي بمفاهيم من قبيل حزب الملك أو حزب المخزن أو الحزب ألأغلبي في إشارة لما بات يسمى الوافد الجديد يطرح أكثر من علامة استفهام حول مآل هذه التعددية ومصيرها وما الذي يجعل الدولة تسعى للانقلاب – عن قصد أو غيره - على مكتسبات هذه التجربة الناشئة ووئدها في المهد؟ وهل تحتاج الملكية في المغرب لحزب ملكي أو حزب صديق الملك ؟ هل مازال النظام السياسي بالمغرب نسقا للمشروعيات التنازعية ؟ أم أن الإجماع حول الملكية إجماع هش إلى هذه الدرجة ؟ من هنا فإننا نقدم هذه المساهمة عن "حزب الدولة الذي يشكل خطرا على الدولة" لعلها تساهم فى إلقاء الضوء على هذه التجربة وما تنطوي عليه من دلالات وسوف نجيب فى هذه الدراسة على التساؤلات السابقة التي نلخصها في فكرة أساسية وهي ان الدولة المغربية باختيارها دعم تأسيس هذه التجربة الوافدة تكون قد اختارت عن سابق إصرار الانتقال من التعددية إلى الحزب الواحد أو الحزب الأغلبي . لهذه الأسباب مجتمعة سنناقش الموضوع منهجيا من خلال ثلاثة محاور : - رصد مجموعة من المظاهر والممارسات التي تؤكد أن حزب الأصالة والمعاصرة حزب الدولة أو بالصيغة الأدق حزب مخزني لايمكنه بذلك أن يقدم إضافة للمشهد الديمقراطي أو التجربة الديمقراطية الفتية . - هذا الحزب يشكل خطرا على الدولة بكل مؤسساتها بما فيها الملكية . الدولة وحزب الأصالة والمعاصرة : إن ارتباط حزب الأصالة والمعاصرة بدائرة القرار بالدولة ارتباط لايحتاج المتتبع إلى دلائل لإثباته وهو ارتباط يسيء للدولة أكثر من إساءته للحزب لأنه يضرب في العمق ماهيتها كمؤسسة متعالية على الصراع خصوصا في المغرب مع وجود نظام ملكي هو أحد ركائز الدولة وأعمدتها وفي الآن نفسه أحد أهم عوامل الوحدة والإجماع فمن التعاريف المتداولة عن الدولة أنها "كيان سياسي قانوني ذو سلطة سياسية معترف بها فى رقعة جغرافية محددة على مجموعة بشرية معينة" وهو تعريف رغم حجيته النظرية فإنه عمليا وواقعيا لا يساعدنا على تفهم كثير من الظواهر المحيطة بالدولة المغربية والمؤثرة فى ممارساتها. فالدولة ارتبطت في المخيال الاجتماعي المغربي – أو هكذا تمناها على الأقل - باعتبارها حكمًا بين الطبقات، أي أنها تتخذ موقعا يتعالى على الصراعات الدائرة فى قلب المجتمع، وهو الموقع الذي يمكنها من أن تتصرف كحكم محايد فى فض النزاعات والصراعات داخل المجتمع، وهو رأى أسس له هارولد ويلسون رئيس وزراء بريطانيا العمالي في السبعينيات عندما شبه الدولة بالسيارة قائلا إن من يكسب الانتخابات يحصل على مفتاح تحريك السيارة ويحق له الجلوس في مقعد القيادة ثم يوجه السيارة إما في اتجاه اليسار وإما فى اتجاه اليمين . إن السماح لحزب سياسي وافد باستغلال إمكانيات الدولة المادية والمعنوية – من خلال استثمار صفة حزب صديق الملك – وما جسدته الخرجات البروتوكولية لمؤسس الحزب قبيل الانتخابات الجماعية الأخيرة وهي أقرب إلى الخرجات والزيارات الملكية منها إلى خرجات رئيس حزب عادي ، ناهيك عن ما ثبت من خلال صور تداولتها بعض الصحف عن استغلال صورة الملك في بعض التجمعات الجماهيرية للحزب وكلنا يعلم أن الصورة واحدة من الوسائط الأساسية لصناعة المشروعية السياسية للحزب وكيف أن مشاهد لم نكن نراها إلا بين الملك وبعض رعاياه باتت تؤثث زيارات الهمة وبيد الله للمناطق من قبيل تلقي الاظرفة وحتى ظاهرة تقبيل اليد . تمكن الحزب من الحصول على أكبر فريق برلماني حتى قبل التأسيس الفعلي للحزب وبعدها السماح بترشيح منتسبين لأحزاب أخرى وخلال ولايتهم الانتدابية تحت اسم الوافد الجديد مما يشكل خرقا قانونيا جسيما لم تستطع المحاكم محاصرته مما يعني أن الحزب فوق القانون وحتى فوق الدولة باعتبارها المؤسسة الساهرة على تنفيذ القانون وحمايته . تمكن الأمين العام للحزب من رئاسة الغرفة الثانية للبرلمان في سابقة هي الأولى من نوعها على مر التاريخ الديمقراطي البشري منذ نشأته وهو الذي اختار أياما قليلة قبل ذلك الاصطفاف ضمن المعارضة مع احتفاظه بحقيبة وزارية - التعليم - سيتبين لاحقا أنها ورقة لضبط الإيقاع وربما الاطلاع بكيفية أو بأخرى على مجريات الاجتماعات الحكومية لأن الحزب أثبت في وقت سابق أنه يعتمد في آلياته لمراقبة المشهد الحزبي على الوشاية كما حدث في حالة مصطفى المنصوري فهو بوجوده في المعارضة يراقب العدالة والتنمية ومن خلال الحقيبة الوزارية يراقب حزب الاستقلال علما أن الحزب في الحقيقة يملك عمليا وبطريقة غير مباشرة أكثر من حقيبة إذا أخدنا بعين الاعتبار الوزراء أعضاء حركة لكل الديمقراطيين وعلى رأسهم رئيس الأحرار ووزير المالية مزوار. وللإشارة فقط فإن رئاسة بيد الله للبرلمان بهذه الطريقة العبثية قد شغلت المهتمين عن البحث عن الآلية التي تمكن من خلالها من الوصول لقبة البرلمان ممثلا لجهة كلميمالسمارة وهو الذي لايحظى فيها بأي امتداد قبلي أو شعبي مع العلم أن منطقة السمارة حيث يتركز نفوذه العائلي غير كافية لتمنحه مقعدا وبالتالي فقد مورست ضغوط غير مسبوقة ومن غير المستبعد إغراءات ووعود بمناصب سامية لبعض الأعيان بمدينة كلميم اضطر معها بعض المرشحين فوق العادة للانسحاب من التنافس لفائدة بيد الله وطبعا فقد كان للسلطة اليد الطولى في هندسة هذا المشهد مع ضرورة الإشارة إلى أن الهمة وبيد الله كانا زارا كلميم في ذروة الحملة الانتخابية وخصص لهما استقبال الأمراء لكن الحزب هناك لم يستطع أن ينال ولو مقعد واحد . التعيينات الأخيرة في وزارة الداخلية أكدت بالملموس أن عددا من الأعيان المنتسبين للحزب تمكنوا من الحصول على مقاعد سامية رغم افتقادهم للكفاءة والتجربة – حالة دبدا ابن أخ البرلماني عن حزب الأصالة والمعاصرة ببوجدور - وهو مايؤكد من جديد أن الحزب بات يتحكم في دواليب الدولة ليس فقط عن طريق عرابه فؤاد علي الهمة ولكن أيضا بواسطة رجل نافذ اسمه إلياس العمري الذي قيل أنه يدخل القصر الملكي دون استئذان . ومن المؤشرات التي تدل أيضا على هذا النفوذ المستعصي على الفهم لحزب ليس له أي امتداد تاريخي أو شعبي تمكنه من رسم خريطة توزيع أطر وزارة الداخلية والعمال بشكل خطير يمس سيادة ومصداقية الدولة بشكل كبير ولعل حالة العامل جلموس مهندس الانتخابات التشريعية بالرحامنة وصاحب المعادلة الشهيرة 3/3 حينما مكن الهمة من نيل ثلاثة مقاعد دفعة واحدة في واقعة تؤكد أن المستحيل ليس مطلقا أصيلا ومعاصرا ، الوالي هذا سيكافأ فيما بعد بتعيينه واليا على العيون فيما يشبه المهمة المستحيلة من أجل محاصرة نفوذ آل الرشيد بالعيون وإيجاد سبل تغلل آل بيد الله بالمنطقة . مؤشر آخر يؤكد أن الحزب ليس فقط حزب الدولة بل هو فوقها حيث أن بعض رجالاته والمحسوبين عليه بوزارة الداخلية أو من تواطؤوا لحسابه أو معه في إحدى المحطات الانتخابية تتم ترقيتهم حينما يتورطون في أعمال مشبوهة أو تحاصرهم الاحتجاجات بدل محاسبتهم وهنا سأسوق مثالين وهما والي وجدة الذي ألحق بوزارة الداخلية وجلموس الذي عين بالجديدة ومدير أكاديمية ماسة درعة الذي رغم تأكيد لجان الافتحاص لوجود خروقات جسيمة بالرفق الذي عهد له بتدبيره فإنه بقي لوقت طويل جاثما على أنفاس رجال ونساء التعليم بالجهة المذكور ة وحتى حينما اضطرت الوزارة لإعفائه فإنها فعلت ذلك بدموع سخية من كاتبة الدولة فيما اعتبر مؤشرا على أن الرجل لاسيحظى قريبا بمنصب أسمى من الذي كان به. هذه المؤشرات وغيرها من قبيل ماجرى من تدخل شبه مطلق للسلطة بعيد الانتخابات الجماعية ورسم خريطة التحالفات وفك أخرى كانت قائمة ، خدمة لأجندة الأصالة والمعاصرة - نموذج طنجة وووجدة - زوالذي تأكد جليا من خلال تسريبات ويكيليكس الأخيرة أنه ليس حزب العدالة والتنمية من يتهم الدولة بعد الحياد حتى بات ينعت بصاحب خطاب المؤامرة والمظلومية فكذلك المراقبين الدبلوماسيين الأجانب وعلى رأسهم الأمريكيين عاينوا الظاهرة ورصدوها وراسلوا رؤساءهم بشأنها . وهكذا يتأكد أن تأسيس الأصالة والمعاصرة لم يأت استجابة لحاجات بعض القوى الاجتماعية. بل إنه سيشكل الجناح السياسي للدولة علما أن الدولة هي الإطار الرئيسي الذي تمارس داخله السلطة السياسية لذا عليها أن تكون باستمرار الغاية النهائية لكل المتصارعين على القوة في أي مجتمع . أي أن الدولة هي في النهاية مجال للصراعات بين جماعات مختلفة يبغى كل منها السيطرة على مؤسسات الحكم لما يمكن أن تحققه هذه السيطرة من مزايا، وحتى تتم السيطرة لهذه الجماعات فإنها تحرص على إيجاد نوع من التوازن بينها وبين المجتمع من ناحية وبينها وبين العناصر الأخرى داخل جهاز الدولة من ناحية أخرى، وتلعب الأحزاب السياسية دوراً أساسيا في ذلك هذا ماينبغي أن يكون وهذا ماتقره التقاليد الديمقراطية لكن تجربة الأصالة والمعاصرة تلغي هذه الإمكانية وتضرب في العمق مكونين أساسين لتحقيق هذه الغاية ومؤشرين على سلامة البنية الديمقراطية وهما : مبدأ حيادية الدولة ومبدأ التنافسية والذين يؤسسان معا لمبدأ التعددية ويتأسسان عليها فالتعددية غاية ووسيلة في ذات الوقت . الأصالة والمعاصرة : حزب الدولة الذي يشكل خطرا على الدولة في البدايات الأولى لتشكيل جبهة تحرير الساقية ووادي الذهب أو مايعرف بالبوليساريو كانت من الأصوات تحدر المغرب من تنامي نفوذ الجبهة بالصحراء ولكن المسؤولين لم يأبهوا لهذه التحديرات والنتيجة معروفة . اليوم ربما يتكرر نفس السيناريو ولكن على نحو مختلف فالدولة خلقت حزبا كبيرا أصبح في زمن قياسي أكبر منها وحينما يصبح حزب معين أكبر من الدولة فإن أول ضحاياه سيكون هو الدولة نفسها لأن المنطق يفرض أنه لن يسخر نفسه خادما للأبد لكيان أقل منه قوة ونفوذا . ومن المؤشرات الدالة على أن الوافد الجديد يشكل خطرا على الدولة أسوق الأمثلة التالية على سبيل المثال لا الحصر : - من الوظائف الأساسية للدولة كما حددها رالف ميليباند Ralef Miliband الوظيفة الأيديولوجية: فالدولة تعمل على دعم الإجماع حول عدد من القيم التى تقبل بالتنظيم الأساسى للمجتمع وتضبط أى انحراف عن هذه القيم ولعل ما يجمع المغاربة هو اجماعهم على الملكية والاسلام لكن تخلي الدولة عن مبد أ الحيادية la neutralité de l etat واصطفافها إلى جانب حزب دون آ'خريشكل خطرا على الدولة نفسها وسيعيد المغرب إلى زمن المشروعيات التنازعية خصوصا مايتعلق بالملكية لأن إصرار حزب معين على الادعاء والتعامل على أنه يخدم مشروع الملك يوحي بأن الأحزاب الأخرى لا تخدم هذا المشروع أو هي ضده وهو كلام خطير وغير مسؤول الغرض منه جعل الملكية لاعبا عاديا إما يضطر للرد والنفي أو السكوت وبالتالي تأكيد الكلام وفي الحالتين معا ستنهار صفة الحكم التي تشكل جوهر الملكية والدولة كما أسلفنا. - -لقد اعتدى حزب الأصالة والمعاصرة على وظيفة الدولة في تدبير الشأن الخارجي وهي وظيفة تعني أن تقوم الدولة فى مواجهة المجتمعات الأخرى، حيث تسترشد بما تعتبره مصلحة قومية فى علاقاتها بالدول الأخرى وهنا يتذكر الكل أحداث المسماة مينتو حيدرا حينما خاطب الهمة اسبانيا من مدينة الداخلة قائلا : إما تساندوا المغرب في قضية الصحراء أو أننا سنوقف تعاوننا في قضايا الهجرة السرية والإرهاب والمخدرات ، خطاب وصفناه حينها – مقال السلوك الدبلوماسي المراهق – ونعاود وصفه بنفس النعت لأنه تصريح على قدر كبير من الخطورة ليس أقلها الإساءة لسمعة المغرب والإعلان أنه لايملك من عوامل القوة إلا الهجرة السرية والمخدرات والإرهاب وكأن المغرب يلعب الأوراق المذكورة بإرادته . كما اعتدى الحزب على وظيفة حماية الأمن والنظام أو ما يمكن تسميته بالضبط الاجتماعي، هي وظيفة الدولة وتتجلى في حماية النظام الاجتماعي .وهو ماحاول حزب الأصالة والمعاصرة القيام به . في أحداث العيون الأخيرة والتي أكدت النتائج الأولية والأخبار الواردة من هناك مسؤولية مباشرة للأصالة والمعاصرة ليس فقط من خلال أخطاء الوالي جلموس المحسوب على هذا الحزب ولكن أيضا من خلال تحركات مشبوهة للمدعو العمري بالعيون إبان وجود مخيم اكديم ازيك . وهو ما يدل على أن الحزب في سبيل صراعات حزبية ضيقة مع حزب الاستقلال مستعد للتضحية بأمن الدولة واستقرارها واللعب في ورقة حساسة جدا. وكلنا يعلم أن من أدوار الدولة الأساسية التي لايمكن أن تتخلى عنها لفائدة أي فاعل آخر – هي وظيفة الأمن والنظام . في كل الأحوال على الدولة أن تتمتع بدرجة عالية من الاستقلال النسبى تحتمها حقيقة تعدد الطبقات المتنافسة من أجل السيطرة على المجتمع، وتعدد الطبقات الخاضعة أيضاً، . ويعطى هذا الوضع للدولة إمكانية القيام بدور في التوفيق بين المصالح المتضاربة بما لا يخرج عن حماية المصالح الأساسية للطبقات الحاكمة ويبدو أن حزب الأصالة والمعاصرة قد تمكن في مناسبتين من زعزعة هذا الوظيفة الأولى حينما حاصر العدالة والتنمية بدعم من السلطة والثانية حينما حاول فعل ذات الشيء مع حزب الاستقلال في فاسوالعيون ولعل أخطر ما في الأمر هو حينما تسرب عن بعض الوسائل الإعلامية أن الملك تدخل لرأب الصدع بين الحزبين وهو تدخل إن صح ورغم نبله فإنه سيكون مؤثرا على مبدأ تعالي المؤسسة الملكية والدولة على الصراع السياسي ولعل ما حصل بالتايلاند من صراع بين أصحاب القمصان الحمر والقمصان الصفراء وتدخل الملك حينها وما ترتب عنه من تراجع الإجماع حول الملكية هناك خير مثال نستدل به على خطورة هذه الأفعال ومنها نستدل أيضا على أن حزب الأصالة والمعاصرة حزب الدولة الذي يشكل خطرا على الدولة. *أستاذ وباحث ومراسل صحفي