تختص الهيأة العليا للإعلام السمعي البصري بمهام حددها الظهير الشريف رقم 212-02-1 بتاريخ 31 غشت 2002 المحدث للهيأة و القانون 03- 77 بتاريخ 3 فبراير 2005 المتعلق بالاتصال السمعي البصري، ومنها نوظمة أو تقنين الإعلام السمعي البصري، الذي يشمل وظيفة المصادقة على دفتر التحملات الخاصة بالشركات الوطنية للاتصال السمعي البصري. وتباشر الهيأة في نطاق هذه الوظيفة سلطة التقنين من خلال اتخاذ قرارات تنظيمية ذات طابع عام مقرونة بخاصية الإلزام، تجاه الجهات المخاطبة، لما لها من سلطة تنظيمية فرعية مستمدة من قواعد قانونية يرتقي بعضها في السمو إلى المستوى الدستوري. وإذا كان الفصل 159 من الدستور، في ارتباطه العضوي بالفصل 165 من ذات القانون، قد أضفى على الهيأة طابع الاستقلالية كسلطة إدارية مستقلة، فإن التساؤل يطرح حول القيمة القانونية لقراراتها ومدى خضوعها للرقابة اللاحقة خاصة الحكومية منها. ويستمد هذا السؤال راهنيته في ظل عزم الحكومة على مراجعة دفاتر التحملات المصادق عليها وفي وقت تروج فيه أخبار حول إمكانية إيقاف سريان آثار هذه الدفاتر الجديدة بقرار حكومي. لقد تواضع الفقه والقضاء على أن مثل هذه الهيأة تدخل في خانة السلطات الإدارية المستقلة مادام أنها تتموضع داخل الجهاز الإداري للدولة بخصوصيات كاشفة لاستقلاليتها الوظيفية، وبحكم أنها غير متفرعة عن السلطة التشريعية ولاتنتسب إلى جهاز القضاء. وحيادا على ما هو قائم في فرنسا من اندراج مثل هذه السلطة الإدارية المستقلة في مفهوم الإدارة الموضوعة رهن إشارة الحكومة تبعا لما استقر عليه القضاء الدستوري الفرنسي(1)، فإن المجلس الدستوري المغربي قضى بصدد بته في المادة 182 من القانون الداخلي لمجلس النواب من خلال القرار عدد 12/829 في الملف 12/1356 بتاريخ 04 فبراير 2012 بما يلي: "وحيث إن المؤسسات والهيئات المذكورة في الفصول من 161 إلى 170 من الدستور، ومع مراعاة الطابع الاستشاري لتلك المذكورة في الفصول 163، 164، 168، 169 و170 ، تعد مؤسسات وهيئات مستقلة، إما بحكم ما ينص عليه الفصل 159 من الدستور من أنه" تكون الهيئات المكلفة بالحكامة الجيدة مستقلة" وإما بموجب الفصول الدستورية الخاصة بها، مما يجعلها لاتخضع لا للسلطة الرئاسية لوزير معين ولا لوصايته، الأمر الذي يمتنع معه تطبيق ما ينص عليه الفصل 102 من الدستور...... وحيث إنه تأسيسا على ما سبق بيانه، يتعين اعتبار ما تضمنته المادة 182 من أن المؤسسات والهيئات المذكورة تقدم أمام مجلس النواب وجوبا مرة واحدة على الأقل في السنة تقريرا عن أعمالها، ومن أن اللجان الدائمة المختصة تتولى مناقشة هذه التقارير بحضور رؤساء المؤسسات والهيئات المعنية مخالفا للدستور". ورغم قابلية قرار المجلس الدستوري للنقاش العلمي، فإن إلزامية قراره، لكل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية وفق ما تقرره الفقرة الأخيرة من الفصل 80 من دستور 1996( الذي أحال عليه بصفة انتقالية الفصل 177 من دستور 2011 )، يفضي في هذا المضمار إلى ترتيب النتائج القانونية التالية: - أن الهيأة للاتصال السمعي البصري كسلطة إدارية مستقلة( الفصل 165 من الدستور) لاتندرج في مفهوم الإدارة الموضوعة رهن إشارة الحكومة بتعبير الفصل 89 من الدستور، وبالتالي نكون أمام ازدواجية بين إدارات تابعة للإشراف الحكومي وأخرى تقع خارج دائرته كما هو حال هذه المؤسسة وباقي المؤسسات والهيئات المنصوص عليها في الفصول من 161 إلى 170 من الدستور. - السلطة التنظيمية لهذه الهيأة رغم طابعها الفرعي لاتخضع للسلطة الحكومية، ولا وجود لنص يكفل للحكومة حق الاعتراض على قرارات الهيأة وطلب قراءة ثانية مع استبعاد حق التعقيب عليها حسب ما انتهى إليه قضاء المجلس الدستوري. ولا تستقيم هذه النتائج القانونية، على وجه الخصوص، مع مبدأ مسؤولية الحكومة أمام الجهاز التشريعي عن الأنشطة والأعمال التي تباشرها الأجهزة الإدارية، ومن ضمنها السلطات الإدارية المستقلة التي تنتمي إليها الهيأة السابق ذكرها. ولما كان الأمر على نحو ما رتبه المجلس الدستوري من آثار قانونية على استقلالية الهيأة العليا للاتصال السمعي- البصري، فإن الوظيفة التقريرية في المجال التنظيمي، لهذه الهيأة تستدعي التوقف عندها لبيان الأثر القانوني الذي تحدثه قراراتها ومدى وجوب التقيد بها من لدن الأطراف المعنية. مما لاجدال فيه أن الهيأة، مع استثناء على وجه الخصوص وظائفها الاستشارية في أمور ذات صلة بمجال اشتغالها، تتخذ قرارات إدارية تنفيذية مؤثرة في الأوضاع القانونية: إنشاء أو تعديلا أو إلغاء أو إبقاء على حالة قائمة. ويترتب على ذلك في مجال النوظمة أو التقنين أن لها إمكانية فرض التزام أو إقرار حق معين إزاء المخاطبين دون اشتراط رضاهم مع لزوم احترامهم الإلزام القانوني المضمن في القرار دون نفي حقهم في مراجعة القضاء باعتبار أن القرار التنفيذي في قاموس القانون الإداري يتمتع بالامتياز المسبق privilège du préalable الذي يفيد أن القرار يفرض، إزاء المخاطبين به، تغيير المراكز القانونية بصفة فورية ( مع ورود إمكانية إرجاء جزء من الأثر أو كله إلى وقت لاحق كما هو الحال في دفاتر التحملات) انطلاقا من افتراض تناغم القرار التنفيذي مع حكم القانون مالم يثبت لاحقا خلاف ذلك. وتنتج عن الامتياز السابق بيانه القواعد التالية: - أن القرار ينفذ فوريا تطبيقا لقاعدة الخضوع المسبقl'obéissance immédiate - أن جهة الإدارة المصدرة للقرار تكون مطلوبة في دعوى محتملة وليست طالبة. - مجرد المنازعة لاتوقف تنفيذ القرار التنفيذي. ويتحصل مما سبق أن القرار الاداري يعد أداة قانونية تفصح عبرها الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري، شأنها في ذلك شأن باقي الإدارات العمومية، عن إرادتها المنفردة والملزمة في تغيير أو قيام وضع قانوني معين، بما لها من سلطة عامة، ابتغاء المصلحة العامة. ويتخذ القرار في مثل هذه الحالة وفقا لمقتضى القانون أو من أجل تفعيل حكمه، و يستلهم القرار الإداري التنظيمي قوته من مكانة القاعدة القانونية التي يتوخى تنزيلها وأيضا من الوضع المميز للمصلحة العامة المفترض توخيها في كل إجراء مماثل(2). و يتمتع قرار الهيأة التنظيمي بقوة الإلزام القانوني على نحو يجعله حائزا لقوة الشيء المقرر، بصفة مؤقتة، مع خضوعه للرقابة اللاحقة في شقيها الإداري والقضائي، وتنحصر هذه القوة في الشق المادي أو الموضوعي من خلال اعتبار القرار حجة على مضامينه الملزمة للأطراف المعنية الذين يقع على عاتقهم واجب الامتثال له(3). وغني عن البيان أن هذه القوة يمليها حسن سير المرفق العام وضرورة انتظام خدماته، وبالتالي أجمع فقه القانون الإداري على أن استمرارية المرفق العام تقتضي، من بين جوانب أخرى، أن تنتج مبدئيا القرارات الإدارية آثارها الفورية، ولو كانت غير مشروعة. وقوة القرار التنظيمي في هذا الصدد محكومة بعاملين أساسيين: - درجتها في التراتبية القانونية المرتبطة أصلا، بإعمال المعيار العضوي، بأهمية الجهة المصدرة التي هي في هذه الحالة سلطة إدارية مستقلة رقيت إلى مستوى مؤسسة دستورية( الفصلان 28 و 165 من الدستور). - سلطة القرار إزاء المخاطبين به، والتي هي نتاج الاعتبارين التاليين: . أن القرار التنظيمي يأتي بمقتضى القانون وتنفيذا له، وهنا مكمن القوة الموضوعية أو المادية للقرار التي تبقى مؤقتة مالم تصبح نهائية بتوافر القوة الشكلية التي تعني حصانة القرار من الطعن. . أنه رغم صدوره في باب تفعيل القانون، فإن قرار الهيأة العليا للاتصال السمعي- البصري لايكتسب ابتداء قوة نهائية بحيازته للقوة المادية دون القوة الشكلية(التي تستمد من فوات أجل الطعن أو استنفاد المتاح من الطعون) بصورة تجعله يقبل المناقشة أو المنازعة. وإذا كانت الاستقلالية الوظيفية للهيأة العليا للاتصال السمعي البصري لاتنفي خضوعها للرقابة، فإن الإشكال يثار حول الجهات المخولة قانونا بممارسة هذه الرقابة. بالرجوع لمختلف النصوص ذات الصلة بهذه الهيأة ومع لزوم استحضار قرار المجلس الدستوري الآنف ذكره، يمكن القول أن الهيأة تعد سلطة إدارية مستقلة تتبع للدولة التي يرأسها الملك، ويعتبر ممثلا أسمى لها عملا بموجب الفصل 42 من الدستور. ولما كان الأمر كذلك، فإنه يحق للمؤسسة الملكية ممارسة سلطة الرقابة لضمان حسن سير هذه السلطة الإدارية المستقلة إعمالا للفصل 42 من الدستور وما يستفاد من صريح الفصل 1 من الظهير الشريف رقم 212-02-1 بتاريخ 31 غشت 2002 المحدث للهيئة العليا للاتصال السمعي- البصري الذي نص على التالي: " تحدث بجانب جلالتنا الشريفة هيئة عليا للاتصال السمعي –البصري"، ودون إغفال الدلالة الدستورية العميقة لإحداث الهيأة بمقتضى ظهير في نطاق الفصل 19 من دستور سنة 1996. ويمكن تصور أشكال متعددة لرقابة المؤسسة الملكية في هذا الصدد، أهمها إمكانية طلب القراءة الثانية لقرار تنظيمي تصدره الهيأة في ميدان التقنين مع ما يكتسيه الطلب من طبيعة إلزامية باستحضار عمق الأبعاد القانونية للفصل 1 من الظهير رقم 212-02-1 وكذا إعمالا لقاعدة القياس من باب أولى على مقتضى الفصل 95 من الدستور. وفيما يتعلق بالحكومة أو الوزارة المشرفة على القطاع، فهي لاتعد جهة رئاسية ولاسلطة وصاية إزاء الهيئة العليا وفق ما ذهب إليه المجلس الدستوري في قراره المؤرخ في 04 فبراير 2012، وبالتالي لاتملك الحكومة حق التعقيب على القرار التنظيمي ولا التصرف في مضمونه ولا في تاريخ سريانه باعتبارها جهة مخاطبة يلزمها الامتثال لقوته الإلزامية، وتحتفظ الحكومة، في ظل المعطيات القانونية القائمة، بحد أدنى من الرقابة عبر ولوج ساحة القضاء لمناقشة أي قرار تنظيمي لا تستسيغه، شريطة أن يكون القرار غير مطابق كليا لارادتها المعبر عنها في مشروعها الذي تبت فيه الهيأة العليا. وتستمد الحكومة الصفة والمصلحة في التقاضي في السعي إلى تفعيل الرقابة القضائية من اعتبارات عدة أهمها مسؤولية الحكومة أمام البرلمان عن أنشطة الأجهزة الإدارية باستحضار أحكام الفصلين 89 و160 من الدستور. ويقتضي التأويل الديمقراطي للدستور أن تتطور الأمور في هذا الشأن في اتجاه كفالة حق الحكومة في الاعتراض على القرار التنظيمي للهيأة بطلب القراءة الثانية مع إضفاء طابع النسبية على الاعتراض من خلال سهولة تجاوزه كلما قدرت الهيأة عدم وجاهته انسجاما مع استقلاليتها الوظيفية. وبخصوص الرقابة القضائية، فإنها تجد مبررها في عدم حصانة الأعمال الإدارية من رقابة القضاء خاصة بطريق دعوى الإلغاء، كخاصية ملازمة لدولة الحق والقانون، والتي تبقى حقا مكفولا ولو في غياب نص قانوني صريح. وتفيد التجربة الفرنسية بأن القضاء راكم تجربة غنية في مجال مراقبة نشاط السلطات الإدارية المستقلة بما فيها المجلس الأعلى السمعي– البصري في إطار دعاوى الإلغاء، القضاء الشامل و إيقاف التنفيذ. ومما تجدر الإشارة إليه أن القضائين الدستوري والإداري الفرنسيين لعبا دورا مميزا في إرساء كثير من المبادئ والقواعد القانونية المفضية إلى تعزيز مكانة السلطات الإدارية المستقلة في النسق الإداري وتوجيه نشاطها على نحو يمكنها من النجاح في تحقيق الأهداف والغايات المتوخاة منها، وليست صدفة أن نال ميدان الإعلام السمعي- البصري نصيبا وافرا من الاجتهادات القضائية في المجالين الدستوري والإداري. الإحالات: (1) J ODERZO : les autorités administratives indépendantes et la constitution, thèse pour le doctorat, Aix-en-Provence 2000 p 36 et s. (2) P. GOFFAUX : l'inexistence des privilèges de l'administration et le pouvoir d'exécution forcée, BRUYLANT BRUXELLES 2002 P 53 et s. (3) R. SCHWARTZENBERRG : l'autorité de chose décidée, librairie générale de droit et de jurisprudence 1969, p 188 et s. باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة