اذكر جيدا يوم الأحد الحزين الذي عشت احداثه الجريحة و انا احضر السمك "الشاركو" لتهييئ الطاجين على وجبة الغذاء فوصلني خبر فاجعة بكل المقاييس مفاده ان جارتي القريبة مني فقدت اثنين من ابنائها في البحر و هما ينويان السفر الى الضفة الاخرى هربا من فقرهم الذي لا ينتظر شهودا و لا شهادة فسحنة افراد العائلة و منزلهم الذي دخلت الية لاول و اخر مرة في حياتي بغية تقديم العزاء كانا ينطقان بالعوز و يصفانه ببلاغة و اعجاز شديدين … تركت كل شيئ على حاله في المطبخ و ذهبت للقاء والدة الفقيدين …فالتقيت بجثة هامدة جف دمعها و اخرس لسانها و انعقد عن الكلام و جحظت عيناها في وجه المعزيين بالعشرات الذين حجوا الى بيتها رجالا و ركبانا …فمنهم من عزى و انصرف و منهم من مد يد العون و تطوع للذهاب الى اصيلا للبحث عن الجثتين اللتين ابى البحر الا ان يعذب العائلة و يحتفظ بهما اياما مرت على الام و العائلة كانها جيل دونا عن جثت الاخرين الذين لقوا هم الاخرون حتفهم فقد كانوا بالعشرات و الذين عادوا هامدين الى عائلاتهم … عدت الى منزلي مكروبة تنخرني الكابة من كل حدب و صوب و انقلبت علي المواجع و كرهت الوطن كرها عظيما … فعجزت عن تحضير الطاجين كما وعدت زوجي …اخدت سمك "الشارجو" كما نصحتني جارتي و وضعته في المجمد الى حين صفاء سريرتي و استقرار نفسيتي فلم اكن حينها قد اصبحت اما بعد و لكن حملي بابنتي الكبرى اجج داخلي مشاعر الخوف و جعلني اتعادى بحزن الام و فجيعتها و التي كانت تردد بثبات " راهم مرميين مع الحوت كينهش فلحمهم " …مرت بضعة ايام على الكارثة و جاء يوم الاحد فاخرجت السمك من المجمد و مرغمة لا بطلة شرعت في تحضير الطاجين … كان منظر عيون السمك و انا اغسله يذكرني بكلام الام و ما ان وضعته على النار و بدات رائحة الزعتر تفوح من ارجائه حتى جاء الخبر الحزين "لقد وجدوا الفتيان و هم في الطريق الى القنيطرة لدفنهما "…اجتمع غفير من الناس في الدرب …و ارتفع صوت القران عاليا في كل البيوت تقريبا و اجتمعت الجارات مباشرة تحت نافذة منزلي يبعثرن الكلام و يثرثرن بدون هوادة "مخلا فيهم الحوت غير اللي نسى …مغزين و منكولين مساكين ". .. بدات النسوة في ترديد كلمات موزونة تقشعر لها الابدان و هن يستقبلن النعشين … و بدات رائحة الطاجين تنتشر بقوة داخل البيت و كان قلبي ينقبض و الرائحة التي كانت يوما توحي بالسعادة باتت مقززة و مقرفة الى حد الغثيان… كان ذالك الاحد يوما حزينا و الطاجين كذالك …رفضت اكله حينها و كم كرهت رؤية السمك لشهور عديدة …. لكن توالت الاحاد و نسيت النظرات و العبرات في عيون السمك الجاحظة التي كانت تذكرني بالغرقى و تهجم علي و تناولت السمك بعد ذالك بنهم و حضرت طواجينا و طواجينا و نسيت …نعم نسيت … مثلما تنسون انتم كذالك ..و مثلما ينسى الكل … هكذا نتعامل مع الاحداث تؤثر فينا حينا وسرعان ما ننسى و سننسى او نتناسى فمثلما نسينا فاجعة قوارب الموت و مرت دون متابعة حقيقية لكل من يقف وراء ذالك و نسينا فاجعة طنطان و الدخان الصاعد من لحوم الاطفال التي كانت تشوى على مراى و مسمع الحكومة و المسؤولين و هم وحيدين داخل الحافلة دون معرفة ما اسفرت اليه التحقيقات و نسينا فاجعة فياضانات كلميم و الارواح تزهق امام اعيننا على الفايسبوك و لم نعرف كذالك نتيجة التحقيقات .. هكذا سننسى كذالك كرب قصة الرجل المطحون الذي مات في سبيل سمكه و قوت يومه و بسبب استهتار المسؤولين الرئيسين عن وفاته .. رحمة الله على الشهيد ..او لم يقتل دون ماله !! اذن فهو شهيد و رحمة الله على القادمين من الشهداء او تظنون ان القصة انتهت و قطعنا الواد و نشفو رجلينا !! الى ذالك الحين اعزي نفسي و اعزيكم في هذا الوطن و انا لله و انا اليه راجعون و كما تقول اختي فاطمة حفظها الله الواحد منا يحضي راسو "راه كية اللي جات فيه الضربة " سينساه الكل و يصبح ذكرى تنظاف الى الذكريات الحزينة التي نمر عليها مرور الكرام مع توالي الايام و الكوارث لا قدر الله .