الذكريات كالمستحتات لاتموت تقاوم مزاج الطبيعة، تبقى ضاربة في قعر النفس تتنفس منه، هي كالنخلة شامخة في الوجدان، ولو كانت للأيام أوتاد لكانت الذكريات. الذكريات لاتمحوها رياح الأيام ولا النوائب ولاالأفراح ولا الموت ولا الحياة ولا الأعياد ولارؤوس السنوات. الذكريات هي رأس مال كل إنسان فقيرهم وغنيهم ملوكهم وعبيدهم، منهم من يعيش كل عليها (كل على مولاه) ومنهم من يصنع منها نهارا مشرقا. لن أنسى ذالك المساء الذي ذهبت فيه إلى المدرسة كنت في الصف الثالث إبتدائي، جلست في الطاولة الأولى من الصف الثالث من الجهة اليمنى، جلست أنتظر متى يرن جرس الحياة ولكن القدر لايحابي خلقه هو كأسنان المشط لايفرق في قبض الأرواح خيرها وشرها شقيها وسعيدها. رن الجرس خرجنا من المدرسة لم أدر كيف مرت ثلاث ساعات في الفصل أذكر أنني لم ألتفت يمنة أو يسرة كان ذالك قبل عشرين سنة، طرت على وجهي إلى البيت وجدتهم غيروا لي الميعاد وعدوني قبل الذهاب إلى المدرسة ذاك المساء بميعاد مع الحياة فوجدتهم استبدلوا الحياة بالموت ‼ جئت في الموعد وجاء هو أيضا في نفس الوقت إحترم الميعاد وهو جثة هامدة، تسألت! فسألتهم أين روحه أوهموني بأنه سافر أو بالأحرى أسري بروحه إلى الجنة، نعم سافر إلى الأبد ولن يعود لأن القدر ضرب في الأزل عهدا أن لايعود إليها أحد وإن كان شهيدا شهيدا شهيدا. لن أنسى ذالك الرجل وإن نسيت ملامحه وقسمات وجهه وطوله كيف أنسى معروفه لا أحد ينسى الشر فكيف بالخير، كان يأتيني بأغلى الحلويات والألعاب ويلقاني بوجه بشوش وإبتسامة عريضة، كل يوم ألقاه في المسجد يخرج من تحت جلبابه لعبة من دون أن تعلم يمينه ما بشماله لما كبرت عرفت أنه مخلص– بضم الميم-. لن أنسى رجلا أخذ بيدي وأخرجني من دوامة الموت ونظرات النسوة وفضول المعزين ونياح النائحات في الجنائز، أخدني بعيدا إلى ألعابي أعبث بها وأنا صغير لا أفرق بين الموت والحياة. لن انسى كيف مسح راسي ذالك الرجل عندما سمع بي أني يتيم الأب ولا أنسى صدى كلمات ذالك الستيني عندما وصفني بأشنع الكلمات مازال طنينها في أذني اليوم وإلى اليوم المشهود. لن أنسى ذالك الفقيه وهو يعلمني سورة الإخلاص بكل إخلاص ولاأنسى من نظر إلي في صغري نصف نظرة ونظرة كاملة ، ومن أكرمني ومن وسع لي في مجلسه ومن لم يستدعني، لن أنسى قساة القلوب الشداد الغلاظ في نهيهم وأمرهم. لن أنسى ذالك اليوم الذي وضع فيه البطل ممدا في الثابوت على مرأى أبنائه على أكتاف الأحباب والأعداء سواء، مهللين مكبرين موحدين وأنا ألعب كأن البطل ليس مني ولست منه، ياليتهم أخبروني أن من كان محمولا على الأكتاف ليس سوى والدي للحقت به إلى أولى منازل الأخرة.