عرف المغرب في الأيام الجارية أمام أعيننا كوارث طبيعية، ضربت بطغيانها الهدام ما بناه الناس من بيوت في قرى ودواوير نائية، يوجد معظمها في جنوب المغرب شرقه وغربه. وغدرت المياه الجارفة الجبارة العشرات من مواطنين كلٌ كان في حاله : من كان في الطريق إلى العمل ومن كان في الطريق إلى أهله، من كان في البيت ومن كان خارجه. ونقلت الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية عبر القنوات الوطنية الرسمية صورا أطلقت عليها أسامي ونعوتا لم يألفها البشر. ولعل الكلمتين اللتين ترددتا كثيرا هما لفظتا «كارثة» و «فاجعة». وحتى الذين كانوا لا يشاهدون القنوات الوطنية إلا لماما عادوا إليها في هذه المناسبة الحزينة الأليمة. لقد توارت تلك الأيام المفجعة بعدما غيبت مواطنين فقدوا حياتهم تحت جبروت مياه الفيضانات في العديد من مناطق الجنوب المغربي. وهي لم تذهب بالأرواح فقط إذ هُدِمَت بيوت وأقصر وقصبات وما يعرفه المواطنون ومعهم مختلف السلطات المحلية وقوات الدرك الملكي من تجهيزات أساسية تمس بالأساس طرقا وقناطر وممرات وقنوات. دعك بعد هذا كله من التربة والشجر والغرس وما هو في مقدور المحاصيل. وفي هذا الباب كما في غيره تشكلت حكايا تُرْوَى وقصص تُحْكَى. اختطف الموت هكذا مواطنين كثرا: ستون قتيلا حسب ما أعلنته السلطات. ومن ضمن هؤلاء المواطنين مسؤولان كتبت لهما الأقدار شهرة وتميزا: أحمد الزايدي، فقيد الاتحاد الاشتراكي، وعبد الله بها فقيد حزب العدالة والتنمية. مثلما فاجأ الموت على حين غرة أحمد، فعل ذات الشيء بالمرحوم عبد الله. ترك الرجل خلفه أثرا لن ينساه الناس: طيبوبته. وإذا كانت هناك عبارة تصدق عليه بصورة لا تحتمل أخذا ولا ردا، فهي عبارة»الرجل الطيب «. كان الرجل بالفعل مناضلا طيبا بكل ما تحمله الكلمة من معاني مباشرة : معاني الطيبوبة والطيب الخلقي معا. وحيثما حل أو جرته مقتضيات السياسة، ترك لدى الجميع الانطباع الأليف ذاته سواء من رفاقه في حزبه أو ممن عداهم خارج هيأتيه الجمعوية والسياسية إلى درجة أن المرء المحايد والبراني عن السياسة يود لو رآه في غير دواعيها وصوارفها التي بقدر ما تحتمل من الأفضال، تحتمل من الأرذال. وبشهادة رفاقه وكل من جمعتهم به مستلزمات العمل السياسي شهدوا له بالأفضال حصريا. فطوبى له بهذه المفخرة الآن وقد ودع الوداع الأخير. ومن عجب الصدف شديدة الغرابة أن فقيدنا ودع في نفس المكان الذي ودع منه المرحوم أحمد الزايدي. وإذا صح الخبر فقد جاء عبد الله ليتأمل المكان الذي راح منه احمد إلى مصيره الذي لا يٌرد. لماذا جاء الفقيد إلى مكان الفقيد. لا نعرف ولن يعرف أحد. شيء واحد قد يضغط على عوالم الإمكان: أو بقيتا راسختين مترسختين الصورةُ والطريقةُ اللتان أَفْقدَتانِنا أحمد في وعي وعواطف عبد الله؟ أو خلق غيابُ أحمد حرقة عميقة ولوعة حارقة في بواطن عبد الله إلى درجة حركته، رغم انصرام أسابيع على غياب المناضل الاشتراكي، حركته باتجاه مكان التراجيديا المفجعة. إذا كان الأمر هكذا، وقد يكون كذلك، فإن يُتْما أخلاقيا شديد البلاغة جدير حقا بأن يُرْوى لهؤلاء وأولئك ممن يخوضون في عوالم النضال، وممن يبحرون في عالم السياسة بمعناها النبيل. لست أدري عماذا جاء يبحث عنه الفقيد المرحوم المحبوب عبد الله بها في ذلك المكان القاتل؟ من كان النار ومن كان اللهيب؟ من كان الهواء ومن كان الدفء؟. كلما كان هناك عاشق كان هناك عشق. وداعا عبد الله بَهَا فقد خدمت وطنك بعشق. وعزاؤنا الصادق العميق إلى كل العائلات المغربية التي فقدت أفرادا من أهاليها، وعزاؤنا إلى عائلتي المرحوم عبد الله بها الأسرية والسياسية. وإذا كان هناك أسمى عزاء نعزي به أنفسنا جميعا في الفقيدين معا، فهو هذا الميراث الأخلاقي النبيل الذي طيبا به رحيلهما مثلما طيبا به حياتهما الوطنية.