لم أجد مكاناً أجملَ للتواعد من جديد على اللقاء، غير تلك الصخرة نفسِها أسفل حافة النهر المُطل على المقبرة. شهدتْ أولى خلواتنا بعيداً عن عيون المدينة، أحاول استحضار بعض تفاصيل بداية الحكاية، فأجدني أغالب النسيان على مدى خمس سنوات مرت بطيئة تعاندني في تجدد الجرح القديم. مُترنحاً بين يدٍ تغزل وسَطي وأخرى تحاول أن تكتم أنفاسي، كنت أنوء بحمل جسد يموج خلفي فلا أسمع غير تناهيد متسارعة يستعجل صاحبي خلالها نقطة وصول تلقي بتعبها في جغرافية اهتزازي. لا أذكر كيف أقنعني باصطحابه غير أني أتذكر مسايرته برضائي، في رحلة كسبتُ منها نصيباً، كان الأول في حياتي من عرق جسدي. صار يكفي صاحبي بعدها، أن يُلوح بإشارة معلومة بيننا للالتحاق به هناك، أفتعل عذراً مقنعا للتغيب ساعة أو أقل، صرتُ أحسن تقدير وقت الاختلاء، تُضاف إليه المسافة بين بيت نظافة الجامع الكبير، و دكان الحلاقة حيث أعمل صبياً عند المعلم " قدور". تُحيط يده اليمنى بحزامي، فأدرك أننا بدأنا نتوارى عن الأنظار، يَجذبني إليه بلطف يتخلل السؤال عن الحال، ثم يُجدد الحديث نفسه عن مستقبل يرسم آفاقه مشرقة، بحصولي قريباً على مفتاح الدكان الموعود. استمر حالنا بانتظام عامين، يعرف أني سأسأله عن وعده، و أعرف أنه سيجيبني بانتظار استواء عودي بين أقراني، صار عمري اثني عشر عاما، أصبحت أكثر حرصا على التخفي، أخبرته ذات لقاء بخوفي من افتضاحي، بعدما شعرت بتعمد " المعلم قدور" تأخيري لمغادرة الدكان في الوقت المعلوم، وجدها صاحبي مناسبة للتعبير عن الحاجة إلى الانفصال، إلا أنه كان يعني تباعد المسافة بين لقاء و آخر، إذ استمر الحال عامين آخرين، صرت أقوى على احتماله، صار انتفاضه مرتعشا أسرع، تراجع زمن اللقاء كثيرا، و درهم الابتداء بوجه ملك رحل، تحول إلى قطعة خمسة دراهم بوجه ملك جديد . خلال تردد صاحبي على العاصمة العلمية، لمتابعة دراسته الجامعية، كنا نتغير معاً، لكن في اتجاهين، استمر التعلق نفسه بي من جهته، بينما أخذ تطلعي إلى عودته للأسباب نفسها، يعرف تدرجه نحو الفتور، شيء واحد تغير جذرياً، انتقلنا من خلوة الصخرة على حافة النهر، إلى أربعة جدران تُغلَق بها باب مهترئة، و نافذة لعلها تُطل على سكة الحديد، كان صفيرُ القطار عابراً صمت الغرفة، يوقظ في نفسي رغبة الرحيل إلى الضفة الأخرى، ممزوجة برائحة أعرفها، كلما جاهد مرتعشاً يمسك بردفي عند امتطائي. ذات مساء خريفي من نهاية العام الرابع، علمت منه خبر تعيينه كاتبا عاما في الولاية، تحدث عن نقط فوق الحروف، وعن رحلة كانت جميلة آن لها أن تنتهي أجمل، أهداني ساعة و هاتفا محمولا و مائة درهم، لم أستطع أن أنبس ببنت شفة، رفع ذقني بيسراه فلاحظ دمعا قد تحجر في مقلتي، انتبهت إلى احمرار عينيه هو الآخر، قبل الافتراق على التواعد بلقاء في يوم ما، سحب من جيبه ورقة قال إن بها رقم هاتف المصلحة، لعله نسي أني لم ألج مدرسة. مر عام كامل دون مصادفة صاحبي في طريق؟ ! هاتفته ذات ليلة باردة، غمرتني فرحة غريبة أذكر أني لم أشعر بها من قبل، حين سمعت صوته خافتا يسأل عن المتصل، ترددت في الإعلان عن اسمي، قبل أن يسبقني لساني: فؤاد. ثم استدركت: فؤاد الحلاق. وجدتني أدعوه إلى لقاء، لكن كلماتي غرقت في صمت انقطاع مفاجئ، سارعت لمعانقة الصحو تخلصا من كابوس مزعج. سألتني الكاتبة عن اسمي لإبلاغه به، تسمعت عبر الهاتف ضحكة رقيقة، صدرت عنها بمجرد نطقي " فؤاد الحلاق"، لم يتبادر إلى ذهني شك في توجُسِها ما كان بيننا، ظللتُ موقنا بأن الله وحده كان ثالثنا: إنه في اجتماع الآن، انتظرْ خروجه من الباب الخلفي للإدارة. مُتعَباً من رحلة متقطعة عبر قطارين، شعرت برغبة الخلود إلى إغفاءة يزعجها الخوف من عودته لمطالبتي بالذي في نفسه، في مكالمته الأخيرة بعد غياب ثلاثة أشهر ، ألمحت له بانتهائي إلى البلوغ، استلذ حديثي عن رقة صوتي التي طالما ظلت تُطربُه و قد خالطتْها بحة، و عن حلمتي صدري اللتين انتصبتا حبتين عامرتين، لكنه ألح علَيٌ في زيارة ولو خاطفة، رغم ما بدا أنه اقتناع لديه بالابتعاد. أتذكر لحظة الانتظار، لم يشغلني سوى التفكير في الموقف، حين سيجدني أتعمد الانفصال عنه أثناء سيرنا، متجهين نحو الصخرة نفسها، أسفل حافة النهر المُطل على المقبرة. خرج من الباب الخلفي رجلان ثانيهما صاحبي، حليق الوجه إلا من شارب عفا عنه، أنيق اللباس تعلو هيئته ملامح وقار جميل، تعمدت الانتصاب لملء مساحة الرؤية بقامتي المربوعة، لم تلتق نظراتنا عند نقطة محددة، بدا مُنشغلاً عني بحديث متصل مع الذي على يساره، توسطتُ الطريق عل إشارة منه توحي بإدراكه لوجودي، كانت خطواته متسرعة نحو سيارة البلدية، لا أذكر كيف غابت العربة السوداء، تاركة عينَيٌ معلقتين باللوحة الخلفية، وقد حفر عليها اسم المغرب بالأحمر، لعَلِي أخطأت حين أتيتُ لغير العنوان، بعدما تواعدنا على اللقاء، أسفل الصخرة نفسها على حافة النهر، أذكر أن عمري كان خمسة عشرا عاما.