أنا وماري فقط . لقد أصبحت سائقة ماهرة، لا تهاب تكشيرة الرجال. ولا حذلقة العاملات في الأسواق المركزية والمكاتب الإدارية، إنها تتحدى أيا كان، يمينا، يسارا، أمام الضوء الأحمر، الأخضر، الساحات الكبرى، الممرات الصعبة، الشوارع الفخمة، الدروب الضيقة. حتى الغلمان وأصحاب التقليعات المستوردة وشطحاتهم، في طريقة الوقوف والإقلاع. لا تدخلهم في الحسبان، إنهم تافهون .. جميع رخص السياقة التي يتوافر عليها هؤلاء. تسلم لهم عن طريق الرقم السري أو الغلاف المالي. - قلت: الآن لا يمكن للحاجة أن تخاف عليك..! - قالت: منذ أكثر من عشر سنوات لم تعد تخاف علي. ماري لم تغادر وطنها من أجل الخبز. بل من أجل، أن تستوعب ثقافة الآخر. أكثر من عشر دقائق من الصمت ثم قالت: - تعجبني الدارالبيضاء. - ماذا يعجبك في هذه الدار؟ - اختلافها عن مدريد.. وأضافت: في مدريد الصرامة وفي الدارالبيضاء الحنان. كثيرات يفكرن مثل ماري، هي لم تعد على اتصال بما يجري داخل الوطن. الوطن بالنسبة لهن الرائحة، البحر، الشاي، رزة القاضي، صومعة حسان، وأغنية «ياك أجرحي». تردد ماري أكثر من مرة .. في مدريد كل شيء إلا الحنان..! لا أريد الانغماس في مناقشة ماري بخصوص بعض المفاهيم أو القيم. الحنان ، الحب، رضا الوالدين، المسؤولية، الحق، السعادة، الكراهية، الزواج، هي أحاديث، أصبحت في خبر لمبتدأ محذوف. فكرت أن الصباح يجب أن يبدأ ببرامج تنعش الروح والبدن والحواس أيضا. قلت لماري: الحنان.. أي نوع من الحنان. قالت: الذي يعيد للذات عنفوانها. عشرات بل المئات، يشعرن مثل ماري. الغرب لا يتوافر على الحنان والمغرب بلد الحنان. قراءة أكثر من ساذجة للآخر. تذكرت عبد الله العروي، كاتب ياسين، الطاهر بن جلون، عبد الكريم الخطيبي، جوليا كريستيفا، الطيب صالح، أحمد الشرقاوي، كويتوصولو، صامويل شمعون، إدريس الشرايبي، التهامي الناظر.. هؤلاء وغيرهم استطاعوا التعبير عن شقاء الأنا والآخر. إن هذا الشقاء، مصدره الارتحال من مجتمع إلى مجتمع، من ثقافة إلى ثقافة، من لغة إلى لغة، من مطبخ إلى مطبخ، ومن فراش إلى فراش. لا أريد أن أنغص على ماري أوقاتها ، إحساسها، بعد أيام قليلة، ستعود إلى مدريد. أخذنا مشروبا في صالون CANNELLE ثم انتقلنا إلى المعرض الدولي للكتاب. أثنت كثيرا على خدمة النادل، النادل البيضاوي، أكثر أناقة، أكثر لطفا، خلافا للنادل الذي كان ينظر بعين واحدة في المقهى الآخر. الدارالبيضاء مدينة المفارقات، لكنها مفارقات دالة، ربما هي محاولة للانتقال إلى الأفضل هكذا قالت ماري. - قلت إن الدارالبيضاء ليست هي المدن الأخرى. - قالت لكنه مغرب واحد .. وأضافت: بسم الله الرحمان الرحيم. في المعرض اشترت ماري ، نسخة فاخرة، من القرآن الكريم، وأنا اشتريت، طبعة جديدة، من رواية «السأم» وطبعة أخرى جديدة، لرواية « عراقي في باريس». حين كنا نتجول عبر أروقة المعرض، كانت ماري مستاءة، من الفوضى وعدم التنظيم وغياب التنسيق وضجيج العابرين وخواء بعض المداخلات وانعدام أخلاقيات الاستقبال عند بعض المسؤولين. قلت لماري: رغم ذلك إنه عرس جميل..! لعلها كانت منشغلة بفكرة ما، أو أنها تقارن، بين مدريدوالدارالبيضاء.. في الدارالبيضاء، الحنان وغياب النظام.. وفي مدريد، النظام وغياب الحنان.