العطر الأول لا رغبة لي الآن في العودة إلى تفاصيل الرحلة. الرحلة انتهت، ما أعلم أن أفرادا من جيلي رحلوا.. من أجل المرأة والسيارة والقليل من أجل الحرية والباقي من أجل الرحلة فقط. استقبلني الفقيه الفيلالي، بعد حوار يشبه حوار المرضى بالطاعون. قدم لي إبراهيم من السينغال وفيصل من زغنغان . ممكن أن تنام ليلة أو ليلتين معهما قال. شعرت منذ البداية بصفاء إبراهيم وشهامة فيصل، فكرت في رفاق الدرب، شتان بين هؤلاء وأولئك. نمت ليلتين كما قال لي الفيلالي ، بدأت علامات غير مقروءة على محيا الفيلالي. أشهد أنني كنت عديم التجربة، في مثل هذه المواقف، لا أعرف منزلا للمبيت سوى بيتنا في حومة سيدي بوحاجة وبيت جدتي لالة فطوم في درب السطل. سألت الفيلالي من يكون أبو أمين..؟ صاحب المطعم وأضاف: إنه رجل كريم وسخي. مليا كنت أتأمل تقاسيم وجه الرجل، فهي تذكرني ببعض الوجوه التي عرفتها في مدرسة سيدي بوحمد، البجنوني، القزدار، الحراق. أو مثل باعة درب النيارين،يومديان، البناي، مورو، المكزاري، التطواني، القايد الطابور. توطدت علاقتي بمطعم أبي أمين، مرارا فكرت في العودة، كما فكرت بأني أخطأت الطريق أو الاختيار. القيظ الشديد، الخشونة، الكبت، إيديولوجية الرسائل الخالدة والزعماء الخالدين، أجواء «شرق المتوسط» و» الأشجار واغتيال مرزوق» لعبد الرحمان منيف، لكن لا مفر. السماء تبدو قريبة من الأرض، رائحة غريبة تنتشر في الحي القريب من النهر، لا شك هي رائحة دجلة، رائحة يمكن استنشاقها عن طريق جميع أعضاء الجسد. إنه الحي الذي سننتقل إليه كما أخبرني الفيلالي ،حي «الأعظمية»، لم أعد أسمع شيئا عن « أبي أمين» الرجل الذي يحن على الغرباء.. المطعم كان بالنسبة لنا مدرسة تقدم دروسا بالمجان في الاديولوجية وتدبيج البيانات التي تدين الرجعية والامبريالية والصهيونية. لم أعد ألتقي بالمناضل إلا في مناسبات قليلة، قليلة جدا ، لأن فيصل لم يكن سهل الانقياد، شبيه بأجداده، شبيه بسلسلة جبال الريف الوعرة. سافرت ثم عدت، لقد تقرر بالفعل أن أبقى هنا، أن أحمل نفس الهموم، نفس الآمال، نفس التطلعات، أصبحت لي علاقات حميمة مع بعض الفضاءات. من شرب من دجلة لابد أن يعود..! في شارع الرشيد مؤسسات كبيرة وصغيرة، بنك الرافدين، روزدي باك، مقهى البرازيلية مقهى الكتاب والشعراء، سينما الخيام، الركن الهادئ، شارع المثنى.. عند نهاية شارع الرشيد ساحة التحرير والنصب التذكاري للفنان القدير جواد سليم. وهو عبارة عن قراءة لتاريخ العراق القديم والحديث. أخذت أنا وفيصل والفيلالي وفلاح قسطا من الراحة في مقهى «كركوك» تحدث فيصل عن جغرافيته والفيلالي عن جغرافيته وفلاح عن جغرافية عدن وأنا حدثتهم عن حوض لوكوس وعن أشجار الرمان. إنه الحنين إلى العطر الأول! العطر الأول أو الأخير لا يهم، إنه عطر وكفى، يحمل معه أسماء لأماكن وأشخاص انحفرت في الذاكرة والفؤاد، ميسون، عصماء، لورا، شاكر، بيوض، جورج، عاطف، فريال، صلاح، السعدون، كرادة، الكرخ، الميدان، المعظم، شارع أبي نواس، سلمان باك، عبد القادر الجيلاني. أعدت قراءة الرسالة التي وصلتني من ميسون في ذلك الصيف. العزيز جبران.. هكذا كانت تناديني لقد تغيرت بغداد سأسافر أنا ووالدتي إلى مدينة براغ أنا في انتظارك..! العزيزة ميسون رغم براءة الدعوة لا أستطيع السفر، أنا الآن أعمل مدرسا بمدينة وجدة بالشرق المغربي أشعر بالخوف والحزن والرغبة في المعرفة، والدتي تطلب مني البقاء ، اختيار صعب يا ميسون بين براغ والوالدة. لا شك يا ميسون أن مياه دجلة تغيرت ونحن أيضا، إلى الأحسن إلى الأسوأ، لا أدري.؟ الدارالبيضاء أنا وماري فقط . لقد أصبحت سائقة ماهرة، لا تهاب تكشيرة الرجال. ولا حذلقة العاملات في الأسواق المركزية والمكاتب الإدارية، إنها تتحدى أيا كان، يمينا، يسارا، أمام الضوء الأحمر، الأخضر، الساحات الكبرى، الممرات الصعبة، الشوارع الفخمة، الدروب الضيقة. حتى الغلمان وأصحاب التقليعات المستوردة وشطحاتهم، في طريقة الوقوف والإقلاع. لا تدخلهم في الحسبان، إنهم تافهون .. جميع رخص السياقة التي يتوافر عليها هؤلاء. تسلم لهم عن طريق الرقم السري أو الغلاف المالي. - قلت: الآن لا يمكن للحاجة أن تخاف عليك..! - قالت: منذ أكثر من عشر سنوات لم تعد تخاف علي. ماري لم تغادر وطنها من أجل الخبز. بل من أجل، أن تستوعب ثقافة الآخر. أكثر من عشر دقائق من الصمت ثم قالت: - تعجبني الدارالبيضاء. - ماذا يعجبك في هذه الدار؟ - اختلافها عن مدريد.. وأضافت: في مدريد الصرامة وفي الدارالبيضاء الحنان. كثيرات يفكرن مثل ماري، هي لم تعد على اتصال بما يجري داخل الوطن. الوطن بالنسبة لهن الرائحة، البحر، الشاي، رزة القاضي، صومعة حسان، وأغنية «ياك أجرحي». تردد ماري أكثر من مرة .. في مدريد كل شيء إلا الحنان..! لا أريد الانغماس في مناقشة ماري بخصوص بعض المفاهيم أو القيم. الحنان ، الحب، رضا الوالدين، المسؤولية، الحق، السعادة، الكراهية، الزواج، هي أحاديث، أصبحت في خبر لمبتدأ محذوف. فكرت أن الصباح يجب أن يبدأ ببرامج تنعش الروح والبدن والحواس أيضا. قلت لماري: الحنان.. أي نوع من الحنان. قالت: الذي يعيد للذات عنفوانها. عشرات بل المئات، يشعرن مثل ماري. الغرب لا يتوافر على الحنان والمغرب بلد الحنان. قراءة أكثر من ساذجة للآخر. تذكرت عبد الله العروي، كاتب ياسين، الطاهر بن جلون، عبد الكريم الخطيبي، جوليا كريستيفا، الطيب صالح، أحمد الشرقاوي، كويتوصولو، صامويل شمعون، إدريس الشرايبي، التهامي الناظر.. هؤلاء وغيرهم استطاعوا التعبير عن شقاء الأنا والآخر. إن هذا الشقاء، مصدره الارتحال من مجتمع إلى مجتمع، من ثقافة إلى ثقافة، من لغة إلى لغة، من مطبخ إلى مطبخ، ومن فراش إلى فراش. لا أريد أن أنغص على ماري أوقاتها ، إحساسها، بعد أيام قليلة، ستعود إلى مدريد. أخذنا مشروبا في صالون CANNELLE ثم انتقلنا إلى المعرض الدولي للكتاب. أثنت كثيرا على خدمة النادل، النادل البيضاوي، أكثر أناقة، أكثر لطفا، خلافا للنادل الذي كان ينظر بعين واحدة في المقهى الآخر. الدارالبيضاء مدينة المفارقات، لكنها مفارقات دالة، ربما هي محاولة للانتقال إلى الأفضل هكذا قالت ماري. - قلت إن الدارالبيضاء ليست هي المدن الأخرى. - قالت لكنه مغرب واحد .. وأضافت: بسم الله الرحمان الرحيم. في المعرض اشترت ماري ، نسخة فاخرة، من القرآن الكريم، وأنا اشتريت، طبعة جديدة، من رواية «السأم» وطبعة أخرى جديدة، لرواية « عراقي في باريس». حين كنا نتجول عبر أروقة المعرض، كانت ماري مستاءة، من الفوضى وعدم التنظيم وغياب التنسيق وضجيج العابرين وخواء بعض المداخلات وانعدام أخلاقيات الاستقبال عند بعض المسؤولين. قلت لماري: رغم ذلك إنه عرس جميل..! لعلها كانت منشغلة بفكرة ما، أو أنها تقارن، بين مدريدوالدارالبيضاء.. في الدارالبيضاء، الحنان وغياب النظام.. وفي مدريد، النظام وغياب الحنان.