عرفت مدونة الأسرة المغربية منذ إقرارها سنة 2004 تحولات بنيوية هدفت إلى تحديث الإطار القانوني للعلاقات الأسرية، استجابة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية، بما يحقق التوازن الواجب بين الشريعة الإسلامية ومتطلبات العصر. طرحت هذه المدونة رؤى جديدة لتعزيز المساواة بين الزوجين، وتمكين المرأة، وحماية حقوق الأطفال. ورغم المكاسب التي تحققت، ظلت هناك تحديات قائمة، أبرزها مطالب توسيع الحقوق الأسرية، معالجة قضايا الطلاق المنتشر، الوصاية، والنفقة. استجابة لهذه التحديات، أطلق جلالة الملك محمد السادس مبادرة لمراجعة المدونة، ووضعت الهيئة المكلفة بذلك صيغة جديدة تهدف حسب ما جاء في لقاء عرض أهم مضامين التعديلات إلى تعزيز العدالة والمساواة مع احترام الهوية الدينية، مع التركيز على قضايا مثل حقوق النساء في الطلاق والنفقة، والولاية على الأطفال، وحماية القاصرين. واجهت التعديلات المقترحة ردود أفعال قوية ومستمرة في الواقع وفي مواقع التواصل سلطت الضوء على جانب من النقاشات التي يخوضها المغاربة في البيوت والمقاهي ووسائل النقل وفي المنتديات بشأن أثر التعديلات على مكانة الأسرة في النسيج الاجتماعي الوطني وعلى موقف الشباب من فكرة الزواج. تأتي هذه التعديلات المقترحة والنقاش الذي لاقته في سياق سوسيو-اجتماعي معقد أبرزه الإحصاء العام للسكان والسكنى لعام 2024، الذي أجرته المندوبية السامية للتخطيط؛ حيث أثارت مخرجات هذا الإحصاء إلى التراجع الكبير لمعدل النمو الديموغرافي السنوي نتيجة تفاقم ظواهر مثل العزوف عن الزواج، الذي أدى بدوره إلى تنامي ظاهرة العنوسة، وضعف معدلات الإنجاب بسبب التحولات الثقافية والضغوط الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية التي يعرفها المجتمع (ارتفاع نسبة البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة)، ولنفس الأسباب تقريبا ارتفاع معدلات الطلاق إلى أرقام قياسية نتيجة. هذه العوامل ساهمت في توجه المغرب نحو شيخوخة ديمغرافية، وقد وصل هذا المعدل حاليا 0.85 بالمائة وهو أقل من المعدل العالمي الذي هو 0.9 بالمائة، وأقل بكثير من جيرانه في القارة السمراء التي أغلب دولها يزيد المعدل فيها عن 3 بالمائة؛ وهذا تهديد مباشر لاستدامة النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمملكة. هنا يظهر التباين بين ما تقترحه اللجنة المكلفة بمراجعة المدونة، التي تركز على الأبعاد القانونية، وما تكشف عنه مخرجات الإحصاء من تحديات بنيوية ترتبط بتغير الثقافة المجتمعية حول الزواج والأسرة. إذ بينما تهدف التعديلات القانونية إلى تمكين المرأة وحماية حقوق الأطفال، فإن التحولات الديمغرافية والاجتماعية تشير إلى الحاجة لمعالجة الاختلالات الماكرو والميكرو اجتماعية، وكذا إعادة النظر في القيم الثقافية المحيطة بالأسرة. في ظل هذا الواقع، يصبح السؤال الملحّ: كيف يمكن التوفيق بين تحديث الإطار القانوني للعلاقات الأسرية، ومعالجة التحديات المجتمعية الكبرى مثل العزوف عن الزواج، وارتفاع نسب الطلاق، والشيخوخة الديمغرافية؟ وكيف يمكن للأسرة المغربية تجاوز المنطق الاقتصادي والحسابات المادية لتعيد بناء علاقة الزوجين على أسس الرحمة والمودة، التي تمثل جوهر الزواج وفق الشريعة الإسلامية والقيم الإنسانية السامية الأسرة: بناء إنساني لا مشروع تجاري إن محاولة وضع العلاقة الزوجية والأسرية في إطار تجاري محض -يختزل هذه العلاقة الإنسانية العميقة في حسابات الربح والخسارة المادية-، هو تقزيم لمفهوم الزواج وهدم لأسس الأسرة؛ فالزواج هو ميثاق غليظ، كما وصفه الله في كتابه الكريم، يتأسس على مبادئ الرحمة، والمودة. الأسرة ليست "شركة" تهدف إلى تعظيم الأرباح أو تحقيق المنافع الفردية، بل هي بناء إنساني يسعى لتحقيق التوازن العاطفي، والنفسي، والاجتماعي. معلوم أن العلاقة في الشركة التجارية تكون قائمة على مبدأ المنفعة المتبادلة والتفاوض العقلاني؛ غير أن العلاقة عكس هذه في الأسرة، فالأساس في العلاقة الزوجية هو التضحية المتبادلة، والبذل من أجل الآخر دون حسابات دقيقة للعائد الشخصي والكسب الفردي. لو كانت الأسرة تقوم على المنطق التجاري وعلى موازين العرض والطلب، لما وجدت قيمة للرحمة التي يُظهرها أحد الطرفين حين يضعف الآخر، أو للغفران الذي يسود بين الزوجين في لحظات الزلل. الأسرة تقوم على الحب الذي يتجاوز المقايضة، وعلى الالتزام الأخلاقي الذي لا يُختزل في العقود أو القوانين. الزواج: تكامل بين القلوب لا تبادل بين الجيوب الزواج في جوهره علاقة تكامل بين زوجين، كل منهما يُكمل الآخر في إنسانيته ووجوده. لا يمكن قياس دور الزوجة أو الزوج بميزان مادي، لأن أدوارهم ليست سلعا تُباع أو تُشترى؛ بمعنى أن الزوجة ليست "موظفة منزلية" والزوج في المقابل ليس "ممولًا ماليًا". إن اختزال الزواج في هذا الإطار يفتح الباب لإعادة تعريف العلاقة الزوجية وفق معايير الاستهلاك والمصلحة، وهو يؤدي بذلك إلى جفاف العاطفة وضُعف الرابط الروحي والإنساني بين الزوجين، ويحوّل العلاقة إلى صراع قوى مستمر في الزمان والمكان، حيث يسعى كل طرف إلى تعظيم مكاسبه الفردية، ويُشجّع على تفكك الأسر عند أول إخفاق. على العكس، العلاقة الزوجية الحقيقية هي علاقة قائمة على العطاء المشترك: الزوج يعطي وقته واهتمامه، والزوجة تعطي حبها ورعايتها، وكلاهما يزرع بذور الاستقرار في الأسرة، وهكذا يتحول الزواج إلى التزام أبدي، ومسيرة حياتية طويلة تُبنى على الصبر والتفاهم، والتكامل الإنساني الأسرة كمؤسسة لإنتاج وتحقيق القيم الإنسانية العليا الزواج هو فضاء تُنتج وتتحقق فيه أعظم القيم الإنسانية التي تجعل الأسرة ركيزة لبناء مجتمع متوازن ومستقر. هذه القيم العليا ليست شعارات، بل هي منظومة متكاملة تُعلمنا كيف نُحب دون شروط، وكيف نغفر دون أن نُحصي الأخطاء، وكيف نبني دون أن نتوقف عند العوائق. ومن أبرز هذه القيم: الرحمة والمودة، جوهر العلاقة الزوجية: فهما القيمتان الأساسيتان في العلاقة الزوجية، كما ورد في قوله تعالى: "وجعل بينكم مودة ورحمة". الرحمة تعني تعاطف كل طرف مع الآخر في ضعفه وألمه، وهي التي تدفع الزوج أو الزوجة للوقوف بجانب الآخر في الأزمات دون النظر إلى المخاطر. أما المودة، فهي الحب الصادق المتبادل الذي يُترجم إلى أفعال يومية: كلمة طيبة، ابتسامة مشجعة، أو اهتمام صغير يُظهر التقدير. الوفاء والتضحية، أساس بناء الثقة الخالدة: الوفاء والتضحية قيمتان مركزيتان تميز العلاقة الزوجية عن أي علاقة أخرى. الوفاء يعني الالتزام بالعهد الذي يجمع الزوجين، سواء في أوقات الرخاء أو الشدة، وهو الذي يمنع العلاقة من الانهيار عند أول عقبة. أما التضحية، فهي تقديم مصلحة الآخر على المصلحة الشخصية، وهي التي تمنح الأسرة استقرارها وتماسكها. البناء والتعاون المشترك، الأسرة كمشروع حياة: البناء المشترك يعني أن كلا الزوجين يُساهم بقدراته المختلفة: الزوج قد يُقدم الدعم المادي، والزوجة قد تُوفر العناية والتنشئة. ومع ذلك، هذا الدور ليس ثابتًا، إذ تتطلب الحياة مرونة تُتيح لكل طرف تقديم ما يستطيع وفق الظروف. لأن الحياة الزوجية مليئة بالتحديات، سواء كانت اقتصادية، اجتماعية، أو نفسية. الحاجة الملحة لبناء أسر قائمة على الوعي والإنسانية في المستقبل، يجب أن تتوجه التربية الأسرية والمجتمعية إلى تعزيز فهم الزواج والأسرة كعلاقة إنسانية سامية بعيدا عن المقاربة القانونية والمسطرة القضائية ومنظومة التجارة وحسابات الربح والخسارة. لا بد من التركيز على تعليم الأزواج مهارات العدل والعفو والانصاف، والقدرة على فهم احتياجات الآخر دون تقزيمها في حسابات مادية. إذا أردنا أسرة قوية، فعلينا أن نغرس في الأجيال المقبلة قيمًا ترى الزواج كفضاء مقدس وكرحلة روحية، تبدأ في الدنيا، وتستمر في الآخرة.