يستعيد رولان بارت في يومياته، الصادرة مؤخرا، علاقته الحميمة مع أمه «هانرييت بارت»، وكان قد كتبها بعيد وفاتها يوم 25 أكتوبر 1977 عن سنّ 84 سنة. منذ 26 أكتوبر شرع بارت في كتابة حزنه، هو شذرات من اليأس والقنوط والغمّ الشديد.رقد كانت «هانرييت» بالنسبة إلى بارت تعني كلّ شيء، (نعلم أنه فقد والده في سنته الأولى)، لذلك، تقاسم مع أمه أكثر من ستين سنة من حياته الحافلة بالبحث والكتابة. ولمّا أصابها الوهن، ظلّ يتكفل بعلاجها ويحيا برفقتها لحظات مثقلة بتعب المرض والفرح والأحلام القادمة. بيد أن غياب الأمّ شكل لبارت حدثا خارقا غيّر مسار حياته، وظل يتساءل حتى وفاته في حادثة سير عام 1980، عن جدوى التدريس بالكوليج دو فرانس، وتأليف الكتب. وقد كتب حين كان يؤلّف كتابه « الغرفة المضاءة» وتحديدا يوم 29 مارس 1979 ما يلي: «أكتبُ وأنا خالي البال من همّ السلالة، ليست لديّ أية رغبة في أن أكون مقروءا، أو أن أصير أثرا»... لا ندري، اليوم، هل كان بارت يودّ نشر يومياته هاته أم لا؛ بيد أننا حين نعيد قراءتها ندرك قسوة والْتِهاب عباراتها وهي تستنطق اجترار الذاكرة لحُزْنٍ يوميّ آسِرٍ وشاسعٍ. أقتطف من هذه اليوميات ما يلي: 29 أكتوبر 1977 فكرةٌ- مذهلةٌ، وغيْر مُحزنة- أنّها لم تكن «كل شيء» بالنسبة إليّ. وإلا لم يكن بإمكاني أن أكتب عملا أدبيا. منذ بدأتُ أعالجها، قبل ستة شهور، كانت بالتأكيد تعني « كل شيء» بالنسبة إليّ، وقد نسيتُ تماما أنّني كتبتُ. كنتُ مُولعا بها. وقبل ذلك، كانت تبدو شفيفةً لكيْ أتمكن من الكتابة. 31 أكتوبر الاثنين الساعة الثالثة، دخلتُ وحيدا للمرة الأولى إلى الشّقة. كيف سيكون بمقدوري أن أعيشَ هنا وحيدا. وفي ذات الآن، وببداهة، ليس لي مكانٌ آخر. 5 نونبر(...) قالت النادلةُ الصغيرةُ وهي تُسْدي خدمة لإحدى الزبونات: هاكِ. كانت تلك هي الكلمة التي أقول لمّا أحضرُ شيئا لأمي حين كنت أعالجها. ذات مرة، في نهاية حياتها، وكانت شبه واعية، كانت تردّد «هاكَ». (أنا هنا، كلمةٌ تبادلناها معاً طيلة الحياة). لقد أبْكتني كلمة النادلة. بكيتُ طويلا (لما عدت إلى البيت مُخْمد الطنين). هكذا تمكنتُ من أن أحاصر حدادي. لم يكن كامنا مباشرة في الوَحْدة، في الأمبريقي، إلخ، لديّ هنا نوع من الراحة، والتمكّن يوهِمان النّاس أن بي بأْسًا أقل مما يتصوّرون. هنا يعاد تمزيقُ علاقة العشق، «كنا نحب». من النقطة الأكثر الْتهابا، إلى النقطة الأكثر تجريدا. 9 نونبر لشهورٍ طويلة كنتُ أُمّها. كما لو أنني فقدتُ ابنتي (ألًمٌ أكبرُ من هذا؟ لم أفكر مسبقا في الأمر). 30 نونبر عدمُ قوْل الحِداد. هذا تحليلٌ نفسيٌ عميق. لستُ في حِداد. أنا في كَدَر. 12 فبراير 1978 ثلجٌ، ثلجٌ كثير في باريس. أمْرٌ غريبٌ. أقول وأتألّمُ: لا يُمكنها أن تكون هنا أبدا لِمُشاهدته، لن تكون هنا من أجل أن أحكيَ لها عنهُ. 6 مارس مِعْطفي حزينٌ جدا مثل الوِشاح الأسود أو البنيّ الذي أحملُ دوْما، يبدو لي أنه لن يُعجب أمي وأسمع صوْتها يقول لي أن ألْبس بعضَ الألوان. للمرة الأولى إذن أضعُ وِشاحاً (إيكُوسي) بالألوان. 20 مارس نقولُ (تقولُ لي السيدة بانزيرا): يُخفّفُ الزمنُ الحدادَ. – لا، لا يُنسي الزمنُ أي شيْءٍ، إنه يُنسي فقط انفعاليةَ الحِدادِ. 2 أبريل مَا الذي سأفقدهُ الآن بعدما فقدتُ عِلةَ وُجودِ حياتي – علةَ الخوفِ على شخصٍ ما. حدادُ الدارالبيضاء 27 أبريل 1978 صباحا بعد عودتي إلى باريس. - هُنَا، طيلة خمسة عشر يوْما، لم أنقطع عن التفكير في أمي، والتّألم من أجل مَوْتها. - من غير شك في باريس هناك أيضا المنزل، النظام الذي كنت أملك حين كانت هنا. - هنا، بعيدا، ينهار كُلّ هذا النظام. وهذا يعني، بشكل متناقض/ مفارق، أنني أتألم أكثر لمّا أكون «بالخارج»، بعيدا «عنها»، في اللذة؟ في «التسلية». يقولُ لي العَالمُ :«لديْكَ كلّ شيء من أجل أن تنسى» هذا على فرْطِ أن أنسى. 12 ماي أتردّدُ/ أتقلّبُ – في الظلام – بين إثباتِ (لكن تحديدا: مُنْصفٍ؟) أنّني لا أكون حزينا إلا في بعض الفتراتِ، نتيجة صدماتٍ، بطريقة متفرّقة، بالرغم من أن هذه التشنجات متقاربة – والأكيدُ، في الواقع وبالفعل، أنّني طُول الوقت ودون انقطاعٍ، حزينٌ منذُ وفاة أمّي. 5 يونيو تسْعى كُلّ ذاتٍ (وهذا أمرٌ جليٌّ ) (وهي تتخلّص من الورطة) إلى أنْ يتمّ الاعتراف بها. بالنسبة إليّ، وفي هذه المرحلة من حياتي، (لمّا ماتت أمّي) اعتُرفَ بِي (بواسطة كُتُبي). يمْتلكني إحساسٌ مُبهم بما أنها لم تعد هنا. شيء غريبٌ – ربما خاطِئٌ (مُزيّف)؟-، يُلزمني بأن أعيدَ التعرّفَ على ذاتي مجدّدا. لا يمْكن أن يكون هذا بكتابة أيّ كتاب آخر:إن فكرة الاستمرار مثلما كان الأمر في الماضي، أيْ الانتقال من كِتابٍ إلى آخر، من درسٍ إلى آخر هوَ، بالنسبة إليّ، انتقالٌ مُمِيتٌ (سأعيشُ هذا إلى حينِ مَوْتي). (من هنا جُهودي الحالية للاستقالة). قبْلَ أن أستعيد، بِحِكْمة ورباطة جَأش، مسارا (غير متوقع) للعمل الأدبي؛ يبدو لي من الضروري أن أنْجزَ هذا الكتاب عن أمّي. كأنّ الأمْر، بعبارة أخرى، يَعْني إعادة التعرّف علَى أمي. هذا هو موضوع «الأثر» ؛ لكن: ليس الأثر - بالنسبة إلي- ديمومةً، أزَلاً (قناعتي الأكثر عمقا هي أن الكُلّ يمُرّ: القبورُ تموتُ أيْضا)، إنه فعلا، عاملٌ فعّال يُحقق إعادة التعرّف. 16 يونيو وأنا أتحدثُ إلى «س. م«عن الحسْرة التي أحِسّ بها لمّا أشاهدُ صوَر أمي، حين كنت أنوي إنجاز عمل انطلاقا من تلك الصور: قالتْ لي:ربّما يكون هذا الأمر سابقا لأوانه. مهْما يكن، دائما نفس الاعتقاد (الأكثر قصدية للعالم):سينضجُ الحِداد (أي أن الزمن سيُسقِطه مثل الفاكهة، أو سيفجّره مثل دُمّل). حدادي ثابتٌ غير خاضع لسيْرورة :لا شيء سابقا عنه (هكذا، هلْ رتّبْتُ الشّقة، بمجرد العودة من Urt ؛ يمكنُ القوْل: هذا أمر سابق لأوانه). 29 يوليوز (شاهدتُ فيلماً لهِتْشكوك «عُشّاق بُرْج الجَدْي») إنجريد بيركْمَان (كان ذلك حواليْ سنة 1946): لا أدري لِمِ، وَلاَ كيف أعبّرُ، هذه الممثلة، يُثير جسدُ هذه المُمثلة انْفعالي، شيْءٌ ما يذكّرُني بِأمّي:لوْنُ بَشرتِها، يداها الجميلتاْن والبسِيطتان؛إحساسٌ بالنّعومة، أنوثةٌ غيرُ نرْجسيةٍ. فاتح غشت حِدادٌ. تَبدأُ مرحلةٌ حادّة مِن النّرْجِسيّة عِنْد موتِ شخْصٍ عَزيز:نَبْرأ مِن المَرض، من العبودية؛ بعد ذلك، تترَصّصُ الحُرية شيئا فشيئا، يخيّمُ القُنوط، تترك النرجسية مَكانَها لِأنانية حزينة؛غيابُ السّخاءِ (الأرْيحيّة). 18 غشت هذا المكانُ من الغُرفة حيث كانت ترْقد مَريضةً، حيثُ ماتتْ وحيث أقطُن الآن، عَلَى الحائطِ الذي يستند عليه أعلى فراشها وضعتُ – لا عن اعتقاد – أيقونَةً، مثلما أضعُ دوْما زُهورا على الطاولة. لم تعد عندي الرغبة في السفر لكيْ أتمكن من أن أكون هنا، من أجل ألا تخملَ الزهور أبدا. أنْ أتقاسمَ قيمَ يومٍ صامتٍ (تسييرُ المطبخ، التّنظيف، الملابس، الجمالية كلُّها مقابل ماضي الأشياء)، كانت تلك طريقتي (الصامتة) للتّحدثِ إليْها. هكذا، وبما أنها لم تعد هنا، فإنه بإمكاني القيام بذلك أيضا. 21 غشت لمَ سأرغبُ في أدْنى سلالة، في أيّ أثرٍ، لأن الأشخاص الذين أحْببتهم، والذين أحِبّهم أكثر، لن يتركوا ذلك، مثلما لن أتركه أنا أوْ بعض مَن سيظلّ على قيد الحياة من السابقين؟ ما الذي سيضيفه إليّ أن أستمرّ في ما بعد كيْنونَتي، في المَجْهول البارد والمُضلّل للتاريخ، لأن ذكرى أُمّي لن تَدومُ أكثر مِنّي، وأكثر من الذين عرفوها والذين سيموتون بدورهم. لا أريد أية «مَعْلَمة» لنفسي. الحُزْنُ أنانيٌّ. لا أتحدث هنا إلا عن نفسي. لا يُمكنني أنْ أتحدث عنْها، قولُ ما كانت، إنجاز صورة مؤثرة (مثل تلك التي أنجز جِيدْ عَنْ مَادْلين). 22 نونبر نُظّم أمسٍ مساءً حفلٌ بمناسبة 25 سنة لِي في دار النّشر لُوسُويْ. حضر عدد كبير من الأصدقاء. - هل أنتَ مسرورٌ؟ - نَعمْ، بكلّ تأكيد. (لكنني أفتقدُ أمي). كلّ «حُبّ العالم» يقوّي تفاهة العالم الذي لا تَحْياه. ينتابُني دوْما إحساسٌ ضاغط في القلب. هذا التمزق، قويّ جدا اليوم؛ انْتابني، في هذه الصبيحة الرمادية، لما فكرت فيها، وفي صُورة راشيل، حين كانت جالسةً أمس مساء مُنعزلة بعضَ الشيْء، مسرورةً بهذا الحفل، وقد تحدثتْ مع هذا وذاك قليلا، مُسْتحقة «مَكانتها»، بما أن النساء لم يعدن كذلك أو لأنهن لم يعدن يرغبن في أية مكانة – نوعٌ من عزة نَفْس مُفتقدة ونادرة– كانت تمتلكها أمي. (فقد كانت ذات طيْبوبة مُطلقة، مع الجميع، وهي مع ذلك «في مكانها»). نادرا ما أكتبُ حُزْني؛ وبمعنى آخر، إنّهُ أقوى مني، مرّ إلى مَدار الأزليّ، منذ لم أعُدْ أكتُبُهُ.