جمعتُ أغراضي في كيس بلاستيكي أسود، ووضعت الأوراق النقدية القليلة التي استطعتُ توفيرها في الفترة الأخيرة داخل كيس جلدي صغير، ودفنتها داخل صدريتي بحرص شديد، وغادرت بيت والدتي الذي قضيت فيه معظم سنوات عمري. لم أرغب أبدا في النظر إلى الوراء وأنا أقطع الخطوات التي تفصل باب البيت عن الشارع الذي تتسابق فيه السيارات والشاحنات والدراجات النارية، إلى جانب سيارات النقل الصغيرة. تنفست بعمق وقلت لنفسي: «وأخيرا»! غادرتُ بيت والدتي التي لم تحن علي أبدا، ولا أنوي العودة إليه مهما حصل... والدتي امرأة قاسية القلب، لا أكاد أتذكر أنها ابتسمت في وجهي يوما. كنت أشعر بأنني مجرد رقم إلى جانب أشقائي الذكور الثلاثة وشقيقتي الأكبر من زواج سابق... أتذكر جيدا تلك الصباحات الباردة التي كنت أتمارض فيها خلال سنوات دراستي الابتدائية والإعدادية كي أتغيب عن المدرسة، وأحظى بنظرة شفقة من والدتي. وأتذكر أيضا تلك الدموع المالحة التي كنت أذرفها وأنا أدفن وجهي في مخدتي تحت غطاء الفراش في كل مرة كانت والدتي تتجاهل فيها مرضي، وتقضي يومها موزعة بين المطبخ وسطح البيت تثرثر مع الجارات. كبرتُ وكبر داخلي حجم الغبن الذي كنت أشعر به بسبب افتقادي إلى حنانها، كما تعاظمتْ حاجتي إلى محبتها ومشاركتي إياها أسرار البنات. عندما بلغت وشعرت لأول مرة بالدورة الشهرية تبلل ملابسي الداخلية شعرتُ بالرعب وخفت من إخبارها حتى لا تلطمني على وجهي، وتتهمني باقتراف فعل شنيع. لم أكن أعرف ما هو، لكنني كنت متأكدة من أنها ستلطمني على وجهي تماما كما كانت تفعل في كل مرة تغضب مني أو من أحد إخوتي.. كنت أشعر بالغيرة من فتيات الأفلام والمسلسلات اللائي كنت أشاهدهن على التلفزيون عندما تحضن الأم - أي أم كانت- طفلتها وتقبلها على وجنتيها أو جبهتها قبل النوم. والدتي كانت معروفة بين نساء الحي بفظاظتها وعنفها الذي يظهر سريعا خلال المشادات الكلامية، إذ سرعان ما كانت تحوّلها إلى أشواط من المصارعة البدنية، ونتف الشعر وتمزيق الملابس وعض الأذرع وقرص الخدود... عندما كنت صغيرة، كنت أفتخر كثيرا بالطريقة التي كانت تتمكن بها والدتي من حسم معاركها مع الجارات، والفوز في جميع مواجهاتها معهن، لكن مع تقدمي في السن وذهابي إلى الإعدادية والثانوية بدأت أشعر بالعار من سلوكها الذي وصفته زميلاتي في القسم وبنات الحي بالهمجي والوحشي... تحملتُ إحساس اليُتم لسنوات طويلة، رغم أن والدتي حية ترزق، لكنني لم أعد أستطيع تحمل ذلك الإحساس الآن بعدما بلغ عمري 24 سنة، وصرت أعمل في مركز للاتصالات كي أعيل نفسي. استغربتُ كثيرا كيف فشل الزمن في تليين قلب أمي، وزرع بذور المحبة فيه تجاهي، لكنني أدرك الآن أن قلبها كان يزداد قساوة مع مرور الوقت حتى بات قطعة من الصخر الجامد الذي فشلت جميع محاولاتي في اختراقه. لقد شعرتُ دائما بأنه كان موصدا في وجهي وفي وجه باقي إخوتي الذين غادروا هم أيضا البيت قبلي بسنوات. كنت الوحيدة التي بقيت إلى جانبها، لكن قسوتها بلغت درجة لم أتخيلها من قبل. لقد بدأت حملة شيطانية في الفترة الأخيرة من أجل دفعي لامتهان البغاء، وبيع جسدي للغرباء من أجل حفنة من الأوراق النقدية. أستحضر تلك اللحظة التي اقتحمت فيها والدتي غرفة الجلوس بينما كنت أطوي ملابس الغسيل وأتفرج على التلفزيون.. أستحضر كلماتها الخبيثة التي عيرتني فيها بعنوستي، رغم أن سني لا يتجاوز 24 سنة، وقالت إن بعض البنات من أمثالي ممن يملكن جسدا بمثل مقومات جسدي يلعبن بالذهب والمال، ويمتلكن الشقق والسيارات لأنهن «ماضْيات» ويعرفن كيف يخطفن الكحل من العيون! تعمدتُ ألا أفهم كلامها الذي بدأتْه معي في مناسبات متعددة أخرى وقلت لها: «هادشي ما عطاني الله في هاد الدنيا وأنا صابرة»، لكن كلماتي لم تعجبها، فردت غاضبة: «وابقاي صابرة حتى تموتي بنت وما تكوني شفتي ما تشوّفتي»! جرحتني كثيرا تلميحاتها واخترقت صدري كسكين حاد ودفعتني لطرح تلك الأسئلة المؤلمة التي كنت أهرب منها في السابق. قلت لنفسي كيف يمكن لأم أن تدفع ابنتها لسلك طريق الخطيئة؟ كيف لأم أن تتجرد من مشاعرها وتتلاعب بشرف قطعة من روحها وتدفعها دفعا نحو بيوت العهر والفساد طمعا في المال؟ ألحت علي بعض الخواطر التي كانت تراودني في طفولتي، وتدفعني للاعتقاد بأنني لست بنتا حقيقية لهذه الأم القاسية. تذكرت كيف بدأ النوم يخاصم جفوني لساعات طويلة خلال الليل منذ تلك الليلة المشؤومة، وكيف كنتُ أتوجه إلى الله تعالى في دعواتي، كي يحميني منها ومن نفسي ويلهمني للطريق الصحيح حتى لا أقع في الخطأ... لست أدري لماذا تهجم كل تلك الذكريات المؤلمة على ذاكرتي الآن ، لكنني شددتُ قبضتي على الكيس البلاستيكي الأسود الذي وضعت بداخله أغراضي، وتحسست موضع الكيس الجلدي الصغير في صدريتي، وتنهدت بعمق. أسرعت في خطواتي كي أصل إلى محطة الحافلات التي ستقلني إلى المحطة الطرقية، وهناك سأركب أول حافلة متوجهة إلى الجنوب. سأعمل خادمة في البيوت أو نادلة في مقهى أو عاملة استقبال في فندق، لكنني قررت ألا أترك «أمي» تدمر حياتي. قلت لنفسي بتصميم وبصوت مسموع: «لا، لن أتبع طريق الخطيئة ... لن أخطئ مهما كان الثمن»! قصة مستلهمة من حياة القارئة خ.ا