قررتُ هذه السنة عدم الانشغال بتحضير بعض «الشهيوات» المغربية بسبب ضيق الوقت وتعب الصيام، والبحث عن المحلات التجارية العربية التي حوّلت «البريوات» و«البغرير» و«الشباكية» المغربية إلى بضائع مُربحة تبيعها داخل صناديق بلاستيكية صغيرة مقابل الكثير من المال. ركبتُ سيارتي الصغيرة وقصدت منطقة «سكاي لاين» التي تعج بالمهاجرين العرب والمسلمين والتي تقع في حي «فولس تشرش» الذي يعد «عاصمة» للعرب في ولاية فيرجينيا. كان الجو دافئا رغم نسمات الرياح التي بدأت تهب وتنذر ببداية فصل الخريف الذي بدت بصماته البنية والحمراء واضحة على أوراق الشجر الباسقة المتراصة على جنبات الطريق التي تربط العاصمة واشنطن بمنطقة «سكاي لاين» عبر «كينغ ستريت». على أنغام الفناير استمتعتُ بألبوم مجموعة «فناير» وخصوصا الأغنية رقم 11، وفيها تؤدي مجموعة من الأطفال أغنية «آشتا تاتا» بصوت ملائكي حملني بطريقة ساحرة ورمى بي في سنوات طفولتي بمدينة وزان عندما كنت أسمع بعض الأطفال في «السوق التحتي» يغنون «آشتاتا تاتا آوليدات الحراثة» كل يوم خميس وهم يلعبون وسط برك الماء التي كانت تخلفها الأمطار القوية في فصل الشتاء القارس والطويل... حاولت أن أركز على حركة السير الكثيفة على «كينغ ستريت» الذي يربط واشنطن بشمال فرجينيا. بدأت أتخيل شكل «الشهيوات» المغربية التي يمكن أن تكون معروضة على رفوف «سوق الأندلس» الذي فتح أبوابه مؤخرا في وجه المهاجرين المغاربة والعرب في منطقة سكاي لاين. أخذت شارع «ميسن درايف» بعد التوقف لبرهة في إشارة ضوئية حمراء، وسرعان ما ظهرت وجوه تبدو قسماتها مألوفة كثيرا لأن بصمات شمس المغرب الحارقة بدت واضحة عليها. كان ثلاثة شباب مغاربة يحملون أكياسا بلاستيكية بيضاء ويتمشون ببطء شديد في محيط المجمع السكني الضخم الذي يحمل اسم «سكاي لاين تاورز»، ويتبادلون الحديث بصوت مرتفع، لم أسمع تفاصيله لكن أحدهم رد على صديقه بقهقهة عالية قال بعدها «وناري أخويا واباز»! أوقفتُ سيارتي بالقرب من «سوق الأندلس للحم الحلال» الذي سمعت عنه من صديقة مغربية قالت إنه يبيع كل ما يمكن أن تحتاجه من بضائع مغربية جيدة الصنع. اكتشفت أن «السوق» الجديد ليس سوى محل بقالة قديم كان اسمه «قرطاج» عندما زرته السنة الماضية تم بيعه لمواطنين جزائريين وتغيير اسمه إلى «سوق الأندلس للحم الحلال». لا شهيوات في الأندلس دفعتُ الباب الزجاجي الثقيل الذي كتب على واجهته كلمة «ويلكام» بخط أحمر بارز، وأول ما خطوت خطوتين داخل «السوق» وقلت السلام عليكم حتى رد صوت أنثوي متحمس «وعليكم السلام، مرحبا بيك عندنا. واش مروكية ولا دزايرية؟» فوجئت بسيدة بيضاء قصيرة القامة ترسم على وجهها ابتسامة واسعة، تتقدم نحوي وتسلم علي بحرارة وهي تعرف نفسها «سميتي حكيمة وانتي؟» أجبت «فدوى وأنا من المغرب». أخذتني حكيمة في جولة قصيرة بين أرجاء «سوق الأندلس» ودلّتني على علب الزيتون والطماطم والسردين بالزيت أو الطماطم وحتى علب سمك التونة الدائرية بزيت الزيتون التي رأيتها قبل أشهر معروضة على رفوف مرجان وأسواق السلام في الرباط. كانت هناك علب بلاستيكية شفافة بداخلها السفوف أو الشباكية أو بعض الحلويات المغربية المختلفة. سألتني حكيمة من أي منطقة أنحدر في المغرب، فقلت: «مدينة صغيرة ما تعرفيهاش سميتها وزان». ردت بسرعة: «وكيفاش ما نعرفها وآجي نوريك زيت الزيتون ديال وزان... راني نعرف المروك لأن مون ماري مروكي». قادتني حكيمة إلى رواق منظم بعناية وضعت عليه قناني زيت الزيتون من ماركة «عائشة» ومكتوب عليها أنها إنتاج مغربي مائة في المائة. حملتُ قنينة نصف لتر وبدأت أقرأ مواصفات الإنتاج الملصقة على خلفية القنينة، وقلبتها حتى أتمكن من الاطلاع على ثمنها وكان 9.99 دولار فقط لا غير، يعني بعد الضريبة عشرة دولارات ونصف لنصف لتر من زيت الزيتون الذي تقول عنه حكيمة إنه وزاني خالص! التقطتُ سلة مشتريات خضراء كبيرة من أحد أركان المحل ووضعتُ داخلها قنينة واحدة من زيت الزيتون وعلبة تمر من نوع «المجهول» كتب عليها أنه يُنتج في ولاية كاليفورنيا لكنه من أصل مغربي كان لا يسمح بتناوله في المغرب سوى من طرف السلطان وكبار زواره من سلاطين العالم! أخذت بعض علب السردين بالطماطم وعلب «الفلان ألزا» وحريرة «ماجي» وبعض الحلاوة الطحينية الشامية التي أدمنت عليها بسبب علاقة الزمالة مع إعلاميات من الشام يحرصن على إحضار علبها من سوريا وتوزيعها على الزملاء في المكتب كلما سنحت لهن فرصة زيارة بلادهن. بحثت في الرفوف عن «الشهيوات» المغربية مثل البريوات المحشوة بالدجاج أو الكفتة أو الجبن والبغرير والرغايف وغيرها، إلا أنني لم أتوفق في العثور على أي منها، فقصدتُ حكيمة وسألتها عن كل ذلك، فردت قائلة إن كل «الشهيوات» التي جهزتها مهاجرات مغربيات للشهر الكريم نفدت في يومين فقط، ومدت يدها إلى مجوف بلاستيكي أصفر كان موضوعا بالقرب من الآلة الحاسبة الضخمة أو «الكاشيير ريجيستر» التي تحاسب بها الزبائن وسحبت منه «بيزنيس كارد»، قالت إنها لمهاجرة مغربية تجهز «الشهيوات» المغربية في بيتها وتبيعها لكل من أوجعه الحنين لموائد رمضان في المغرب. أثمنة خيالية أخذتُ البطاقة بتجهم لأنني كنت آمل أن أجد ضالتي وأعود بسرعة إلى بيتي كي أنجز Project الذي طالبنا به الأستاذ في الجامعة. لكن حكيمة أمسكت كفي وقادتني بين ردهات «سوق الأندلس» وتوقفت أمام الواجهة الزجاجية الضخمة المخصصة لبيع اللحوم الحلال وقالت: «ما كاين بريوات بصح ولكن راه عندنا مركاز حلال وكاشير حلال وحتى الصوصيص ديال الدجاج حلال». طلبتُ باوندا واحدا من صوصيص الدجاج وهو ما يعادل تقريبا 400 غرام، فمده لي الشاب السوداني الذي كان يقف خلف الواجهة الزجاجية بابتسامة بعدما وزنه ووضع عليه الثمن وكان 8.97 دولار. طلبت باوندا آخر من المركاز الحار وكبسولة من الكاشير، ووضع الشاب السوداني كل ذلك في كيس بلاستيكي أبيض وحمله معي إلى مكان الدفع. وضعتُ سلة مشترياتي وبدأتُ أفرغ محتوياتها على الطاولة الزجاجية التي وقفت حكيمة وراءها وبدأت تنقر على مفاتيح «الكاشيير ريجستر» بسرعة، وبعد دقائق سلمتني فاتورة طويلة طبع في نهايتها الرقم 140.35 دولار. سلمتها بطاقتي الائتمانية ودفعَتها بسرعة في جوف جهاز آلي موصول بالريجستر وأرجعتها لي وهي مازالت مبتسمة. وقعتُ بعد ذلك على النسخة النهائية من الفاتورة وحملتُ أكياس مشترياتي وقبّلتُ حكيمة التي أصرت على مساعدتي في حمل الأكياس إلى الخارج. وضعتُ الأكياس في السيارة وقصدتُ محلا لا يبعد كثيرا عن «سوق الأندلس» واسمه «بقالة الأمل». دفعت الباب الزجاجي فتلقفتني رائحة التوابل النفاذة والقوية. بدا المحل مختلفا تماما عن «سوق الأندلس»، كان مكتظا بالزبائن الذين وقفوا في صف طويل ينتظرون دورهم لدفع ثمن مشترياتهم الرمضانية، وبدا كثير منهم مغاربة. ذهبتُ إلى الرفوف الخلفية علني أجد الشهيوات المغربية، لكن خيبتي كانت كبيرة فلم أجد شيئا أبدا. توجهت إلى الواجهة المخصصة لبيع اللحم الحلال وهممتُ بسؤال شاب كان يعد حشوة «الصوصيص». سألته بالإنجليزية فرد علي بسرعة: «لا والو غير ما تصدعيش راسك داكشي كيطير هنا وما تلقايهش أبدا». ابتسمتُ وسألته: «الأخ منين في المغرب؟»، رد قائلا إنه من مدينة ورزازات وأنه جاء قبل ثمانية أشهر بعدما فاز بقرعة الكرين كارد. توقف عن الحديث فجأة وبدأ ينادي: «علال، علال، واحد الدقيقة يرحم الوالدين». حضر رجل في أواخر الأربعين من عمره كان يلبس وزرة بيضاء ويحمل دجاجة في يده. سأله الشاب المنحدر من ورزازات عما إذا كان يعرف محلا يبيع الشهيوات المغربية، لكن علال نظر إلي مباشرة وقال: «ما كتعرفيش تديري البريوات؟»، قلت له، «لا راني كنعرف غير مشغولة بزاف وماعنديش الوقت». فابتسم وكأنه لا يصدقني وقال: «عليك بوافين، راه تما كينشرو العيالات الحادكات التلفونات». شكرته وغادرت المحل محبطة. شهيوات عبر الأنترنت عدت إلى بيتي وهرعت إلى الكمبيوتر ونقرت على الفأرة وطلبت صفحة أنترنت كتب عليها عنوان موقع وافين الذي يهتم بشؤون المهاجرين المغاربة. ظهرت ألوان الموقع وعلامته المميزة بسرعة وذهبت مباشرة إلى ركن الإعلانات. وجدت واحدا مع رقم هاتف يبدأ ب703 وهو رمز منطقة شمال فرجينيا لسيدة تقول إنها مغربية وطباخة ماهرة تعد «الشهيوات» المغربية بمهارة كبيرة وتبيعها حسب الطلب. أخذت هاتفي النقال وركبت الرقم ونقرت على العلامة الخضراء لإرسال المكالمة. رن الهاتف مرتين قبل أن يجيبني صوت أنثوي ناعم «هاللو». قلت بدون تردد «السلام عليكوم، عافاك ألالا سمحي ليا راني خديت الرقم ديالك من وافين وبغيت نعمل أوردر ديال البريوات المالحة». ردت السيدة بأدب وقالت إن خالتها هي من يجهز الأطباق. سألتها عن الثمن فقالت إن ثمن بريوة واحدة محشوة بالدجاج أو الكفتة هو دولار ونصف، وإن ثمن عشرة رغيفات صغيرة بحجم الكف محشوة بالجبن هو 25 دولار، واستمرت في لائحة الأثمنة وأنا أسجل كل ذلك على ورقة. طلبتُ منها في الأخير تحضير عشر بريوات محشوة بالدجاج وعشر أخرى محشوة بالكفتة، وعشر رغيفات محشوة بالجبن، واتفقنا على اللقاء غدا بعد صلاة التراويح بالقرب من مسجد «دار الهجرة» الواقع في «رود سفن»، وهي منطقة قريبة من «سكاي لاين» حيث قضيت نصف يومي. استفقتُ في اليوم الموالي وكلي لهفة لتذوق الشهيوات المغربية. قضيت يومي راكضة بين العمل والدراسة، وفرحت حينما تطوع زوج صديقة مغربية كان سيؤدي صلاة التراويح في «دار الهجرة» بالمرور لأخذ طلبي من السيدة المغربية. مرت الساعات متثاقلة حتى حان موعد تسلمي لطلبي. أخذت الكيس البلاستيكي شاكرة وركضت باتجاه المطبخ. فتحته ورميت بثلاث حبات من البريوات في مقلاة كانت معدة سلفا، فيما وضعت رغيفة في مقلاة أخرى وانتظرت. بعدما رأيت كيف تحول لون البريوات إلى الذهبي ثم البني أطفأت نار الموقد ووضعتها في طبق إلى جانب الرغيفة، وجلست كي أتناول «فطوري، عشائي وسحوري» في وجبة واحدة بالإضافة إلى بعض المقبلات وحساء الحريرة، لكنني ما كدت أقضم البريوة الأولى حتى رميتها من فمي، كانت محشوة ب«شعرية الشينوا» أو ما يعرف بالفيرميسيل والكثير من التوابل الحارة و... فقط. لم تكن هناك قطع دجاج ولا كفتة ولا أي شيء آخر. فتحت باقي البريوات ووجدت أنها جميعها محشوة بنفس الطريقة. حزنت ومددتُ يدي للرغيفة الساخنة في الطبق وفتحتها فوجدتها فارغة وغير محشوة. نظرت إلى الطبق أمامي وقلت لنفسي «حتى في ميريكان المغاربة كيخدمو القوالب. الله يا ربي، شحال قلبت وتعبت وخلصت ستين دولار تقريبا باش ناكل بريوات مغربية، وفي الأخير داخت عليا مغربية وباعت ليا ورقة معمرة بالشعرية ديال الشينوا والحرور. آش هاد الزهر يا ربي»!