خلال السبعة وعشرين عامًا التي قضاها نلسون مانديللا في السجن، كان يقتلُ الوقتَ بقراءة الأدب النيجيريّ ذي الطبيعة شديدة الخصوصية والثراء. حتى أنه وصف متعته بقراءة رواية "الأشياءُ تتداعى" Things Fall Apart للنيجيري "شينوا آشيبي"، الذي لُقِّبَ ب "أبو الأدب الأفريقي الحديث"، قائلاً: "برفقته تتهاوي جدرانُ المعتقل". وقد راهن آشيبي على روائية نيجيرية شابة، لافتة الموهبة بحق، اسمها تشيمامندا نجوزي آديتشي، من مواليد نيجيريا 1977 . استطاعت تشيمامندا، عبر روايتين بالإنجليزية، حصْدَ قلوب ملايين القراء من أرجاء العالم، وكذا حصد العديد من الجوائز الأدبية الرفيعة. روايتها الأولى "الخُبيزة الأرجوانية" 2003 ، فازت بجائزة "الكومنولث" لأفضل كتاب أول لكاتب 2004 ، ثم صدرت روايتها الثانية، التي نقدمها بالعربية هنا، "نصفُ شمسٍ صفراء"، “Half of a Yellow Sun ” عام 2007 ، لتفوز بجائزة "الأورانج"، وتبيع ملايين النسخ. تقع أحداثُ الرواية قبلَ، وأثناء، وبعد، الحربِ الأهلية النيجيرية-البيافرية، التي تُعرف عالميًّا بحرب بيافرا. وهي نزاع مسلّح استمر من 1967 حتى 1970 ، في محاولة من ولايات الجنوب الشرقيّ النيجري الاستقلال عن الدولة الاتحادية في نيجريا، وإعلان جمهورية بيافرا، التي اتخذت من رمز "نصف شمس صفراء" شعارًا لها وعَلمًا مستقلا يكافحون من أجل رفعه على أرضهم. ولذلك أهدت تشيمامندا روايتَها لجديها اللذين قضيا في الحرب، وإلى جدتيها وأبويها الذين حكوا لها أهوال الحرب، ثم أخيرًا "للحب" الذي تطمحُ في أن يسود العالم. حاول سكان إقليم بيافرا، على مدى سنواتٍ ثلاث، الانفصالَ عن نيجيريا وتكوين دولة مستقلة خاصة بعرقية الإيبو. لكن تلك الجمهورية الانفصالية لم تحصل إلا على اعتراف عدد قليل من الدول هي: هايتي، الجابون، كوت ديفوار، تنزانيا، وزامبيا. وقد دعمت إسرائيلُ الانفصاليين بإمدادهم بالأسلحة سوفييتية-الصنع التي استولت عليها من العرب، وكذلك دعمت البرتغالُ الانفصاليين نكايةً في نيجيريا التي دعمت من قبل استقلال المستعمرات البرتغالية في أفريقيا. الجميلُ واللافت، فنيًّا، في هذه الرواية الفاتنة، أنها، وبالرغم من كونها رواية سياسية، وتطرح فترةً دامية زاخرة بالمذابح والانتهاكات الإنسانية، على مدى صفحات طوال (540 صفحة )، إلا أن الكاتبةَ نجحت في انتزاعها من الجفاف السياسيّ والبرود الأيديولوجي بأن تناولتها من وجهة النظر الاجتماعية والإنسانية. والأجمل أن كل أحداث الرواية تقريبًا جاءت على لسان صبيٍّ صغير خادم أسود، ومن خلال عينيه اللتين تريان ما يجري وتحاولان أن تفهما ما الذي يحدث في العالم، ولِمَا. خلال تلك الرواية بوسع القارئ، غير الأفريقي، أن يتلصص على ذلك العالم شديد الخصوصية لمجتمع القارة السوداء؛ من أساطيرَ وطقوسٍ وغرائبيات. حتى أن الكاتبة طعّمت روايتها، الإنجليزية، بالعديد من الجُمل المكتوبة بالدارجة المحكية الإيبوية، التي يتحدث بها سكّان بيافرا من قبائل الأيبو Igbo . (ميزنا الكلمات الأفريقية بالحرف المائل). الصبيُّ الصغير الأسود آجوو، تأخذه العمّة ليعمل خادمًا عند البروفيسور النيجيري أودينيجو، أستاذ الرياضيات بجامعة نسوكا. وفي بيت البروفيسور سوف سيتنصت الصبيُّ على السيد وزائريه من زملائه الأكاديميين يتحدثون حول المجازر والانتهاكات وحُلم الاستقلال. وتمر الأيام ويكبر الصبيُّ يومًا فيومًا، فيكبر وعيه بالعالم، ويكبر معه وعينا، نحن القراء، بالقضية التي حملها شعبٌ يحلم بالحرية والاستقلال. احتفتِ الكاتبةُ بالأشياء الصغيرة التي تصنع الحياة اليومية للمواطن الأفريقي، سواء القرويّ الأُميّ البسيط، أو البرجوازيّ المتعلِّم من أبناء الطبقة الوسطى، وكذلك طبقة الانفتاحيين الأثرياء من جامعي المال. وعبر تلك اليوميات تُسرِّب الكاتبةُ في مكر فنيٍّ رفيع، وفي غفلةٍ من القارئ، مفرداتِ قضيتها السياسية والاجتماعية الكبرى: صراع ثنائيات الثراء والفقر، الجوع والتخمة، العلم والجهل، وهنا ملمح موهبة آديتشي وسرّ فتنة طرحها السرديّ. والجميل أيضًا، مضمونيًّا، هو أن الكاتبة لم تقع في ثنائية الأبيض والأسود، الخير والشر، النقاء والتلوّث، كما فعل العديد من الكتّاب الكلاسيكيين. فقد جعلت أبطالها الطيبين يرتكبون خطايا عابرة، كما جعلت الأشرار يأتون أعمالاً رفيعة ونبيلة. وهنا ملمح واقعيّ، لكنه لم يتكرس إلا في الكتابة ما-بعد-الحداثية، التي فضّت النزاع بين الأبيض والأسود واحتفت بملايين الدرجات من الرماديات بينهما. خمسةُ أشخاص وطفلة صغيرة هم شخوص العمل الرئيسيون. قصة حبٍّ رفيعة نشأت بين بروفيسور أودينيجو، الذي سيتخذ لقب "السيد" طوال الحكي؛ بما أن الراوية الناطقَ هو آجوو الخادم الصغير، وبين أولانا الشابة النيجيرية المثقفة. وبعد زواجهما لن يقدَّر لها أن تنجب، وفي ذات الوقت سيقع أودينيجو في نزوة عابرة مع خادمة والدته، بترتيب دبرته الوالدة، بتوسُّل طقوس السحر الأفريقي، لكي تُفرّق بين ابنها وبين حبيبته المثقفة، لأنها تؤمن، عبر موروثها الشعبي، "أن المثقفات عواهرُ جَدِباتٌ كأراض بور لا يصلحن للزواج والأمومة". تُسفر تلك النزوة عن مولد طفلة، سوف تموت أمها فورًا وتربيها أولانا، واهبةً إياها اسم "بيبي" بمعنى "طفلة"، بالإنجليزية. وهنا رمزٌ ودّتِ الكاتبةُ أن تطرحه بعدم تعيين اسم محدد لها، وكأنها الأملُ والحلمُ الذي يتبناه شعبٌ يائس للحصول على هوية تخصه. سوى أن هذه الهوية خرجت عرجاء، حيث لحظة الحب التي صنعتها لم تكن سويةً، ليس فقط لأنها ولدَت سفاحًا، ولكن الأهم لأنها لم تكن نتاج حبٍّ بين الأبوين. فالأبُ مسحورٌ بنباتٍ مشعوذ، والأم مُرغمةٌ مقهورة مدفوعة لما لا تريد بسبب قلّة الحيلة والعوَز الماديّ والجهل. في حين أولانا، التي تمثّل المبادئ والثقافة والشباب، سوف تحتضن الطفلة وتربيها كابنتها. من جانب آخر سنتتبع خيطًا مختلفًا يخص توأم أولانا. اسمها كاينين لكنها نقيضُ توأمتها. شرسةٌ ساخرةٌ لا تؤمن بالثورة ولا بالقضية البيافرية. سيدة أعمال تدير شركاتها وتسعى لجني الأموال، على أنها في الأخير سوف تناضل في سبيل القضية مثل بقية شعبها. تقع في هوى صحفي وباحث بريطانيّ، هو ريتشارد تشرشل، الذي تبنى قضية بيافرا كأنه أحد أبنائها. وكتب مخطوطة كتاب وضع له عنوان "العالم كان صامتًا ونحن نموت"، يحمل إدانةً لكل العالم الذي وقف يتفرج، صامتًا، على المذابح التي صنعها النيجيريون المسلمون من قبائل الهاوسا في البيافريين. وفي الفصل الأخير من الرواية، سيكتشف فجأة أن تلك القضية لا تخصه، وأنه ليس جزءًا من "نحن" في عنوان كتابه، هو غريب عنهم بشعره الناعم وعينيه الزرقاوين، حتى وإن أحب كاينين السوداء ذات الشعر الجعد. ولذلك سنكتشف مع السطر الأخير من الرواية، أن الذي سوف يكتب هذا الكتاب، ليس إلا آجوو، الخادم الأسود الصغير، الذي كبر الآن، مع الحرب، وكبرت معه أحلامه ومراراته، بعدما شهد تقتيل أفراد أسرته واغتصاب شقيقته وتشويه أطفال قريته. وسوف يهدي كتابه: "إلى سيدي، رَجُلي الطيب!" وهي الجملة التي كان البروفيسور أودينيجو يناديه بها منذ كان طفلا: "أهلا بك يا رَجُلي الطيب!" أقدم الآن لقرّاء "طنجة الأدبية" فصلين، الثالث والرابع، من تلك الرواية الفاتنة. (3) لم يكن ريتشارد يتكلم سوى القليل في تلك الحفلات التي تأخذه سوزان إليها. حينما كانت تقدّمه، كانت دائمًا تضيف أنه كاتب، وكان دائمًا ما يأمل أن يفترض بقية الضيوف أنه مختلفٌ عن الكتّاب، رغم أنه كان يخشى أن ينظروا داخله ويعرفوا أنه ببساطة يشعر بالغُربة. لكنهم كانوا لطيفين معه؛ هم عادة لطيفون مع أي شخص برفقة سوزان، طالما أن استمرت سوزان في أسرهم بفتنتها، ضحكتها، عينيها الخضراوين اللتين تشعّان في وجه ورَّدته حمرةً كؤوس النبيذ. لم يمانع ريتشارد أن يقف جانبًا في انتظارها حتى تنوي المغادرة، لم يمانع أن أحدًا من أصدقائها لا يبذل جهدًا ليجتذبه، لا يمانع حتى حين امرأةٌ ثملة باهتة الوجه تشير إليه بوصفه ولد سوزان الجميل. لكنه كان ينزعج من تلك الحفلات تامة الاغتراب حيث تغمزه سوزان بمرفقها كي "ينضم إلى الرجال" بينما هي تنضم إلى حلقة من النساء ليقارنّ بين ملاحظاتهن حول المعيشة في نيجيريا. كان يجد صعوبة في التعامل مع الرجال الذين كان معظمهم إنجليز، مدراء ورجال أعمال ما قبل الكولونيالية من مؤسسات جون هولت وكينجزواي وجي بي أوليفانت وشيل آند بي بي وأفريقيا المتحدة. بشرتهم ملوّحة بالحمرة من أثر الشمس والكحول. كانوا يتشاجرون حول طبيعة سياسات نيجيريا القبلية، وحول أن أولئك الرجال لم يكونوا بعد مستعدين للحكم الذاتي رغم كل ذلك. كانوا يتحدثون حول لعبة الكروكيه والزراعة وفرصهم في كادونا. حينما أعرب ريتشارد عن اهتمامه بفن إيبو-أوكوا ، قالوا إن هذا الفن ليس له بعد سوق كبير، لذلك لم يعبأ بأن يفسر لهم أنه لم يكن مهتمًّا بالمال، إنها جماليات الفن فقط ما اجتذبته. وحينما قال إنه للتو قد وصل إلى لاجوس ويريد أن يؤلف كتابًا نيجيريًّا، ردُّوا عليه بابتسامة مقتضبة ونصيحة: الشعب عبارة عن شحاذين ملاعين، كن مستعدًّا لرائحة أجسادهم وطريقتهم في الوقوف والتحديق فيك بالطرقات، لا تصدق أبدًا قصص الحظ السيئ، لا تُظهر ضعفًا أبدًا تجاه شريحة الخدم. كانت هناك نكتة تصف كل سمة أفريقية. برز الاستعلاءُ الأفريقيّ في عقل ريتشارد: أفريقيٌّ كان يسير مع كلب وجاء رجلٌ إنجليزيّ يسأل: "ماذا تفعل مع هذا القرد؟"، فأجاب الأفريقيُّ: "هذا ليس قردًا، بل كلب"- فقال الإنجليزي: أنا أتحدث إلى الكلب! ضحك ريتشارد على النكات. حاول كذلك ألا ينساق في الأحاديث، وألا يُظهر كم يشعر بالضجر. كان يفضل الحديث إلى النساء، رغم أنه تعلّم ألا يقضي وقتًا طويلاً مع امرأة بعينها، وإلا فسوف تقذف سوزان الحائط بكأس حينما يعودان إلى البيت. ارتبك حين حدث ذلك للمرة الأولى. كان قد تحدث لوقت قصير مع كلوفيس بانكروفت حول حياة شقيقها بوصفه سمسار الحي لسنوات في إنيوجو، وبعد ذلك كانت سوزان صامتة طيلة الطريق إلى البيت في السيارة التي يقودها السائق. ظنّ أنها ربما ناعسة؛ وقد يكون ذلك سببًا في أنها لم تعلّق على فستان بشع ارتدته إحداهن ولا على المشهيات غير المعقولة التي قُدّمَت. لكن حينما عاد إلى بيتها، التقطت كأسًا من الخزانة وقذفته صوب الحائط. "تلك المرأة الصغيرة الفظيعة يا ريتشارد، وهكذا أمام عيني أيضًا؟ هذا بشع جدًّا!" جلست على الأريكة ودفنت وجهها في كفيها حتى قال لها إنه آسف جدًّا، رغم إنه لم يكن متأكدًا عمَّ يعتذر. كأس آخر تحطم بعد عدة أسابيع. كان قد تكلم مع جوليا مارش، معظم الحديث كان عن بحثها حول غانا، ووقف مُستَلبًا ينصت حتى جاءت سوزان وجذبته من ذراعه. بعد ذلك، وبعد أن تناثرت شظايا الزجاج الحادة، قالت سوزان إنها تعرف أنه لم يقصد مغازلتها، لكن كان يجب أن يفهم أن الناس وقحين بشكل فظيع وأن النميمة هنا بشعة، بشعة جدًّا. اعتذر لها مجددًا وتساءل عم سيفكر فيه الخادم الذي سينظف الزجاج. بعد ذلك كان العشاء الذي تحدث فيه عن فن النوك مع محاضرة في الجامعة، سيدة رعديدة من يوروبا بدت وكأنها تشعر بالاغتراب مثله. كان قد توقع ردة فعل سوزان وأعد نفسه للاعتذار قبل أن تدخل غرفة المعيشة، من أجل أن ينقذ كأسًا. لكن سوزان كانت كثيرة الكلام وهما في طريق العود للبيت؛ سألته ما إذا كان حديثه مع المرأة ممتعًا، وقالت إنها تأمل أن يكون قد تعلم شيئًا مفيدًا لكتابه. حدّق فيها في عتمة صالون السيارة. لم تكن بحاجة لأن تقول إنه لو كان قد تكلم مع امرأة بريطانية، حتى لو كانت واحدة ممن وضعن الدستور النيجيري! أدرك ببساطة أن السوداوات لم يكنَّ مصدر تهديد لها، لم يكنَّ على قدر المنافسة. قالت العمةُ إليزابيث إن سوزان ممتلئة حيوية وفتنة، ليس مهمًّا أنها أكبر منه قليلاً، وعاشت في نيجيريا لوقت يسمح لها بأن تطلعه على أماكنها. ريتشارد لم يكن يرغب في أن تتجول به؛ كان في ماضيه قد قام برحلات كثيرة حول العالم. لكن العمة إليزابيث كانت مصرّة. أفريقيا لا تشبه أبدًا الأرجنتين أو الهند. أفريقيا هي نغمة صوت يصدر من رجل يكبح زفرة ارتجافة، وربما كان هذا بسبب أنها لم تكن تريده أن يمضي أبدًا، كانت تريده أن يبقى في لندن ليكتب لجريدة أخبار التاريخ. مازالت تظن أن أحدًا لا يقرأ أبدًا عموده الصغير، رغم إنها تقول إن كل أصدقائها يقرأونه. لكنها كانت تقول: الوظيفةُ لون من العطالة رغم ذلك؛ لم يكن ليحصل عليها لولا أن رئيس التحرير كان أحد أصدقائها القدامى. لم يحاول ريتشارد أن يشرح للعمة إليزابيث رغبته في رؤية نيجيريا، لكنه قبِل عرض سوزان بأخذه في جولة. أول ما لاحظه حينما وصل لاجوس كان تلألؤ سوزان، جمالها الأنيق، الطريقة التي تتفحصه بها كلّه، مسّها ذراعه وهي تضحك. كانت تتكلم بحسٍّ مسئول حول نيجيريا والنيجيريين. حينما مضت بهم السيارة متجاوزةً الأسواق الصاخبة بالموسيقى التي تدوي من المحال، والأكشاك المنتثرة كيفما اتفق على جوانب الطريق والبائعة الجائلين، والبالوعات المتخمة بالماء العفن الكثيف، قالت: "إن لديهم طاقة مدهشة، بالفعل، لكن يعوزهم الإحساس بالعادات الصحية للأسف." أخبرته أن شعب الهاوسا في الشمال يعتز بكرامته، والإيبو واثقون ومحبون للمال، وقبائل اليوروبا بشوشون حتى ولو كانوا متملقين من الطراز الأول. في مساءات يوم السبت، حينما كانت تشير إلى الحشود من الناس ذوي الملابس الزاهية الذين يرقصون أمام المظلات المضاءة في الشوارع، كانت تقول: "ها أنت ترى. أهل اليوروبا يثقلون كاهلهم بديون ضخمة فقط ليقيموا هذه الحفلات." ساعدته ليجد شقة صغيرة، وليبتاع سيارة صغيرة، وليحصل على رخصة قيادة، وليذهب إلى متحفيْ لاجوس وإبادن . "يجب أن تقابل جميع أصدقائي،" قالت. في البدء، حينما قدمته ككاتب، ودّ أن يصحح لها: صحفيّ، وليس كاتبًا. لكنه كان كاتبًا، على الأقل هو واثق أنه كان يُعتبر كاتبًا، فنانًا، مبدعًا. صحافيته كانت مؤقتة، كانت مهنة يجب أن يعملها حتى يكتب روايةً مهمة. لذلك ترك سوزان تقدمه بوصفه كاتبًا. يبدو أن ذلك جعل أصدقاءها يتحملونه، على كل حال. جعل ذلك بروفيسور نيكولاس جرين يقترح عليه أن يتقدم لمنحة باحث أجنبيّ في نسوكا، حيث يستطيع أن يكتب تاريخ الجامعة. وقد فعل ذلك ريتشارد، ليس وحسب بسبب مطمح الكتابة في الجامعة، بل لأنه أراد أيضًا أن يكون في الجنوب الشرقيّ، في أرض فن إيبو-أوكوا ، أرض الأواني الساحرة المعقودة بالحبال. وهذا، في الأخير، هو ما جعله يأتي إلى نيجيريا. كانت قد مضت شهور قليلة على بقائه في نيجيريا حينما سألته سوزان إذا ما أراد أن ينتقل للسكنى معها، بما أن بيتها في إكويي واسع، الحدائق كانت جميلة، وفكرتْ أنه سيعمل هناك أفضل كثيرًا من شقته المؤجرة ذات الأرضيات الأسمنتية غير المستوية التي كان مالكها يعوي لأنه يترك النور مضاءً فترات طويلة. لم يشأ ريتشارد أن يقول نعم. لم يكن يريد أن يبقى أكثر في لاجوس. كان يريد أن يتجول أكثر عبر البلد بينما ينتظر عودتها من نسوكا. على أن سوزان كانت قد زخرفت غرفة مكتبها الساحرة من أجله، ومن ثم انتقل إليها. يومًا بعد يوم، كان يجلس على مقعدها الجلدي ويغرق في الكتب وأوراق الأبحاث، ينظر عبر النافذة إلى البستانيين وهم يروون المروج الخضراء، ثم ينكب على الآلة الكاتبة، رغم إنه يدرك أنه يطبع على الآلة وليس يكتب. كانت سوزان حريصة على منحه الهدوء الذي يحتاج إليه، إلا حينما كانت تطل في غرفته وتهمس: "هل تريد بعض الشاي؟" أو "بعض الماء؟" أو "أي غداء مبكّر؟" وكان يجيبها في همس أيضًا، كأنما كتابته قد غدت شيئًا مقدسًا ومن ثم جعلت الغرفة ذاتها مقدسة. لم يخبرها أنه حتى الآن لم يكن قد كتب شيئًا ذا بال، وأن الأفكار في رأسه لم تكن قد تآلفت في شخوص ومكان ومشهد. تخيل أن ذلك قد يؤلمها؛ حيث كتابته قد غدت أفضل هواياتها، وكانت ترجع إلى البيت كل يوم محمّلةً بالكتب والصحف من مكتبة القنصلية البريطانية. كانت ترى كتابه كأنه الوجود الذي هو بالفعل موجودٌ ومن ثم يمكن أن يتحقق. أما هو فقد كان، رغم ذلك، غير متأكد من ماهية وطبيعة موضوع كتابه. لكنه كان ممتنًا لإيمانها به. كان إيمانها بكتابته كأنما يجعل الأمر حقيقيًّا، وكان يظهر امتنانه عن طريق حضور الحفلات التي يكره. وبعد عدة حفلات قرر أن مجرد حضوره لم يكن كافيًا؛ فحاول أيضًا أن يكون مرحًا. إذا ما استطاع أن يقول شيئًا فطِنًا أثناء تقديمه للناس، ربما يعوّض ذلك صمته، والأهم، أن ذلك قد يبهج سوزان. تمرّن لبرهة أمام مرآة الحمام على تعبير مضحك ساخر من الذات وطريقة في تعثّر الاستقبال. "هذا هو ريتشارد تشرشل،" سوف تقول سوزان وهو سوف يصافح الأيادي وينكّت: "للأسف لا علاقة بيني وبين السير ونستون، وإلا لكنتُ أكثر ذكاءً." كان أصدقاء سوزان يضحكون على ذلك الكلام، وتساءل أكانوا يضحكون شفقةً على محاولته المتلعثمة ليكون خفيف الظل أم ضحكوا على مرح العبارة ذاتها. لكن أحدًا أبدًا لم يقل: "كم هو ظريف!" في نبرة ساخرة، كما فعلت كاينين في اليوم الأول في قاعة الكوكتيل بفندق القصر الفيدرالي. كانت تدخن. وتقدر أن تُخرج حلقات منتظمة من الدخان. كانت تقف في الدائرة نفسها التي يقف بها مع سوزان، رمقها بنظرة وقد ظن أنها عشيقة لأحد السياسيين. هو يفعل ذلك مع الناس الذين يقابلهم، يحاول أن يخمن سببًا لوجودهم هناك، لكي يحدد مَن الذي جاء بصحبة أحدهم. ربما لأنه لم يكن ليتواجد في أيّ من تلك الحفلات إلا بسبب سوزان. لم يعتقد أن كاينين ابنة أحد الأثرياء النيجيريين لأنه لم يكن لديها شيء من التهذّب المحتشم. بدت أكثر كأنها عشيقة: لون طلاء شفتيها الأحمر النحاسي، فستانها الضيق، تدخينها. لكنها لم تكن تبتسم تلك الابتسامة البلاستيكية التي تفعلها العشيقات. لم يكن حتى لديها ذلك الجمال العام الذي يجعله يميل لتصديق الإشاعة التي تقول إن السياسيين النيجيريين يبادلون عشيقاتهم. في الحقيقة لم يكن لديها أي جمال على الإطلاق. لم يلحظ ذلك بالفعل إلا بعدما نظر إليها ثانيةً بينما أحد أصدقاء سوزان يقوم بتقديم الناس. "هذه هي كاينين أوزوبيا، ابنة الشيخ أوزوبيا. كاينين للتو قد حصلت على الماجستير من لندن. كاينين، هذه هي سوزان جرينفيل-بيتس من القنصلية البريطانية، وهذا ريتشارد تشرشل." "كيف حالك،" قالت سوزان لكاينين، ثم التفتت لتتحدث لضيف آخر. "هاللو،" قال ريتشارد لكاينين. كانت كاينين صامتة لفترة طويلة، بسيجارة بين شفتيها، وهي تنظر إليه بهدوء، فمرر يده بين شعره ودمدم: "لست أحد أقرباء سير وينستون، من أسف، وإلا لكنتُ أكثر ذكاءً قليلاً." زفرت قبل أن تقول: "ياللظرف." كانت نحيفة جدًّا وطويلة جدًّا، تقريبًا في نفس طوله، وكانت تحدّق مباشرة في عينيه، بتعبير فولاذي خاوٍ. بشرتها كانت في لون الشوكولاتة البلجيكية. بسط ساقيه باتساع أكثر ثم ضغط على قدميه بقوة، لأنه خاف إن لم يفعل ذلك ربما يجد نفسه يدور ويصطدم بها. عادت سوزان وجذبته بقوة لكنه لم يود أن يمضي، وحينما فتح فمه، لم يكن يعرف ماذا سيقول: "إنني أتحدث إلى كاينين ولدينا صديق مشترك في لندن. هل أخبرتك عن ويلفريد لاعب كرة القدم؟." "أوه،" قالت سوزان وهي تبتسم. "يا له من شيء جميل. سوف أترككما معا إذًا. سأعود بعد قليل." تبادلت القبلات مع زوجين مسنين قبل أن تنضم إلى مجموعة من الضيوف في نهاية القاعة. "لقد كذبت على زوجتك،" قالت كاينين. "ليست زوجتي." كان مندهشًا كيف استهتر ووقف معها هكذا. رفعتْ كأسها إلى شفتيها ورشفت. تنفستْ وزفرتْ. بعض الرماد الفضي تناثر على الأرض. كل شيء بدا وكأنه بالتصوير البطيء: قاعة الحفلات بالفندق اتسعت وتمددت والهواء كان يُستنشق ويُزفر في الفضاء الذي بدا لوهلة لا يشغله سوى هو وكاينين وحسب. "هلا ابتعدتَ من فضلك؟" سألتْ. أجفل. "ماذا؟" "هناك مصوّر خلفك حريص على أخذ صورة لي، وتحديدًا صورة للعُقُد في عنقي." تحرك جانبًا وشاهدها وهي تشخص في الكاميرا. لم تتخذ وضعًا للتصوير لكنها بدت مرتاحة؛ كأنما هي معتادة على تصويرها في الحفلات. "سوف يظهر العقد في عدد الغد من "حياة لاجوس". أفترض أنه سيكون طريقتي الخاصة لخدمة بلدنا الجديد المستقل. أُعطي المواطنَ النيجيري مثالاً مغريًا، حافزًا للعمل الجاد،" قالت، وهي تعود للخلف لتقف جواره. "عقدٌ جميل،" قال، رغم إنه بدا مبهرجًا. ودّ أن يمد يده ويمسّه، لكي يرفعه عن عنقها، ثم يتركه يستقر من جديد فوق جيدها المفرّغ. عظمة الترقوة كانت بارزة بحدّة. "بالطبع هو ليس جميلاً. أبي لديه ذائقة فاحشة فيما يخص الحُليّ،" قالت. "لكنها أمواله. بالمناسبة، أرى شقيقتي ووالديّ يفتشون عني، يجب أن أذهب." "شقيقتك هنا؟" سأل ريتشارد بسرعة قبل أن تتمكن من الاستدارة لتمضي. "أجل. نحن توأمتان،" قالت وتوقفت، كأنما كان هذا اكتشافًا مهمًّا. "كاينين وأولانا. اسمها غنائيٌّ يعني: ذهبُ الآلهة، بينما اسمي أكثر عملية: لنرَ ما الذي سيهبنا الربُّ المرة القادمة." شاهد ريتشارد الابتسامة التي شدّت فمها للأعلى، ابتسامة تهكمية تخيّل أنها تُخفي وراءها شيئًا، ربما عدم رضا. لم يدر ماذا يقول. شعر أن الوقت يتسرب بعيدًا عنه. "مَن منكما الأكبر؟" سأل. "مَن الأكبر؟ يا له من سؤال." قوّست حاجبيها. "لقد أخبروني أنني خرجتً أولاً." أرجح ريتشارد كأس النبيذ في يده وتساءل ما إذا كانت قبضته عليه الآخذة في الإحكام يمكن أن تهشمه. "ها هي شقيقتي هناك،" قالت كاينين. هل أعرّفكما؟ كل الناس يريدون الحديث إليها." لم يستدر ريتشارد ليشاهد. "أفضّلُ الحديث إليكِ أنتِ،" قال. "إذا لم تمانعي." مرّر يده خلال شعره. كانت تتأمله؛ أحسّ كأنه مراهق بتحديقتها فيه. "لقد خجلتِ،" قال. "لقد نعتوني بما هو أسوأ." ابتسمتْ، بطريقة تعني أنها وجدت ذلك طريفًا، وجعله ذلك يشعر بأنه بارع لأنه جعلها تبتسم. "هل ذهبتَ من قبل إلى سوق بالوجان؟" سألته. "يعرضون شرائح من اللحم فوق الطاولات، والمفترض أنك تمسّ وتحسّ ثم تقرر أيها تريد. شقيقتي وأنا شريحتا لحم. نحن هنا لكي يقرر الجزارُ المناسب، ثم يتمّ الذبح." "أوه،" قال. بدا هذا شيئًا حميمًا لتخبره به، رغم أنه قيل في نفس النبرة الجافة الساخرة التي بدت طبيعةً فيها. ودّ أن يخبرها بشيء عن نفسه أيضًا، ودّ أن يتبادل معها بذرة الحميمة الصغيرة ذاتها. "ها هي تأتي الزوجةُ التي أنكرتَها،" دمدمتْ كاينين. عادت سوزان وزجّت بكأس في يده. "هاك يا حبيبي،" قالت ثم التفتت إلى كاينين قائلة: "كم هو لطيف أن ألتقيكِ." "كم هو لطيفٌ أن ألتقي بك،" قالت كاينين ورفعت كأسها نصف رفعةٍ لسوزان. قادته سوزان بعيدًا. "إنها ابنة الشيخ أوزوبيا، أحقا هي؟ مهما حصل لها؟ غريبٌ تمامًا؛ أمُّها مذهلة، مذهلة جدًّا. الشيخ أوزوبيا يمتلك نصف لاجوس لكن به ثمة ما يسمى ثراءً جديدًا. ليس لديه الكثير من التعليم النظامي، كما ترى، ولا زوجته لديها أيضًا. أظن أن ذلك هو السبب في أنه ملحوظٌ جدًا." عادة ما كان ريتشارد يتسلى بالسيرة الذاتية المختصرة التي تطلقها سوزان، لكن اليوم أزعجته تلك الوسوسة. لم يكن يريد الشمبانيا؛ أظافرها كانت تخز ذراعه. قادته إلى مجموعة من المغتربين وتوقفت لتدردش، وتضحك بصوتٍ عالٍ، ثملةٌ قليلاً. بحث في القاعة عن كاينين. أول الأمر لم يستطع أن يجد الفستان الأحمر وبعد ذلك رآها تقف جوار والدها؛ الشيخ أوزوبيا يبدو ثريًّا، بإشارات يديه المقوستين بدا كأنه يتكلم، بذلته الأجبادا المعقدة بطبقاتها الكثيفة الزرقاء جعلته يبدو أسمن مما هو فعلاً. مسز أوزوبيا كانت في نصف حجمه وترتدي دثارًا وغطاء رأس من نفس القماش الأزرق. أجفل ريتشارد لحظيًّا من إتقان عينيها اللوزيتين، واسعتان في وجه أسود البشرة تخاف النظر إليهما. لم يكن ليخمن أبدًا أنها والدة كاينين، ولا كان بوسعه أن يخمّن أن كاينين وأولانا توءمتان. أولانا كانت تشبه أمَّها، رغم أن جمالها كان أوضح بتلك البشرة الأنعم وتلك الابتسامة العذبة وذلك الجسد الغض ذي الاستدارات الذي يملأ فستانها الأسود. ذلك الجسد الذي تسميه سوزان أفريكان. بدت كاينين أكثر نحافة جوار أولانا، تقريبًا أكثر خنوثة، فستانها الطويل الضيق يحدد مؤخرتها الصبيانية. حملق ريتشارد فيها لوقت طويل، آملاً أن تبحث عنه هي أيضًا. بدت منعزلة تنظر إلى الناس في مجموعتها بتعبير مختلف، تعبير متهكم. وأخيرًا نظرت إلى أعلى والتقت عيناها بعينيه فأمالت رأسها ورفعت حاجبيها، كأنما تعرفُ جيدًا أنه كان ينظر إليها. تفادى نظرتها ثم سرعان ما عاود النظر إليها، مقررًا أن يبتسم هذه المرة، لكي يعطي ملمحًا مفيدًا، لكنها كانت أدارت ظهرها. ظل ينظر إليها حتى غادرت مع أبويها وأولانا. قرأ ريتشارد المقال التالي من مجلة "حياة لاجوس"، وحينما رأى صورتها بحث عن تعبيرها، باحثًا عمّا لم يعرفه. كتب عدة صفحات بتدفق إكتئابيٍّ موّارٍ، ترسم صورًا سردية عن امرأة أبنوسية طويلة بصدر مسطّح. ذهب إلى مكتبة القنصلية البريطانية وبحث عن والدها في جرائد الأعمال. دوّن الأربعة أرقام المجاورة لاسم أوزوبيا في دفتر التليفون. التقط هاتفه عدة مرات ووضع السماعة حينما سمع صوت عاملة التليفون. مارس ما كان يقوله أمام المرآة، الإيماءات التي كان يجب أن يعملها، رغم أنه يعرف أنها لن تراه إذا ما تحدثا في التليفون. كان ينوي أن يرسل لها كارت بوستال أو ربما سلة من الفاكهة. وأخيرًا، تكلّم. لم يبد أنها اندهشت حينما سمعته. أو ربما كان ذلك لأنها بدت هادئة جدًّا، بينما كان قلبه يدق بقوة في صدره. "هل تودين اللقاء على مشروب؟" سألها. "نعم. ما رأيك أن نرى فندق زوبيس في الظهيرة؟ هو ملك لأبي، وبوسعنا أن ننال جناحًا خاصًّا." "نعم، نعم، سوف يكون ذلك جميلاً." أغلق الخط مصدومًا. لم يكن واثقًا ما إذا كان يجب أن يكون مُثارًا، إذا كان جناح مخصوص كلمة مكشوفة موحية. حينما التقيا في قاعة الفندق، اقتربت منه حتى تمكن من تقبيل خدّها ثم أخذا طريقهما للأعلى، إلى الفيراندا، حيث جلسا ينظران إلى النخيل بالأسفل حول حوض السباحة. كانت الشمسُ مشرقة، والنهارُ مضيئًا. بين الحين والآخر تهبُّ نسمةٌ تهزُّ جريد النخيل، وأمِل ألا يتشعث شعره جدًّا وأن تمنع المظلة فوقهما البقعتين الحمراوتين كالطماطم اللتين تظهران في خدّيه كلما تعرّض للشمس. "بوسعك أن ترى هيثجروف من هنا،" قالت، وهي تشير. "والمدرسة الثانوية البريطانية السرية فاحشة الغلاء التي درسنا بها، شقيقتي وأنا. رأى والدي أننا أصغر من أن يرسلنا للدراسة بالخارج، لكننا صممنا أن نكون أوروبيتين بقدر الإمكان." "هل هي تلك البناية ذات البرج؟" "نعم. المدرسة كلها بنايتان فقط، بالفعل كان القليل جدًّا منا هناك. إنها مدرسة حصرية جدًّا حتى أن الكثير من النيجيريين لا يعرفون بوجودها." نظرت إلى كأسها برهةً. "هل لك أشقاء؟" "لا. كنتُ طفلاً وحيدًا. مات والداي حينما كنتُ في التاسعة." "التاسعة!. كنتَ صغيرًا." كان سعيدًا أنها لم تبد متعاطفة جدًّا، على ذلك النحو الزائف الذي يفعله بعض الناس، كأنما يعرفون أبويه وما هم بعارفيهم. "كانا معظم الوقت بعيديْن. كانت مربيتي موللي التي ربّتني. وبعد موتهما قُرّرَ أن أعيش مع عمتي في لندن." توقف ريتشارد، مسرورًّا بتلك الحميمة التي بدأت بالكلام عن نفسه، وهو الشيء الذي نادرًّا ما فعل. "ابنا عمومتي مارتين وفرجينيا كانا في مثل عمري لكنهما كانا معقَّديْن جدًّا؛ العمة إليزابيث كانت ذات مقام عالٍ جدًّا، ذاك أنني كنت ابن العمة من قرية تافهة في شروبشاير. بدأت التفكير في الهروب منذ اليوم الأول لوصولي هناك." "أحقًّا؟" "عدة مرات. وكانوا يجدونني دائمًا. أحيانًا في بداية الشارع." "إلى أين كنت تهرب؟" "ماذا؟" "إلى أين كنتَ تهرب؟" فكر ريتشارد برهةً. يعلم أنه كان يهرب من بيت به صور ناس ماتوا منذ زمن طويل على حوائط تزفر أنفاسها عليه. لكنه لم يكن يعرف إلى أين كان يهرب. هل يفكر الأطفال أبدًا في ذلك؟" ""ربما كنت أهرب إلى موللي. لا أعرف." "أنا أعرف إلى أين أردت أن أهرب. لكنه لم يكن موجودًا، لذلك لم أرحل." قالت كاينين، وهي تميل للخلف في مقعدها. "وكيف ذلك؟" أشعلت سيجارة، كأنما لم تسمع سؤاله. جعله صمتها مهزومًا وكان شغوفًا ليكسب من جديد اهتمامها. ودّ أن يخبرها عن الوعاء المربوط بالحبال. لم يكن متأكدًا أين قرأ للمرة الأولى عن فن إيبو-أوكوا، عن الرجل البدائي الذي كان يحفر بئرًا ثم اكتشف سبائك البرونز التي ربما تكون الأولى في أفريقيا، ويعود تاريخها إلى القرن التاسع. لكن كان قد شاهد صورها في "مجلة المستعمرات". برز الوعاء الحبليّ فورًا؛ مرّ بإصبعه على الصورة وتحرّق شوقًا ليمسّ السبيكة المعدنية الناعمة. ودّ أن يشرح كيف أنه فُتِن بعمق بالوعاء لكنه عدل عن رأيه. يجب أن يعطي ذلك وقتًا. شعر براحة عجيبة لهذه الفكرة لأنه اكتشف أن أكثر ما يريده معها، كان الوقت. "هل جئت إلى نيجيريا لتهرب من شيء ما؟" سألته أخيرًا. "لا،" قال. "كنتُ دائمًا منعزلاً وتُقتُ دائمًا لرؤية أفريقيا، لذلك استقلت من وظيفتي في الجريدة المتواضعة وحصَّلت قرضًا كريمًا من العمة وها أنا هنا." "لم أكن لأفكر أنك منعزل." "لماذا؟" "لأنك وسيم. الجميلون عادة غير وحيدين." قالت ذلك ببرود كأنما ليست مجاملة، ولذا أمِل ألا تلاحظ كم أحمرّ خجلاً. "حسنٌ، نعم أنا وسيم،" قال؛ لم يكن بوسعه أن يفكر في شيء آخر يقوله. "كنت دائمًا وسيمًا." ""منعزلٌ ومستكشفٌ حداثيٌّ للقارة السوداء،" قالت بجفاف. ضحك. انسكبَ الصوتُ منه، دون تحكم منه، فنظر للأسفل لحوض السباحة الأزرق الصافي وراح يفكر، دون اكتراث، أن تلك الظلال الزرقاء كانت لون الأمل. تواعدا اليوم التالي على الغداء، واليوم الذي يليه. كل مرة كانت تقوده للجناح ويجلسان في الفيراندا يأكلان الأرز ويحتسيان بيرة باردة. مسّت حافة كأسها بطرف لسانها قبل أن تشرب. أثاره هذا، تلك اللمحة الخاطفة للسان الوردي، والأكثر أنها لم تكن منتبهة لما تفعل. صمتها كان متأملاً، منعزلاً، ومن ثم فقد تواصله معها. ربما ذلك بسبب أنها كانت بعيدة ومنسحبة. وجد نفسه يتكلم بطريقة لم يعتدها، وحينما ينتهي وقتهما معاً وتنهض، عادة لتلحق بأبيها في اجتماع، يجد قدميه مثقلتان بدم متخثر. لم يكن يرغب في الرحيل، لم يكن يتحمل فكرة الرجوع ليمكث في غرفة مكتب سوزان ليكتب وينتظر دقّات سوزان الخافتة على الباب. لم يفهم لماذا لم تشك سوزان في شيء، لماذا لم تنظر إليه ببساطة وتخبره كم يبدو مختلفًا، لماذا حتى لم تلحظ أنه يرش المزيد من عطر ما بعد الحلاقة هذه الأيام. لم يكن خائنًا لها طبعًا، لكن الإخلاص لا يمكن أن يتعلق بالجنس وحسب. ضحكه مع كاينين، حديثه معها عن العمة إليزابيث، مشاهدة كاينين وهي تدخن، بالتأكيد كانت لونًا من عدم الوفاء؛ كان يشهر بذلك. دقّات قلبه المتسارعة حينما تقبّله كاينين قبلة الفراق كانت نوعًا من عدم الوفاء. يدها القابضة على يده على المائدة كانت عدم وفاء. ولذلك اندهش يوم لم تعطه كاينين قبلة الوداع المعتادة وبدل ذلك ضغطت فمها على فمه مباعدة ما بين شفتيها. لم يسمح لنفسه بأن يأمل في الكثير. ربما لهذا جانبه الانتصاب: انتابه خليط واهن بين الدهشة والرغبة. خلعا ملابسهما سريعًا. التصق جسده العاري بجسدها وسرعان ما كان منهكًا. تحسس زوايا عظام رقبتها ومؤخرتها آملاً أن يعمل جسده مع عقله ليؤدي أداءً أفضل، آملاً أن تتحول رغبته إلى إثارة. لكنه لم يتصلّب. كان بوسعه أن يحسّ بالكتلة الرخوة بين ساقيه. جلست في الفراش وأشعلت سيجارة. "أنا آسف،" قال، وحينما هزّت كتفيها ولم تقل شيئًا، تمنى لو لم يعتذر. كان ثمة شيءٌ مقبضٌ في الغرفة المؤثثة بفخامة في الجناح، وهو يرتدي بنطاله الذي كأنما لم يُخلع وهي تشبك سوتيانها. تمنى لو أنه قال شيئٍا. "هل سنلتقي غدًا؟" سأل. أخرجت الدخان من أنفها، وسألت فيما تشاهده يتلاشى في الهواء: "هذا فظ، أليس كذلك؟" "هل سنلتقي غدًا؟" سأل ثانيةً. "سوف أذهب إلى ميناء هاركورت مع أبي لنقابل بعض رجال النفط،" قالت. "لكنني سأعود بعد ظهيرة الأربعاء. يمكننا تناول غداءً متأخرًا." "نعم، حسنٌ،" قال ريتشارد، وحينما التقيا في قاعة الفندق بعد ذلك بأيام كان قلقًا ألا تأتي. تناولا الغداء وتفرَّجا على السابحين بالأسفل. كانت أكثر حيوية، تدخن أكثر، تتكلم أكثر. حدثته عن الناس الذين التقتهم منذ بدأت تعمل مع والدها، وكيف أنهم جميعًا متشابهون. "الطبقة الصاعدة الجديدة في نيجيريا هي جُماع غير المتعلمين الذين لم يقرأوا شيئًا ويأكلون ما لا يشتهون في مطاعم لبنانية غالية ولديهم أحاديث اجتماعية حول موضوع واحد: "كيف تبدو السيارة الجديدة؟" مرةً ضحكتْ. ومرة أمسكت يده. لكنها لم تسأله عما حدث في الجناح، وتساءل ما إذا كانت تريد أن تمهله وقتًا أو ما إذا كانت قد قررت أنها لم تكن نوع العلاقة التي تريدها معه. لم يقدر أن يؤهل نفسه للعمل. مرت أيام قبل أن تسأله إذا كان يرغب في الدخول، وشعر كأنما هو ممثل بديل يأمل ألا يظهر الممثل الأصلي، وحينما لا يظهر الممثل الحقيقي فعلاً يُعجزه الخوف، لم يكن مستعدًّا لأضواء خشبة المسرح كما كان يظن. قادته للداخل. وحينما بدأ في رفع فستانها فوق فخذيها، دفعته عنها بهدوء، كأنما كانت تدرك أن سُعاره لم يكن إلا قناعًا لخوفه. علقت فستانها فوق المقعد. كان مرتعبًا من خذلانها مرة أخرى حتى أن رؤيته نفسه منتصبًا جعله مهتاجًا بفرح، وممتنًّا أنه وحسب استطاع أن يلجها قبل أن يحس بارتعاشة لا إرادية، حتى أنه لم يستطع أن يتوقف. رقدا هناك، هو فوقها، لبرهة، ثم نزل عنها. أراد أن يخبرها أن هذا لم يحدث له من قبل. حياته الجنسية مع سوزان كانت مُرضيةً، رغم روتينيتها. "أنا آسف جدًّا،" قال. أشعلت سيجارة، وهي تنظر إليه. "هل تود المجيء للعشاء الليلة؟ والديّ دعيا أشخاصًا قليلين." لوهلة، كان مصدومًا. ثم قال: "نعم بكل سرور." كان يأمل أن الدعوة تعني شيئًا ما، تعكسُ تحوُّلاً ما في طبيعة العلاقة. لكن، حينما وصل بيت أبويها في إكويي، قدمّته بقولها: "هذا هو ريتشارد تشرشل،" ثم توقفت وقفةً بدت كأنها جرأة حذرة أمام والديها وبقية الضيوف لتتركهم يفكرون عن طبيعة العلاقة. نظر والدها إليه مليًّا وسأله عن عمله. "كاتب،" قال. "كاتب؟ نعم،" قال الشيخ أوزوبيا. تمنى ريتشارد لو لم يقل إنه كاتب لذلك أضاف، كأنما ليصلح قوله بأنه كاتب: "أنا مفتون بالاكتشافات في إيبو-أكوو. سبائك البرونز." "مممم،" تمتم الشيخ. "هل لديك عائلة لديها أعمال في نيجيريا؟" "للأسف لا." ابتسم الشيخ ونظر بعيدًا. لم يقل شيئًا آخر لريتشارد لبقية المساء. ولا فعلت مسز أوزوبيا، التي كانت تمشي في إثر زوجها هنا وهناك، بأسلوبها الملكي، وجمالها المخيف عن قرب. كانت أولانا مختلفة. كانت ابتسامتها حنونًا حينما قدمتهما كاينين، لكن حين تكلَّما معًا، كانت أكثر دفئًا وتساءل ما إذا كان الخفقان في عينيها شفقة، ما إذا كانت قد خمنت كم كان حريصًا أن يقول الشيء المناسب لكنه لم يكن يعرف ما هي تلك الأشياء المناسبة التي عليه قولها. دفئها كان مجاملاً له. شعر بافتقادها على نحو غريب حينما جلست بعيدًا عنه على الطاولة. كانت السلاطة فقط قد قُدّمت حينما بدأت تتحدث مع الضيوف حول السياسة. عرف ريتشارد أن الحديث كان حول احتياج نيجيريا أن تكون جمهورية وتتوقف عن مناداة الملكة إليزابيت بوصفها رأس الدولة، "ألا توافق يا ريتشارد؟" كأنما رأيه يهم. "تنحنح وقال: "أوه، تمامًا،" رغم أنه لم يكن متأكدًا ما هو الذي يوافق عليه. شعر بامتنان أنها جذبته للنقاش، وكان مفتونًا بكفاءتها التي بدت نخبوية وبدائية في آن، مثالية أبت أن تخنقها الواقعية. بشرتها كانت تشع. عظمتا وجنتيها كانتا ترتفعان وهي تبتسم. لكنها كانت تفتقر إلى غموض حزن كاينين، الذي يبهجه ويربكه. جلست كاينين جواره وتكلمت قليلاً أثناء العشاء، مرة سائلة بحدة أحد الخدم أن يغير الكأس الذي بدا غائمًا، ومرّةً مالت لتسأل: "الصوص مثير للغثيان، أليس كذلك؟" كانت غامضة تقريبًا، وهي تنظر، تشرب، تدخن. كان شغوفًا ليعرف فيما تفكر. كان يحس بذلك الألم الجسديّ كلما اشتهاها، وكان يحلم بأن يدخلها، دافعًا بأعمق ما يستطيع، لكي يكتشف شيئًا خبيئًا يعرف أنه أبدًا لم يعرفه. كان ذلك أشبه باحتساء كأس ماء إثر كأس والعطش باق، مع الخوف المتجدد من استحالة إطفاء الظمأ. كان ريتشارد قلقًا بشأن سوزان. كان يراها، بذقنها الحادة وعينيها الخضراوين، ويقول لنفسه إنه لم يكن عدلاً أن يخدعها، أن يتوارى في غرفة المكتبة حتى تنام، أن يكذب عليها بأنه كان في المكتب أو المتحف أو نادي البولو. هي تستحق أفضل من ذلك. لكن ثمة استقرارًا مطمئنًا في أن يكون معها، أمانًا خاصًّا في همسها وفي غرفة مكتبتها التي على حوائطها اسكتشات بالرصاص من شكسبير. كاينين مختلفة. كان يغادر كاينين ممتلئًا بسعادة ماجنة وإحساس مدوّخ بعدم الأمان. كان يود أن يسألها عما تفكر في الأمور التي لم يناقشاها أبدًا- علاقتهما، المستقبل، سوزان- لكن انعدام ثقته كان يخرسه في كل مرة؛ كان خائفًا من إجاباتها المحتملة. طرح جانبًا أية مناقشات حتى الصباح حيث صحا وبدأ يفكر في ذلك اليوم في وينتنور، حينما كان يلعب بالخارج وسمع مولي تناديه. "ريتشارد الخارق!" وبدل أن يجيب "حاضر أنا قادم!" ثم يركض نحوها، اختبئ تحت السياج، فكشط ركبتيه. "ريتشارد! ريتشارد!" بدت موللي ثائرةً جدًّا هذه المرة، لكنه ظل جاثمًا في صمت. "ريتشارد، أين أنت يا ديكي؟" توقف أرنبٌ وراح نظر إليه، فتبادل النظر مع الأرنب في ثبات، وفي تلك اللحظات القليلة، كان الأرنب وهو فقط يعلمان أين هو. بعدئذ وثب الأرنب خارجًا فحدّقت موللي تحت الأغصان ورأته. ضربته بعنف. وأمرته أن يبقى في غرفته بقية اليوم. وقالت إنها محبطة جدًّا وإنها سوف تخبر مستر ومسز تشرشل. تلك اللحظات القصيرة جعلت الأمر ذا قيمة، لحظات الهجر الصافية تمامًا، حينما شعر كأنما هو، هو وحده، المتحكم في عالم طفولته. حينما تذكر تلك اللحظات، قرر أنه يجب أن ينهي الأمر مع سوزان. علاقته مع كاينين ربما لن تستمر طويلاً، لكن لحظات اللقاء بها، وهو يعلم أنه غير مثقَل بالأكاذيب والادّعاء، تستحق كل هذا. قوَّى قرارُه معنوياتِه. لكنه أرجأ إخبار سوزان أسبوعًا آخر، حتى ذلك المساء الذي عادا فيه من حفل حيث شربت عدة كؤوس من النبيذ. "هل تريد قلنسوة نوم يا حبيبي؟" سألته. "سوزان، أنا أهتمّ بك كثيرًا،" قال باندفاع. "لكنني لست واثقًا من أن الأمور على ما يرام- ثمة أشياءُ بيننا." "ماذا تقول؟" سألت سوزان رغم أن نبرتها الخامدة ووجها الجفِل أخبراه أنها تعرف تمامًا ماذا قال. مرّر يده على شعره. "مَن هي؟" سألت سوزان. "ليست امرأة أخرى. أنا فقط أظن أن احتياجاتنا مختلفة." أمِلَ ألا يبدو غير مخلص، لكنها كانت الحقيقة؛ كانا دائمًا يريدان أشياء متباينة، كانا دائمًا يقدِّران أشياء متباينة. ما كان عليه أبدًا الانتقال للسكنى معها. "أليست كلوفيس بانكروفت، أليس كذلك؟" أذناها كانتا حمراوين. دائما ما تحمرّان بعدما تشرب، لكنه لم يلحظ غرابة ذلك إلا الآن فقط، برزت الأذنان الحمراوان غضبًا في وجهها الشاحب. "لا، طبعا لا." صبّت سوزان لنفسها كأسًا ثم جلست على جانب الأريكة. ثمة صمت لبرهة. "أغرمتُ بكَ منذ اللحظة التي رأيتكَ فيها ولم أكن أتخيل أن ذلك سيحدث بالفعل. فكرتُ كم أنت وسيم ورقيق، وكان يجب أن أقرر هناك أنني يجب ألا أتركك تمضي." ضحكت بهدوء، ولاحظ الخطوط الدقيقة حول عينيها. "سوزان-" قال، ثم توقف، لأنْ لم يكن ثمة ما يُقال. لم يكن يعرف أنها تفكر في هذه الأمور عنه. أدرك الآن كم كانا يتكلمان قليلاً، وكم كانت علاقتهما مثل فيضان ساذج له القليل من مُدخلاتهما، أو على الأقل من مُدخلاته هو. كانت العلاقة قد حدثت. "الأمر كله مباغتٌ لكَ، أليس كذلك؟" قالت سوزان. مشيتْ ووقفت جواره. كانت قد استعادت هدوءها؛ ذقنها ما عادت ترتعد. "لم تُتح لك الفرصة لتستكشف، بالفعل، لترى المزيد من البلد كما رغبتَ أن تفعل؛ انتقلتَ إلى السكنى هنا وجعلتك تذهب إلى تلك المحافل الشنيعة لتلتقي ببشر لا يهتمون بالكتابة ولا بالفن الأفريقي ولا تلك الأشياء. لابد أن ذلك كان فظيعًا عليك، أنا آسفة بشدة يا ريتشارد، وأنا أتفهم. بالتأكيد لابد أن ترى بقية البلد. هل بوسعي أن أساعد في ذلك؟ لدي أصدقاء في إنيوجو وكاديونا." أخذ ريتشارد منها الكأس، ووضعه جانبًا، ثم أخذها بين ذراعيه. شعر بحنين طفيف لعطر التفاح المألوف في شامبو شعرها. "لا، سوف أكون على ما يرام،" قال. لم تكن تظن أن الأمر بالفعل انتهى، كان ذلك واضحًا؛ ظنت أنه سوف يعود فهو لم يقل شيئًا يجعلها تفكر بشكل آخر. حينما فتح الخادم بزيه الأبيض الباب الأمامي لكي يخرج ريتشارد شعر بارتياح خفيف. "مع السلامة يا صاح،" قال الخادم. "مع السلامة يا أوكون." وتساءل ريتشارد ما إذا وضع أوكون الغامض أذنيه على الباب يومًا حينما كان هو وسوزان في أحد شجارات تحطيم الكؤوس. كان مرة قد طلب من أوكون أن يعلمه بعض الجمل البسيطة بلهجة الإيفيك، لكن سوزان أوقفت ذلك حينما وجدتهما معًا في المكتبة، كان أوكون يتململ بينما ريتشارد ينطق الكلمات. نظر أوكون إلى سوزان بامتنان، كأنما قد أنقذته من رجل أبيض مجنون، ثم كانت نبرة سوزان رقيقة وهي تقول إنها تفهم أن ريتشارد لم يكن يعرف كيف تتم الأمور. ليس بوسع المرء أن يعبر خطوطًا معينة. ذكرته النبرة بالعمة إليزابيث، بالآراء الممهورة بالأناقة الإنجليزية المُحبة للذات تلك التي لا تعتذر. ربما لو كان أخبرها عن كاينين، كانت ستستعمل النبرة ذاتها لتخبره أنها تفهم تمامًا احتياجه ليجرب امرأة سوداء. شاهد ريتشارد أوكون يلوّح له وهو يقود السيارة مبتعدًا. غمرته رغبةٌ مُلّحة في الغناء، إلا أنه لم يكن رجلاً يغني. كل البيوت في شارع جلوفر كانت تشبه بيت سوزان، غالية الثمن، تحتضنها أشجارُ النخيل وبُسُطٌ من العشب الواهن. في الظهيرة التالية، جلس ريتشارد عاريًا في السرير، ينظر للأسفل إلى كاينين. كان قد أخفق معها مرة أخرى. "أنا آسف. أعتقد أنني مُجهد،" قال. "ممكن سيجارة؟" سألت. حدّدت الملاءة الحريرية نحافة جسدها العاري ذي الزوايا. أشعلها لها. جلست في الفراش فسقطت الملاءة، حلماتها البنيتان كانتا تشعان في الغرفة المكيفة بالهواء البارد، نظرت بعيدًا وهي تزفر. "سوف نعطي الأمر وقتًا،" قالت. "وهناك طرقٌ أخرى." شعر ريتشارد بجيشان سريع من التوتر، تجاه نفسه لكونه رخوًا بلا فائدة، وتجاهها لتلك الابتسامة نصف المتهكمة ولقولها بأن ثمة طرقًا أخرى، كأنما لديه عجز دائم لفعل الأشياء بالطرق التقليدية. يعرف ما بوسعه فعله. يعرف أن بوسعه إرضاءها. كل ما يحتاجه هو الوقت. كان قد بدأ يفكر رغم ذلك في بعض الأعشاب، أعشاب تقوية ذَكرية يذكر أنه قرأ عنها في مكان ما، تلك التي يتناولها رجال الفرقة. "نسوكا ليست إلا بقعةً صغيرة من الغبار في منتصف الغابة، أرخص أرض يمكنهم الحصول عليها لكي يبنوا عليها الكون،" قالت كاينين. كان هذا مفزعًا، ما أسهل ما تنزلق إلى حوار عادي. "لكن لابد أنها ممتازة لكتابتك، أليس كذلك؟" "أجل." قال. "ربما أحببتَها وتود الاستمرار في الإقامة بها.