في عام تسعة وسبعين من القرن الماضي شاركت في ندوة الرواية بمدينة فاس، نظمها اتحاد الكتاب المغربي وكان يرأسه في ذلك الوقت الدكتور محمد برادة، اعتبر المؤتمر من أهم ما حضرت خلال الثلاثين عاما الماضية، فيه التقيت الطاهر بن جلون، وخلال الثلاثين عاماً التالية اتصلت العلاقة، ليس في المغرب فقط، انما في باريس وتورينو وجنيف ونيويورك، تابعت صعوده المتئد في الأدب العربي المكتوب بالفرنسية، كذلك المحطات الرئيسية في حياته، خاصة حصوله علي جائزة جونكور، خلال هذه السنوات لاحظت ثوابت في سيرته، منها اعتزازه بثقافته العربية، عندما التقيته أول مرة كان حديثه بالعربية متعثراً، الآن يتحدث بطلاقة، أيضا مواقفه ذات البعد القومي والإنساني، إنه أحد المدافعين، الشارحين للقضية الفلسطينية خاصة في فرنسا، كما أنه من النشيطين في مجال حقوق الإنسان، أيضا يرحب الطاهر بالأدب العربي المترجم ويسعي للتعريف به، أسباب عديدة مصدر المودة والاحترام المستقران عندي تجاهه، الأسبوع قبل الماضي التقينا في مؤتمر حول الأدب في المتوسط بمدينة مارسيليا، عند العودة إلي باريس زرته في بيته الذي استقر به حديثاً بالحي اللاتيني، في البداية سألته عن المسافة الفاصلة بين أول كتبه وآخرها، أول كتاب كان عن العمال المغاربة المهاجرين إلي فرنسا، وآخر كتبه حوار بينه وبين ابنته عن الإسلام، الهدف منه شرح الإسلام للفرنسيين. قال الطاهر ما نصه: «الفرق ما بين الكتابين، ازدياد حالة الاغتراب لدي العمالة المهاجرة، ان حيواتهم بائسة جدا وماتزال، الآن أصبح من حق العمال مصاحبة عائلاتهم ولكن هذا نتج عنه مشاكل أخري، ان الهجرة إلي هذا البلد أو غيره في أوروبا لا تؤدي إلي السعادة، يعرف المصريون ذلك الآن، الهجرة فيها عنف وضغوط علي المصير، لا أتمني لأحد أن يهاجر مرغماً سواء كان سياسيا أو اقتصاديا، الهجرة الآن صارت ظاهرة عامة في معظم البلدان العربية والأفريقية، يهاجر الشباب لأنهم لم يجدوا فرص العمل في بلادهم، المفروض أن يقوم كل بلد باستثمار طاقات أبنائه، الآن يعمل أربعة ملايين مغربي في الخارج، هكذا تصبح الهجرة استثمارا له عائد، لكن هذا له عائد خطير، آخر رواية صدرت لي عن محمد المهاجر المغربي، من الجيل الذي اكتشفته في فرنسا، هذا المهاجر بلغ الخامسة والستين من العمر فأحيل إلي التقاعد، لم يتوقع ذلك، كان قد أعد نفسه للعمل كآلة حتي آخر العمر، لكنه صدم، وجد نفسه في فراغ، توقف الزمن الذي كان يعيش فيه، أصبح بلا هوية، بدأ يسأل نفسه، من أنا؟ ماذا أفعل هنا؟ اكتشف أنه عمل باستقامة ولكن لم يستفد معنويا أو نفسيا بهذه الهجرة، مثلا له خمسة أولاد يعملون ولهم حيواتهم، ما كان يفكر فيه أنه عمل بكل طاقته، باستقامة، لكنه لم يستفد معنويا أو نفسيا، مثلا له خمسة أولاد يعملون ولهم حيواتهم، ما كان يفكر يوما انهم سيبتعدون عنه، سيتركوه في ركنه ولن يهتموا به، صاروا فرنسيين يعيشون طبقا للتقاليد الفرنسية وهي مغايرة لتقاليده، قرر العودة إلي المغرب وحده وقام ببناء منزل كبير بكل ما أدخره ، المنزل شكله غير عادي، المنزل في ذهنه قبل أن يكون في الواقع، ظن أن الاولاد سيجيئون ويعيشون معه، لكن لا أحد يأتي وسيبقي جالساً علي الكرسي أمام الدار، المقعد سيتحول إلي قبره، بالنسبة لي أغلقت القوس، ما بين هذين الكتابين كتبت عن الواقع المغربي، المغرب هو الذي يغنيني ويعطيني المادة التي تساعدني علي فضح الأشياء. الاقامة قلت للطاهر إنه يقيم في المغرب فترات طويلة، ويقيم أيضا في باريس، ما علاقة ذلك بالكتابة وتأثيرها عليه؟ قال: «الكاتب الذي يرحل كثيرا يمكنه تكوين رؤيا متعددة الزوايا، في الغرب يمكنني تكوين رؤية موضوعية، العيش في مكان واحد قد يجعل الانسان لا يري أمورا كثيرة، عندما ابتعد جسديا عن المغرب أظل متعلقا بالبلد ومشاكلها، كادب يمكن أن يشعرك بالتناقض، البعد إلي حين يساعدك علي رؤية المشاكل بدقة، بالنسبة لي آخذ ذلك مأخذ الجد، القراء يحاكموني أحيانا إذا سكت عن ابداء رأيي في أمور معينة تقلقهم، هذا قدر الأديب في العالم الثالث،غير أنني أفضل للأديب ألا يدخل في الايديولوجيات السياسية، يمكن أن يكون مناضلا كمواطن. سألته عن موقفه الايجابي من القضية الفلسطينية، وعدم تأثير اللوبي الصهيوني عليه كأديب قال «عندما تكون مشهورا يكون من الضروري أن تبرز موقفك الطبيعي من القضايا الكبري، انني ادافع عن قضية عادلة، قضية الشعب الفلسطيني، لقد عشت مراحل القضية بالكامل. عبر كل المراحل، كافة الحلول التي كنا نحلم بها أصبحت الآن بعيدة عن الواقع، في البداية كنا ندافع عن شعب سلبت أرضه، ثم اكتشفنا قضايا أخري بعيدة لها صلة بالقضية الاصلية، الآن الأمور تعقدت، بالنسبة لكاتب عربي في فرنسا لابد أن يتكلم مدافعا عن قضية الشعب الفلسطيني، لاحظت أن القضية في فرنسا مسيطر عليها من وجهة نظر الصهيونية وكان من واجبي كتابة مقالات دفاعا عن هذه القضية، الآن لا أعرف هل أكتب عن حماس أو عن محمود عباس، الموقف هنا له جذور بعيدة، ثمة كتاب غربيون فتحوا الطريق لهذا الموقف، منهم أميل زولا خلال قضية دريفوس، ثم جان جينيه وميشيل فوكو، أصبح ذلك من التقاليد الثقافية الفرنسية. يتوقف الطاهر قليلاً ليتأمل صورة محمود درويش التي وضعها في مواجهة المقعد الذي اعتاد الجلوس إليه والتأمل، يتابع قائلا: «كتبت تقريرا عن الفظائع التي ارتكبت خلال حرب غزة، اكتشفنا أن موضوعية الحقائق لم ترض اسرائيل ولا مسانديها، مع أنه موضوعي وهو غير عربي وغير متعاطف، انه تقرير محايد، الاحظ بشكل عام أن اسرائيل تقدم نفسها دائما باعتبارها ضحية، انني اتعاون مع منظمة هيومان رايتس ووتش لحقوق الانسان، أنا عضو في مكتبها بباريس، والمنظمة لها موقف ممتاز في غاية الموضوعية وكانت وراء هذا التقرير الذي يفضح جرائم اسرائيل. جان جينيه سألته عن علاقته بجان جينيه قال علي الفور انه يكتب الآن هذه العلاقة، «تعرفت عليه عام أربعة وسبعين، ظلت قوية ومتينة حتي وفاته في ابريل ستة وثمانين، أول حاجة طلبها عند التعرف عليه أن يتعرف أكثر علي القضية، كان عائدا من الاردن، من معسكرات اللاجئين، قال إنه لابد من فضح ما رآه، كتب مقالا نشر في لوموند دبلوماتيك، قضي سنواته الأخيرة مهتما بالقضية الفلسطينية، قدمت إليه ليلي شهيد وهي التي رافقته إلي صبرا وشاتيلا، كان يقول لي دائماً: أحسن ما قدمته لي في حياتك انك عرفتني علي ليلي شهيد، أنها انسانة رائعة مناضلة، اختار أن يدفن في المغرب، واريته الثري في العرائس علي بعد ثمانية كيلو مترا من طنجة. يتوقف قليلا قبل أن يستأنف: «كان مهتما جدا بالاقليات، السود في أمريكا، الفلسطينيين، العمال المهاجرين إلي أوروبا، اعتبره آخر مثقف كبير في القرن العشرين كان ملتزما تماما بالقضية الفلسطينية، تحدثت إليه كثيرا ولساعات طويلة في أمور عديدة أهمها فلسطين، آخر كتبه «أسير عاشق» حول القضية، كان رداً علي كتاب سارتر «القضية اليهودية» في بداية حياة جينيه دعمه سارتر وكوكتو كثيرا، سارتر كتب عنه كتابا عنوانه «القديس»، لكن الكتاب أزعج جان جينيه وكان يعتبره بمثابة مرثية طويلة كأن سارتر دفنه حيا، لكن الخلاف حول فلسطين كان السبب الحقيقي لقطع العلاقة بين جان جينيه وسارتر وسيمون دوبوفوار أيضا. كانت علاقتي به مفيدة ومثرية لي ككاتب، تعلمت منه أشياء مهمة حول الكتابة، العلاقة باللغة، كان يهمل كثيرا مؤلفاته، لا يحب أن يتكلم عن كتبه، هذا أفادني حتي لا يدركني الغرور، بيني وبين كتبي مسافة كبيرة، بعد أن انتهي من رواية أو كتاب لا أعود إليه أبدا. سألته عن علاقاته الواسعة في أوروبا والولايات المتحدة، ليس بالأدباء الكبار فقط ولكن بشخصيات اجتماعية مرموقة، ما تأثيرها علي رؤيته، علي شخصه؟ قال الطاهر «لم اسع الي تلك العلاقات انما تأتي الأمور هكذا، عندما التقيت بسلمان رشدي تحدثنا عن الأدب والدين، كان ذلك قبل فتوي الخميني عام 8891. كان يقرأني بالانجليزية وكنت اقرأه بالفرنسية ومازلت علي علاقة به. الأقرب سألته عن الأدباء الأقرب إليه. قال: «اقرأ محمود درويش كلما شعرت بالحنين إليه، كان شاعراً عظيماً رحمه الله. اتعرف علي الأدب العالمي دائماً ولانني في أكاديمية الجونكور مضطر لقراءة الأدب الفرنسي الحديث، كل صيف اقرأ ثلاثين رواية، هذه قراءة اضطرارية باعتباري عضوا في لجنة التحكيم لجائزة جونكور، هذا يتيح لي متابعة الأدب الفرنسي الحديث، أنني دائم القراءة في القرآن الكريم. يتوقف الطاهر قليلا قبل أن يستأنف «عندما استمع إلي المشعوذين علي قنوات التليفزيون أدرك مدي الاضطراب الواقع الآن، انني أفضل العودة إلي الأصل، إلي النصوص الموضوعية بدون تدخل. الاحظ أن الذين يتصدون لتفسير القرآن الآن أو النصوص المقدسة تنقص بعضهم الثقافة الدينية كما أنهم يتجاهلون المفاهيم الرمزية، عندما نقوم بقراءة حرفية نعطي صورة عن النص المقدس ناقصة وفقيرة، النص قابل للاجتهاد لكن يجب أن يفهم بكيفية موضوعية وليست سياسية أو ايديولوجية، ان ذلك يعتبر هزيمة كبيرة للعقل، صار خلط بين العقلانية والشعوذة، الإسلام يجب أن يقدس ويحترم، يجب الا يصبح وسيلة للوصول إلي الحكم، الخميني قال جملة خطيرة، الدين الإسلامي سياسي وبدونها لن يكون، هنا أقول أن الإسلام عقيدة روحية». اسأله عن أحد آخر كتبه التي صدرت، يتضمن حواراً مع ابنته عن الإسلام، هذا الكتاب يشرح المفاهيم الأساسية للإسلام، ما الدافع الي كتابته؟ يقول الطاهر «الجمهور الفرنسي لديه أسئلة عديدة عن الاسلام، كثيرون يطالبوني برأيي ويريدون أجوبة عن أسئلة مثل الإسلام، ما الموقف من الذين يستخدمون الدين لأسباب غير دينية، الأوروبيون يتخوفون كثيرا من تصرفات عديدة تتم باسم الاسلام، مثلا عندما يرفض زوج أن يفحص الطبيب زوجته في المستشفي لأنه رجل، هذا أمر غير مقبول بالعقل وبالحضارة، هذا مزعج للمجتمع الأوروبي، أيضا ظاهرة الحجاب والنقاب، أجهزة الاعلام هنا قامت بنقاش واسع حول هذه الموضوعات، هذه الأشياء تزعج وتخيف الناس، النصوص الأصلية تحدد للإنسان واجباته، هذا يجعلني اتكلم لتصحيح بعض المفاهيم. اسأله عن رد الفعل لما يقوم به من جهود؟ يقول الطاهر: المسلمون هنا يعانون العزلة والفقر الثقافي، لم يجدوا الطعم الثقافي الذي يلبي احتياجاتهم فيلجأون إلي العزلة، يجدون في الدين مأوي، أفضل كثيرا الروحانية والايمان الذي يكون الشخص مقتنعا به بدون أن يقوم بمظاهر خارج بيته. الكتابة اسأله عن طقوس الكتابة؟ يقول: استعمال القلم والكومبيوتر، اكتشفت ان للحاسوب مزايا لكن فيه خطورة، مرة ضاع مني نص بسبب خطأ ارتكبته، لم انعزل عن الناس، انني في حاجة إلي التواصل مع الآخرين يوميا، اكتب أثناء السفر، انني أعيش من ايراد كتبي المترجمة إلي العديد من لغات العالم، عدا اللغة العربية التي يتم قرصنة كتبي ونشرها بدون حقوق منذ سنوات ، هذا مؤسف. اسأله عما اذا كان يتابع الابداع العربي الحديث؟ يقول إنه لا يتابع التفاصيل، ولكن عندما يصدر عمل مهم تصله اصداءه يبحث عنه ويقرأه. يتوقف قليلا ثم يقول: «يجب أن نتحدث عن العمل الممتاز الذي يقوم به فاروق مردم بك في دار اكت سود، هو الذي قدم الأدب العربي بجدية كبيرة، حاول منذ فترة مبكرة، طبعا كان حصول محفوظ علي نوبل خطوة كبيرة، فرنسا تهتم بالأدب العربي وترجمته، الآن يتصاعد الاهتمام في ايطاليا والمانيا، الجمهور هنا يقرأ كثيرا والأدب العربي يعتبر بابا مفتوحاً للخيال المطلق بالنسبة إليهم، دائما يتكلمون عن ألف ليلة وليلة التي اعتبرها نموذجاً قديماً، أنا درست ألف ليلة في جامعة نيويورك ومدريد، هذا الكتاب كان ثريا، كان نقطة انطلاق للرواية الحديثة، لكن يجب ألا يتم التوقف عنده. يقول الطاهر: تأثر بروست بألف ليلة، واعترف اراجون باستفادته من الشعراء العرب الاندلسيين، بالنسبة لي استفدت من طرق الحكي القديمة والكتابة، كذلك حرية الخيال، الغريب ان الدين لا يوجد صراحة في هذا العمل، الرؤية موجودة، عندما قرأت ألف ليلة أدركت انها ليست جديدة ،كانت جدتي تحكيها لي. اسأله عن خصوصيته في الأدب المكتوب بالفرنسية يقول الطاهر: انني كاتب مغربي له ثقافته، ولي خيالي المغربي أيضا الذي يتزاوج مع قدرتي علي التعبير بالفرنسية، هذا التزاوج شكل خصوصيتي كأديب. أخيرا اسأله عن اختفاء الأعمال الأدبية الكبري من الأدب الفرنسي؟ يقول الطاهر: الواقع الفرنسي هو المسئول عن الضعف الذي تتكلم عنه، فيه مشاكل شخصية يتم التعبير عنها بالأدب، ثمة أزمة اقتصادية تغطي علي المشاكل الفكرية والروحية الكبري، الأدب الفرنسي معادل لهذا الواقع، أحيانا يتجاوز ذلك عند خروج الأدب الفرنسي إلي آفاق أخري مثل لوكليزيو، كذلك الأديبة التي حصلت علي جونكور هذا العام، فرنسا فيها ملايين المهاجرين، لكن لا نجد رواية عن المهاجرين، لا نجد الا حل المشاكل الذاتية، لفت نظري مؤخرا كاتب أمريكي يكتب بالفرنسية، كتب رواية عن النازية، تعدي توزيع الكتاب السبعمائة ألف نسخة. اقاطعه: هل تعتبر البيع وسيلة للتقييم؟ يبادر موضحاً، عندما أقول رواية جديدة فأنني أعني المستوي الأدبي أولا، ثمة روايتان حققتا النجاح الأدبي والتجاري مؤخرا، رواية هذا الكاتب الأمريكي ورواية أخري اسمها القنفذ لموريس باردوري، باعت أكثر من مليون نسخة فيها الأدب الراقي والنجاح الشعبي.