جوهر التفاصيل هو كل ما دققت فيه اللجنة المكلفة بصياغة التوافقات الكبرى والصغرى حول تعديلات المدونة. وهي ما لا نقصد الوقوف عنده، لا قليلا ولا كثيرا. أما تفاصيل الجوهر فهي استجابة لنداء داخلي تم تركيبه ذاته على صيغة سؤال: ما هو الجوهر في ما ورد من تعديلات، من زاوية الاجتهاد، ومن زاوية المساهمة في تجاوز الأبواب المسدودة وفي فتح عتبات للجواب على ما أرّق الأمة دوما،أي كيف نعيش الحاضر والمستقبل بجذور الماضي سليمة الهوية؟ أو الملاءمة بين العقل الفقهي وبين العقل الحقوقي ؟ 1 يحسن بما كمغاربة أن نمجد ما يتم اليوم من اجتهاد. ويحسن بنا أن نشيد بالعقل المغربي الفقهي والحقوقي والقانوني والاجتماعي، وعموما العقل الدستوري والديني، وهو يبحث عن مخارج للحل من وسط المشاكل التي تراكمت في مغرب القرن الواحد والعشرين، بعضها يجد جذوره في القرون الأولى لدخول الإسلام!! ومن العناصر الإيجابية التي يجب أن نستحضرها: – لا أحد من الفقهاء وصناع الجمع أو الحشد الإسلامي في المغرب اعترض باسم الفقه أو الدين أو العقيدة، بل نجد أن المعارضة اتخذت لبوسا أخرى، مجتمعية بشرية أكثر منها عقدية ربانية، وغالب المعنى منها يندرج في باب الخوف على الذكورية المغربية، أو من باب ما يمكن أن نعبر عنه بالقول "الذكر ممثل الإنسانية المغربية جمعاء" ! وفي التسويغ الحجاجي نجد هناك العزوف وتراجع نسبة الإنجاب والخصوبة .. الخ في هذا الباب، نحن أمام انتقال إلى حقل الخلاف القابل للقياس، بمعنى أن الذي يتخوف من تأثير الإصلاحات على المنسوب العائلي للإنجاب والزواج وما إلى ذلك، عليه أن يحقق ربط العلة بالمعلول، وهو أمر يتطلب إحصائيات وأبحاثا ومقارنات وبيانات هي من صميم البحث العلمي، وهو منحى لا يمكن أن يخيف ذا لبّ أو وتفكير، وهو محبذ للغاية.. وهو أمر يحسب للاجتهاد الذي قامت به اللجنة بناء على توافقات شرائح المجتمع، أكثر مما يحسب لمن يعارضها. 2 بعض الناس وجد ضالته في بلاغات مترامية المصدر، بعضها فردي، لأقوام من ذوي الفيديوهات الخاصة، أو "دعاة" منفردين، وبعضها صادر عن تجمعات خارجية قادمة إلينا من قارات فقهية وسياسية أخرى، لا تتردد بعضها في محاولة استلهام السعي العمراني القديم في اختراق حدود المغرب الفقهية، ومحاولة الدعوة بالبيعة للباب العالي، كما في فترات سابقة فاشلة. وحقيقة الأمر أن المحاولات كلها تبقى بلا أثر، لأن ما يتحقق، يتجاوزها ويتجاوز ناموس تفكيرها. ويمكن أن نردد الآية الكريمة ما قاله عبد الله الصالح لسيدنا موسى، هو الذي كان كليم الله ومع ذلك عجز عن فهم ما فهم عبد من عباد الله الصالحين آتاه الحكمة"قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا.." 3 في الجواب عن السؤال المركزي: كيف يستطيع المغرب المسلم أن يجد الملاءمة بين ثوابت العقيدة السماوية، وبين الاتفاقيات الحقوقية المتعارف عليها كونيا؟، هو في النبوغ المغربي ، بإعداد الاجتهاد البناء، وكذلك في جعل الدستور، معْبرا لإمارة المؤمنين من المبادئ نحو القوانين. ذلك أن المتفق عليه مغربيا هو أن أمير المؤمنين لا ينتج نصوصا دينية، بل هو يتيح للمواد الدينية المتفق عليه، أن تكون قوانين، كما نشاهد اليوم، وهو أمر بالغ الأهمية. ويعتبر الطريق من المبادئ الدينية إلى … القوانين. حتى أن الذي يسترعي الانتباه في حالتنا اليوم هو أن التعديلات التي تم التوافق عليها صارت بيد الحكومة التي ستحيلها على البرلمان ليتابع المسطرة، باعتبارها قوانين وتخضع لنفس ما تخضع إليه مشاريع القوانين الأخرى.. وفي هذا لا بد من الانتباه إلى جوهر العملية كما اتفق عليها الكثير من الباحثين منهم عبد الله العروي ومحمد الطوزي واحمد التوفيق نفسه، ومن ذلك : أولا: ربحنا إمارة المؤمنين بقوة الدستور، حيث أصبحت مؤسساتية ومدَسْترة. ثانيا: هاته العملية توضح، بقوة، طريقة المغرب في تدبير فصل السياسة عن الدين عبر مأسسة إمارة المؤمنين . ولهذا نفهم إحالة ملك البلاد عليها مع التشديد على قوله"أنا لا أحلل حراما ولا أحرم حلالا" . ثالثا: الملك مسؤول عمّا يتم نقله كمبادئ وقواعد دينية إلى الحقل السياسي . رابعا: الملك لا يقرر في الدين ، بل في القواعد التي قد تصبح قوانين، ويعطي رأي المؤسسة التي يمثلها ويقدم صورة عن تدبير الدولة للحقل الديني كما عشناه منذ 2003 وتكرس منذ 2014 خامسا: وضوح المسافة بشكل جلي بين السياسة والدين، والانتقال بينهما. ومنها أن إمارة المؤمنين لا تقوم بإنتاج أو صناعة المعايير الدينية، بل تدقق وتحدد انتقالها إلى الحقل السياسي. سادسا: المغرب لا يوجد فيه إفتاء شخصي، أي لا عالِم يمكنه أن يدعي أن رأيه قانون! فالفتوى صارت جماعية، وصار الإفتاء مؤسساتيا. ويمكن في بعض الأحيان أن يصدر ما قد يزعج من طرف بعض العلماء، لكن لا يمكن لأي أحد أن يقول بأن رأيه الديني هو القانون!. 4 يمكن أن نعود إلى الدستور في تعريف الأسرة،(الزواج أساس بناء الأسرة في حين أنه ليس كذلك مثلا في القرار الصادر عن المحكمة الأوربية)، أو في واجب الدولة في حماية الأسرة، وما إلى ذلك من المقتضيات التي تجعل الأسرة في عمق قانون يحظى باحترام كبير من كل المغاربة من القمة إلى القاعدة… وأختم بملاحظة للفقيه السي محمد اشركي، في مقال جديد له، حول الدستور المغربي أنثويا: من غياب لفظ المرأة وذكرها في الدساتير السابقة عن الدستور الحالي، يحضر الذكر بلا أنثى ويحضر المواطن بلا مُواطِنة. بحيث أن "التصور الذي هيمن على صياغة الدساتير السابقة كان تصورا ذكوريا"، وهو ما أحدث معه دستور 2011 قطيعة بدأت لغويا، أو ما في حكم "المناصفة اللغوية.." أمامنا فرصة لا تجدر بالأمة إلا مرات قليلة كل قرن، أو في كل منعطف تعرف فيه الأمم قلق النهضة. العقلان الفقهي والقانوني المغربيان، يسعيان إلى انسجام وملاءمة متبادلة، وهي لحظات قليلة لاستيعاب منجزات البشرية، مع تجويد الفهم العقلي للنصوص الدينية، بما يجعل الحياة فرض وجود في إيجاد الحلول اللازمة.. فنحن لا نجيب عن أسئلة لم يطرحها الواقع، ونحن لم نجلب مشاكلنا من مجتمعات أخرى تطرحها علينا، بل المشاكل مشاكلنا والحلول يجب أن تكون حلولنا؟ وهذا لبّ الاجتهاد..أو لنسمه جدلية المشكلة والحل الاجتماعية!