تعتبر المدرسة مجتمعا قائما بذاته، تتفاعل وتتعايش في فضائه، عدة عناصر ومكونات، وتنظمه علاقات أفقية وعمودية، وضوابط اجتماعية وإدارية، ففي المجتمع المدرسي تسود سلطة المدير والإدارة التربوية، وتطغى سلطة المدرس في الفصول الدراسية، وتتدخل جمعية آباء وأولياء أمور التلاميذ فيما يعنيها ولا يعنيها، وتتسلل عبر ثقب الباب عيون المقدم والقائد والباشا، وخلف سور المؤسسة يتربص المتربصون من المنحرفين، وتجار الممنوعات، وبين الأجنحة الدراسية يعاني التلاميذ من غياب ديمقراطية الخطاب التربوي والتسيير الإداري، ومن عدم الإنصات لأصواتهم، والإصغاء لمطالبهم، وعدم إشراكهم في العملية التربوية، بل يعانون من سياسة الإقصاء، وفوق هذا وذاك تحرص وزارة التربية الوطنية عبر أكاديمياتها ونياباتها، ومراقبيها ومذكراتها على أن تخضع الجميع لتعليماتها الصارمة، وتحنط المدرسين والتلاميذ في قوالبها الجاهزة، فكيف تطلبون هذه الديمقراطية المفتقدة في المجتمع المدرسي ممارستها في المجتمع السياسي؟. فالمجتمع المدرسي هو اللبنة الأساس في بناء صرح المجتمع المدني والسياسي، شباب اليوم الذين نريد أن يشاركوا في الحياة السياسية هم أطفال الأمس ورجال الغد، فالتلميذ في المدرسة يتعلم أبجدية الحياة، والحراك الاجتماعي، كتعلمه أبجدية الكتابة والقراءة، واكتسابه المعارف والمهارات، ففي المدرسة تتشكل شخصية رجل الغد، يتزود بقيم الفضيلة وأخلاق المجتمع، يمتلك كفاءات ومهارات لتحقيق التوازن بين الحقيقة والواقع، بين الذات والمجمع، وبين الكائن والممكن، وبين ما تعلمه في المدرسة وما يعيشه في الحياة العامة، وكلما كانت المسافة شاسعة بين حقيقة المجتمع المدرسي وواقع المجتمع السياسي كان الشرخ أعمق في الحياة العامة، والمصيبة أعظم في ممارسة الحياة السياسية. وفي غياب الديمقراطية في المجتمع المدرسي تظهر مواقف الردة، والتمرد والاحتجاج ضد الواقع التربوي المتردي، وينتفض التلاميذ وكذا الأستذة من أجل تكسير تلك القيود والقوالب، يطالبون بتغيير المناهج الدراسية، وإستراتجية التعامل، وتوفير مناخ دراسي مناسب لتطلعات التلاميذ، منفتح على اهتماماتهم، مشجع لمبادراتهم، متسم بالمرونة في تطبيق تعليمات الوزارة المركزية، والأكاديمية الجهوية، ومطالبين كذلك بالتخفيف من السلطة الفوقية، لفائدة الإدارة التربوية المحلية، وإعطاء التلاميذ الفرصة لمزيد من الإشراك والمشاركة. لا داعي إلى التطرق إلى الوضعية التي آل إليها التعليم ببلادنا، والأزمة التربوية التي غرق المجتمع المدرسي في أوحالها، والتي أضحت تهدد المشروع التربوي التعليمي المغربي بالفشل والإفلاس، فمظاهرها السلبية وتداعياتها غطت جغرافية الوطن، وانعكست سلبا على مرافق الحياة، ففي السلوك العام تقرأ عناوين كبرى في سوء استعمال السلطة، سواء في الأداء السياسي، أو في العمل الوظيفي، أو في التقصير الحرفي والمهني، أو في المعاملات التجارية والعلاقات الاجتماعية. إن الديمقراطية لن تسود في المجتمع السياسي قبل أن ترسخ مبادئها في نفوس الصغار والكبار، وتتجسد معالمها على سلوك التلاميذ والمربين والأساتذة على حد سواء، وليعلم مهندسو السياسة أن الديمقراطية ليست وصلات إشهار تستهوي الشباب، ولا أكلات خفيفة جاهزة يجود بها الساسة على الفقراء الجياع في ولائم الحملات الانتخابية، ولا تعابير منمقة يرددها الزعماء والمسؤولون على المنابر، بل الديمقراطية نتيجة لتربية سليمة، وثمرة لممارسة سلوك تربوي حصيف، ونتيجة لتفاعل اجتماعي يعيشه المواطن في البيت والمدرسة، في المستشفى وفي الحزب والنادي، وفي الشارع وفي الإدارة. خطأ السياسيين ومشكلتهم العظمى أنهم يغردون خارج السرب، يوجهون خطاباتهم إلى جمهور غبي مفترض، وإلى شباب غفل في اعتقادهم، يروجون بضاعتهم من الوعود الكاذبة، والأماني الزائفة، والبرامج المستنسخة، في برصة الحملات الانتخابية، أغلب المشتغلين بالسياسة في الوطن العربي يقولون ما لا يفعلون، ويمارسون ما ينتقدون، وتحت تأثير النرجسية والأنانية المفرطة، يتوهمون أنهم قادرون على استقطاب الكتلة الناخبة، وبكلامهم الموشى، ووعودهم الكاذبة، وشعاراتهم الرنانة، ونقودهم المشبوهة يستطيعون استمالة الناخبين، واختلاس أصواتهم قبل وبعد عملية الاقتراع، لنفترض أن خطابهم الاحترافي أثر في شريحة من الناخبين تأثير الكحول في شارب الخمر، وخدر عقولهم وشل نشاطاها، كتأثير العقاقير المسكنة لمريض يعاني من ألم حاد جدا، وبعد حين يفيق المخمور من سكرته، وينتهي مفعول مسكن الألم، فيعود الوجع إلى صاحبه، فينتفض هذا وذاك ضد مخدره ومسكنه، ويكون رد فعلهما أشد وأخطر، ليس هذه المرة في الربيع العربي، ولكن في الخريف السياسي. هي إشكالية ثنائية المقاصد، تتطلب الحل العاجل، والقريب والبعيد، والتعبئة الشاملة من طرف جميع مكونات المجتمع المدني والسياسي، فهل نبدأ بإعادة تربية محترفي السياسة، ونذكرهم إن كانوا في حاجة إلى تذكير بقواعد اللعبة السياسية، ومبادئها الإديلوجية والقانونية والاجتماعية والدستورية؟، هل نعلمهم معنى السياسة في بعدها الأخلاقي؟، هل نطلعهم على نماذج السياسة المواطنة الناجحة؟ وهل هم في حاجة إلى أن يلقنهم الشعب في مدرسة 20 فبراير أو 20 غشت مفهوم الديمقراطية الحقة تشبعا وسلوكا، ويؤهلهم لتحمل المسؤولية السياسية، التي تولد من رحم المؤسسة التعليمية التربوية؟، أم نبدأ بالقاعدة الشعبية عند تنشئتها التربوية والاجتماعية، في أولى مراحل تكوينها في فضاء المجتمع المدرسي، وداخل فصول التعليم والدراسة؟. لنترك السياسيين في قلاعهم يتصارعون، وفي حصونهم يتنافسون، وأمام عدسات الإعلام يتسابقون، وأمام مرآة الوطن يتجملون، لنترك بعضهم في قبة البرلمان نائمين، ونضرب لهم موعدا في المستقبل القريب للمساءلة والمتابعة، ولنعد إلى المجتمع المدرسي، مجتمع الحاضر والمستقبل، لنضعه في بؤرة اهتمامنا، ونجعله قطب الرحى في مشروعنا التربوي والتنموي والسياسي. على الإدارة التربوية أن تنشر ثقافة التشاور والتشارك في الوسط المدرسي، وأن تشرك التلاميذ في بعض قراراتها، وفي إعداد وإنجاز مشاريع المؤسسة التربوية، وتشجعهم على المبادرة والانخراط في الأنشطة المدرسية، وأن تحسن الإصغاء إلى مطالبهم، والاستجابة إلى حاجياتهم، والعمل باقتراحاتهم وآرائهم، وهناك عشرات الصيغ والطرق التربوية لتحقيق ذلك، وعلى سبيل المثال فقط: • تشكل الإدارة التربوية لجنا تمثيلية لكافة الأقسام، تكون معنية بمحاورة الإدارة حول قضايا التلاميذ واحتياجاتهم التربوية، واقتراح بعض الحلول الممكنة للمشاكل الدراسية الطارئة. • تنظيم حملة انتخابية شفافة بين التلاميذ على مستوى كل قسم لاختيار أعضاء تلك اللجن. • تنظيم حملة توعية، لانخراط التلاميذ في مختلف الأندية المدرسية. • إعطاء التلاميذ فرص اختيار ممثليهم في مجلس تدبير المؤسسة. • إشراك التلاميذ في اللجن التنظيمية للأنشطة التربوية. • تمكينهم من الإدلاء بملاحظاتهم في تسيير المؤسسة عبر بريد التلميذ. وهناك صيغ كثيرة أخرى للتربية على ممارسة الفعل الديمقراطي داخل فضاء المؤسسة التعليمية، وإشاعته بين التلاميذ والأساتذة والطاقم الإداري وباقي مكونات المجتمع المدرسي، كما يجب أن تكون العلاقة بين التلاميذ ومربيهم علاقة أفقية وليست عمودية، تستمد مقوماتها من روح الاحترام والود، ومن المساواة في التعامل بين جميع التلاميذ، وفي تكافؤ الفرص بينهم ، وفي إشراكهم في رسم معالم المشروع التربوي للمؤسسة. وعندما يتشبع أبناؤنا في مجتمعهم المدرسي بقيم الديمقراطية، وثقافة الحقوق والواجبات، فهم سيتعودون على ممارستها في حلهم وترحالهم، في جمعياتهم وأحزابهم، في مهنهم ومعاملاتهم، أما إذا نشدنا العمل الديمقراطي فقط في الحياة السياسية، والتمسنا الديمقراطية بعيدا عن المؤسسة التربوية، فإننا حتما نفتقدها في المجتمع السياسي.