بقلم مصطفى العادل أقسمت مذ عرفت واقعي ألا أكتب على غيري وعلى غير أرضي، أقسمت أن أكون سفير أولئك الذين يقطنون الجبال الشامخة، أولئك الذين يموتون كل يوم على الجبال قهرا وصمتا، يموتون على الجبال عشقا لها… عفوا، عشقا لشموخها. أقسمت حينما أدركت أن لا أحد سوف يتقن الحديث عنهم غيري، ولا سلاح لأحد لنصرتهم غير حبري وأوراقي، فما أجمل خطي وما أروعني، أنا الحر أنا القمر، أنا كل فتى يسكن الجبال، أنا ابن وأخ وأب كل فتاة حرة يعلوا صوتها على الجبل، أنا كل من يأخذ من وقته قسطا يكتب عن الجبل وفاءا منه لأهل الجبل… لم أكن أعلم أنه بإمكاني أن أكتب عن حياتنا المرة على قمم الجبال ونحن ما نزال فوقها، كنت أعتقد أنه لا يمكننا أن نكتب عنها إلا عندما نشفى منها، لكن حان الوقت لننظر في واقعنا وواقع من قبلنا دون حنين ولا أنين، حان الوقت لنلمس جراحنا بأناملنا ونمسح دمائنا بأنفسنا دون أن نتألم مرة أخرى، نعم حان وقت ذلك، لم يبق سوى أن نختبر أصواتنا الشجية مرة أخرى أمام الملأ لكي لا تخدعنا، لا بد أن نمتحنها كي لا تخذلنا ونحن نستعد لنصدع بالأمر الثقيل، وإلا سوف نهز رؤوسنا إلى الأعلى والأسفل تعبيرا عن الموافقة بإشاراتنا بدل الكلام الصريح…. لابد أن نتساءل عن بداية أخرى لقصة جديدة من قصص الجبال، وإلا فالحزن والموت يقترحان البداية منذ قرون… أيه الموت اللعين لم نبالي بك يوما، ولن نعير لك بعد اليوم أي اهتمام، إنك أيها الموت لست إلا الموت، إنك لست العدل ولست الحرية، لست الكرامة… سوف نكتب عنك أيتها القبيلة، فلا شيء غيرك يستحق الكتابة، سوف نعتر على كلمات كما يعتر علينا القدر، ففي كل لحظة يصادفنا أو نصادفه، ولولاه لما كانت هذه القصة تعنيني أنا بالذات، ولا كان القلم الذي يبوح بكل شيء في يدي سيفا يغمده اليأس في فؤادي فيجعلني أنطق بكل تلقائية، أصف الجبال وأمدح سكانها، لعله وبعد زمن طويل كل من عاش طقسنا وطقوسنا، أو كان عن الأقل على دراية بأيامنا الخالية، إننا نريد الموت النهائي، لننتصر على هذا العذاب، هذا القتل… تمطر ذاكرتي وتتزاحم الكلمات في ذهني لتقول في آخر المطاف “امسونة”، فيتساءل اللسان بكلمات مقتضبة عن حالها وأحوالها. ألا تدرك يا قلبي أنك كسوتها حنينا إلى درجة الجنون؟ امسونة الحب، امسونة الأفراح والأحزان، امسونة الذاكرة يا سيدتي… كنت أنتظر دائما ذلك الموعد الذي تعاهدنا عليه لأول مرة، سوف يتحقق يا صغاري فلماذا أرتبك وتعود تلك الرعشة تسري في جسدي كلما وقفت على أرضها، ألم يحق لك يا قلبي أن تلتئم أمام هذا الحلم، بعد تلك الأحداث التي تحولت في قلبي إلى أيام تداولها أنفاسي وتجري مجرى دمي بجرعات من اليأس. تغيرت ملامح أبناؤك الطفولية بعدما خرجوا منك، ومع ذلك عدت أنا منهم ولم أتخذ طريقا آخر، لأنني أعلم أنهم يحاولون أن يقتلونا بأناملك دون أن يتركوا بصماتك على أعناقنا، نعم عدت وما زلت أومن أن في أنفس أبناؤك أمورا في أمس الحاجة إلى نفض الغبار عنها، وكأنها آتات مهجورة، هذا كله خلاص منا يا سيديدتي، لا بد من مقارعة أولئك الذين أصبح وجودهم عبتا على أرضك يستنحون فرصة ليوجهوا رصاصتك نحونا، عدت لأخبرك بهذه الحقائق التي ظلت تطاردني دوما، ولم أكن أعلم مدى صحتها قبل اليوم، ورغم أنك مجال تفكيري كله ودائرة أدور فيها دائما بوحدي إلا أنني لم أكن أعلم شيئا من حقيقتك سوى أنني أتقاسم معك قصة القدر الذي جعلك قرية وجعلني من أهلها. أيتها القرية العزيزة، عليك الآن أن تعترفي بأننا اتفقنا معك ونحن في أرحام أمهاتنا، بأن نتفق مع هذا الوطن على أساس أن نتوحد مع الجمر لنصارعه قصد حياة جديدة، وقد مر عل وجودنا على أرضك سنوات ولم ننسى اتفاقنا، ولم ننسى تلك الممرات المتشعبة التي توصلنا إليك، وتلك المسالك والجروف والغابات، ولا تلك الصخور الضخمة ولا أشجار البلوط والعرعار الشوكي التي تشرح لنا قرية بعد أخرى إلى أن نقف على منبسط “تيدوعناتين”، لنستنشق الهواء ونسترجع ذكريات الطفولة والمدرسة ونقاتل من جديد ذلك الموت الذي يمشي كلما دخلنا أرضك إلى جوارنا ويأخذ مقعده معنا ولا يفارقنا، وها نحن أيتها القرية الجميلة قد عدنا مرة أخرى وعلى وجوهنا ارتسامات متناقضة، وتعابير متصارعة، ولم نعد ندري أعدنا إلى أرضك رغبة في السعادة، أم أن ذلك القدر أبى إلا أن تكون ذكرياتنا على أرضك دوما مصدر قلق وبداية موت جديدة… أنا لم أعد لسبب واحد، وإنما عدت لأسباب كثيرة، ولم أعلم هل عاد أولئك الأصدقاء كما عدت أنا، أم أنهم يفكرون بشكل مغاير للشكل الذي أفكر به، ليتهم عادوا فنلتقي مرة أخرى لنسترجع تلك الأحلام الطفولية، يا للعجب! ما أجمل الطفولة! ما أرع غباءها !لا شك أن جدار مدرستنا القديمة ما يزال يتذكر ما قلته لأصدقائي يوما في وقت الاستراحة، ونحن بجواره وقد عرضنا أجسامنا النحيلة المتجمدة من شدة البرد لحرارة الشمس، “سوف نتفق من الآن أن نتزوج عندما نكبر جميعا في ليلة واحدة، ولا ينبغي أن نتزوج بغير بنات قبيلتنا”ربما أنا الوحيد الذي لم ولن ينسى هذا الكلام، والحق أن الجدار أيضا لن ينساه، إنه كلام ما يزال ينخر في داخلي ويلازمني كل لحظة، ولم يكن للنسيان نصيب في ذاكرتي يوما، إلا أن القدر أبى إلا أن يشعرني بأنني كنت أنداك طفلا مغفلا، يا للحقارة! هل كنت طفلا أحمق إلى هذه الدرجة؟،ليس من الضرورة أن أتفق معي، ولأنني لن أعترف يوما أنني كنت بليدا، سوف أحيا من جديد وأعتبر حياتي الطفولية نموذجا للسخافة… في الحقيقة إنها حياة ولدت من رحم معركة انتصرت فيها الحياة على خصمها العنيد، ورغم أن البؤس واليأس والفقر كانوا في صفوف أولئك الذين تحالفوا مع الموت، إلا أن الحياة انتصرت من داخلي وأنا لا أدري كيف ومتى، بل أشعر بتلك الضربات والقنابل التي فجرت الموت التي تعترض طريقي، لقد كنت طفلا حيويا… كنت بريئا، وربما لأنني كنت لا أعرف سوى قريتي في هذا العالم، وها أنا أعرف العالم كله اليوم، وها أحلام الطفولة تحولت إلى ليل مظلم، لتصبح أغاني الطفولة أنينا بل صراخا يفشي أسرار تلك الأيام…عبر كما شئت يا صغيري فقد تولد حياة جديدة مع حروفك، لتكون بدايتها إجابة عن ذلك السؤال الذي طرحناه بجوار حائط المدرسة، والذي يطرح نفسه من جديد متسائلا: هل مازلنا متفقين بأن نتزوج جميعا في ليلة واحدة وبفتيات قريتنا؟.