بقلم : هشام فاكري كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد الزوال، و كان الجو ربيعيا، أشعة الشمس الدافئة تتسلل إلى الأجسام، فتبعث فيها لحيوية و النشاط، و الخضرة تملأ المكان، لقد كان كل شيء يغري بالخروج طلبا للإسترخاء و الترفيه عن النفس قليلا. التقيت بصديقي بديع. و انطلقنا في جولة بحثا عن الراحة و هربا من ضوضاء المدينة و تلوثها، حتى وصلنا إلى مقهى الأصالة حيت كانت الأعشاب و الأزهار تلتف من حولنا . تبوأنا أحد الأماكن، و بدأنا نتأمل في جمال الطبيعة، ثم خذنا في الحديث في شتى المواضيع فمن البطالة و مشاكل الناس إلى التجارة و الإقتصاد، مرورا بوضع الإسلام والمسلمين في هذا العصر، وصولا إلى الشيعة و التاريخ الإسلامي، دون أن ننسى الأدب و الثقافة العامة. بينما كنا نغوص في الحديث، رن هاتف بديع . إنه عبد اللطيف الذي كان يعاني من أحد الأمراض الجلدية، حيث غزت الصدفيات عنقه و يده اليمنى. و كان يطلب من بديع مرافقته إلى العين الساخنة ليستحم فيها أملا في أن يشفى من ذلك المرض اللعين. فأخبره بأن يلحق بنا إلى المقهى. بعد حين، وصل سعيد و مراد الذي لم أره منذ فترة ليست بالقليلة. تبادلنا التحية و الحديث حتى وصل عبد اللطيف وقد امتلئ حماسا استعدادا للذهاب إلى الهدف الذي ظل يراوده منذ أن فشلت كل الأدوية، التي وصفها الأطباء له، في محاربة تلك الصدفيات. نظر عبد اللطيف في وجه بديع و قال له : هيا بنا. فكر بديع قليلا ثم قال لنا: ما رأيكم بأن ترافقاننا إلى تلك العين الطبيعية ؟ لقد كنت عاشقا للطبيعة خاصة و أن الأمر يتعلق بالعين التي لطالما سمعت عنها و عن مفعولها الساحر تجاه كثير من الأمراض الجلدية. لكنني كنت مرتبطا بموعد في الساعة الخامسة و لم يبقى سوى أقل من ساعتين . لذلك كنت مترددا في قبول الدعوة . فطمأنني عبد الطيف و قال لي : لاتقلق فلن تخلف موعدك فهذه الرحلة لن تتعدى نصف ساعة بفضل سيارتي البيضاء . بعد سماعي لهذه الكلمات، لم يعد للتردد مكان في داخلي فقبلت على الفور، ثم انطلقنا بسرعة نحو العين الساخنة بعدما لم يمانع كل من سعيد و مراد. جلست في المقعد الخلفي للسيارة، و انطلقنا بسرعة. و بعد هنيهة، شعرت بدوار في رأسي. فبدأ بديع يسخر مني و قال لعبد اللطيف : أسرع و لا توقف الفرامل حتى نصل بسرعة فهناك من لا يستطيع الصبر أكثر. لم أبالي به لأنني كنت أفكر في العين الساخنة. و أخيرا وصلنا إليها. فرأيتها و يا ليتني ما رأيتها. فمن كثرة المديح الذي وصلني عنها، تخيلتها كبيرة مترامية الأطراف، نظيفة و ساحرة. لكنها لم تكن سوى فتحات صغيرة يخرج الماء منها و تشكل دائرة لا تتعدى مساحتها الثلاثين مترا مربعا. و الرائحة التي تنبعث منها كريهة تذكرني برائحة " الوادي الحار" السيء الذكر. و بينما كنت مندهشا مما شاهدته، مددت بصري قليلا فإذا بعبد اللطيف و قد خلع ملابسه منطلقا بسرعة نحوها. غير مكثرت لمنظرها. فما يهمه غير ملامسة مياهها الدافئة. أخذ يستحم و يستمتع بها استمتاعا كبيرا. و من عينيه يتطاير الأمل في كل جانب. كان الناس يحيطون بها من كل جهة . فالمياه تخرج من الأرض، و ترتفع قليلا، ثم تنزل مترنحة نحو أجسام المتعطشين لها و لدفئها و لدوائها الفعال. فمنهم من يدعك جسمه، و منهم من يغمض عينيه مسترخيا و الماء ينهمر من فوق رأسه، و منهم من يعرض ابنته الصغيرة للماء الدافئ و هي تصرخ خائفة، و منهم من يملئ قنينة كبيرة بالماء. فالكل يريد أن يأخذ نصيبه منها و يستفيد من فوائدها الجمة. فأكثر ما شد انتباهي تهافثهم على هذه النعمة الربانية الهائلة. دعانا عبد اللطيف للإستحمام بمائها ، فلم يتحمس أحد غير سعيد الذي لم يصبر على الحضور إليها دون أن يستمتع بها . أما نحن فقد أحضر لنا قنينة من مياهها. غسلنا بها ايدينا و وجوهنا. ثم بدأنا نتحدث عن سر دفئها ودوائها فقال مراد : إني أعتقد أن عمقها الكبير الذي يتعدى خمسمئة متر هو السبب في سخونتها. أما تأثيرها الفعال تجاه الأمراض الجلدية فيعود للمواد التي توجد فيها منها الكبريت الذي يقهر الطفيليات التي تنمو في جلد الإنسان. فقلت سبحان الله الذي يخرج من الأرض ماءا دافئا فيه شفاء للناس و رحمة لهم. أما بديع فقد كان منشغلا بالتفكير في طريقة للإستحمام بماءها المبارك لكن بعيدا عن مكانها هذا المقزز، فصاح قائلا : يا ليتنا أحضرنا برميلا، لأخذناه معنا ممتلئا بالماء الساخن لنستحم به في بيوتنا . قلنا له لا تحزن خذ القنينة الآن، و إذا برد الماء الذي فيها سخنه ثم توضا به. و في المرة القادمة سنحضر لك البرميل الذي تحلم به. تبسم قليلا، ثم طلب من سعيد أن يملئ له القنينة بماء العين الساخنة. لكن سعيدا لم يكن يجيد ملأها. فأخذها منه أحد المستحمين الذي كان بارعا في ملئ القنينات ذات الفوهة الصغيرة. امتلئت القنينة ثم أعطاها لبديع الذي شكره على حسن صنيعه. و بينما كنا نستعد لرحلة العودة ، آثارت انتباهنا خيمة صغيرة تباع فيها بعض المأكولات الخفيفة لزوار العين . فقال بديع : إنه مشروع مربح خاصة و أنه يوجد في هذا المكان الدائع الصيت . فقلت له : لا ريب في ذلك يا بديع . لكن ، ألا ترى تواضعها الذي ينم على تواضع هذه العين؟ فلو اعتني بها قليلا و كانت نظيفة و أكثر تنظيما. لعرفت إقبالا كبيرا، و لتطور هذا المشروع، و لكان أكثر ربحا و مدخولا. و بعد أن حقق الهدف الذي جاء من أجله، هممنا بركوب سيارته. و قبل أن أركب طلبت من بديع أن يبادلني مقعده. فجلس في المقعد الخلفي بينما جلست في المقعد الأمامي. لقد كان المقعد الذي جلست فيه هذه المرة مريحا، فلم أشعر بالدوار. غير أن بديع طلب من عبد اللطيف الإسراع دون فرملة فقد بدأ يشعر بالدوار. فضحك الجميع عليه ثم قلت له : عليك ألا تسخر أو تستهزئ من أحوال الآخرين، فقد تكون حالتك مثلهم لو كانت ظروفك و أوضاعك مثل ظروفهم و أوضاعهم. تبسم ثم رد علي قائلا : معك حق يا صديقي، لا يجب أن نسخر من بعضنا البعض، و علينا أن نطلب من الله العفو و العافية. فلا أحد يضمن بقاء حالته كما هي، فدوام الحال من المحال. لم تتوقف سيارة عبد اللطيف إلا أمام مقهى الأصالة. لنعود من حيث أتينا و قد صارت الساعة تشير إلى الرابعة بعد الزوال . طلبنا إبريق شاي، ثم بدأنا نتحدث عن هذه الرحلة القصيرة .فأكثر ما أحزنني فيها هو منظرها المقرف. فإذا كان الله قد أنعم علينا بخيرات من الطبيعة و أخرج من الأرض ماء يداوي الناس ، فإن المسؤولين عنها أهملوها فصارت نسيا منسيا. فما أكثر خيراتك يا بلدي. و ما أقل الإهتمام بك و بأبنائك. اقتربت الخامسة. ودعت الجميع، ثم انطلقت مسرعا لألحق موعدي. و في الطريق، ظلت أسئلة تحيرني و تزعج ذهني : ما الذي سنخسره لو أننا قمنا بتبليط المكان الذي تحيط به العين الساخنة؟ و بنينا حمامات للإسترخاء و للإستحمام؟ و شيدنا منتزهات بالقرب منها ليستريح فيها الزوار؟