لا يمكن أن تزور شاطئ عين الذئاب بالدار البيضاء دون أن تثير إعجابك تلك القلعة الصغيرة البيضاء المتراصة على كومة من الصخور البحرية، مشكلة بتقاسيمها الجيولوجية شبه جزيرة صغيرة، لا تتعدى أربعة آلاف متر مربع، يقطعها البحر عن اليابسة عند كل مد. هكذا نصب ضريح سيدي عبد الرحمان الملقب بمول المجمر، عند عامة الناس، و بصاحب المزمار عند أهل الصوفية، لا ينقطع إقبال الوفود على هذا الضريح على امتداد الأيام والفصول، و حسب ما سنته البدع الشعبية فإن لكل ضريح كرامات لازالت سائرة المفعول حتى بعد إقباره، و تميز سيدي عبد الرحمان بطقوس فك «المربوط» و إبطال السحر أو ما يسميه المغاربة ب «التفوسيخ»، وتتم ب» اللدون» أي الرصاص المذاب، الاستحمام بمياه السبع موجات، أو تقديم الذبائح للأسياد أو ما يعرف ب» الجواد» للتقرب منهم أو لطرد النحس وهو ما يعرف ب»قطيع التابعة»، وتختم هذه الطقوس غالبا ب»التبخار»، أي وقوف الشخص المسحور مع وضع تنور «مجمر» بين قدميه وحرق كمية كبيرة من البخور الذي يجمع بين الأعشاب وبقايا بعض الحشرات والحيوانات، وطبعا لا يمكن أن تقوم بهذه الطقوس المبجلة من السحر العلاجي، كما يقال عنه، دون جلسة «فحص غيبي» يقوم بها الفقيه-الدجال أو الشوافة، وتختلف طرق الفحص باختلاف الكرامات من مشعوذ لآخر، أي حسب «لخبيزة» المرخص له بها من طرف أسياده الجان، فهناك قراءة الطالع أو ما يعرف ب»ضريب» الفال وكشف المستور ب»اللدون» أو طرح لأوراق اللعب، أي ما يسمى ب»الكارطة»، أو بواسطة السبحة أو «هزان لحساب» بالخط «الزناتي» حيث يعمد الفقيه الاستعانة بالنجوم والأبراج لإبداء تنبؤاته، عفوا بل تكهناته . عهد العولمة بتجليات الجاهلية إن الزائر لهذا الضريح من السهل عليه أن يتصور أنه اخترق الزمن بآلاف السنون ودخل عصر الجاهلية، حيث عبدة الأوثان وتقديم القرابيل لملوك الجان والتكهن بالطالع، فضاء يجمع بين الخرافة واجتناب رجاحة العقل والموضوعية، مزيج خلق بدوره رحما خصبا تتخمر فيه سائر معالم الجهل والشرك الخفي، وأصبح المكان ومحيطه أشبه بقلعة للشياطين وأتباعهم من الإنس. قررت بدوري أن أكون شاهدة عصري، وأقف على بوابة العبور بين عصر الأقمار الاصطناعية وعصر الجاهلية، «امتطيت» سيارة أجرة، عفوا ركبت التطور الصناعي لأبلغ فقر العقول والجيوب أحيانا، فأميط اللثام عن وجه مجتمع يغازل استراتيجيات الغد المنشود بخجل. وصلت الضريح لم تكن لدي أدنى فكرة عن توقيت المد والجزر، كانت حينها الساعة تشير إلى الثالثة والنصف، وجدت الموج قد على الصخر وحال دون وصولي للقلعة الصغيرة، كنت أتوق شغفا لمعرفة ما يجوب خلف جدرانها، عدت أدراجي أتفحص جنبات المكان، كان الموج يرتطم بالصخور محملا بأصناف الملابس الداخلية، جذبتني رائحة البخور إلى إحدى الصخور الكبيرة منصوبة على حافة الرمال، فوجدت سيدة ترتدي جلبابا فاخرا بلون زرقة الماء والسماء، يتبين من خلال لكنتها وملامحها البيضاء أنها فاسية الأصل، كانت هذه السيدة برفقة ابنتها الشابة ذات الخمس وعشرين عاما، وكانت الفتاة تحاول بإحراج شديد وخجل واضح تلبية أوامر والدتها، كانت تأمرها بفك رباط شعرها الأشقر فوق التنور لينال الشعر نصيبه من البخور، فلابد من إتمام «مراسيم التبخار» على أتم وجه حتى تكون الحاجة «مقضية». وقالت الفتاة الفائقة الجمال لوالدتها «يا لاه نمشيو شوفي هادوك الشمكارة ماجيين احدانا، شفتي أماما كون جينا اصباح كون عملنا هاذ الشي الفوق في الضريح ماشي هنايا». صوبت بناظري حيث أشارت، فرأيت ثلاثة من المتشردين أخذوا مكانا مجاورا، وافترشوا الرمل ليتعاقروا الخمر، وعلى بعد أميال قليلة، ودائما على طول الشاطئ الصخري، كان هناك شابين لم يتجاوزا الثامنة عشر من عمرهما، بدا من خلال هندامهما ومحفظتيهما المدرسيتين أنهما تلميذين، جلسا يراقبان الغسق و يتناوبان على تدخين الشيشة، و يتمايلان على أنغام الأغنية الشعبية «زيد سربي يا مول البار». واترك التعليق حرا للقراء حول جزء من واقع حملة المشعل. معجبو «مهند» على الشاطئ أيضا كان المكان يزخر بالعشاق المتناثرين هنا وهناك، وتمنعني حرمة جريدتي وقدسية الكلمة من وصف المشاهد التي انزاحت عن الرومانسية ببعض الانعراجات، فبدا الأمر وكأنه إعادة لتجسيد بعض لقطات المسلسلات المدبلجة التي تزخر بها الفضائيات العربية واضحا، لكن مستوى التقمص لشخصيات الأبطال كان عاليا جدا، لم يخل المكان من بعض الأسر التي اصطحبت أطفالها للعب على الرمل وركوب الأحصنة الأسترالية الصغيرة، يطوف حولهم غلمان يبيعون العلك، المناديل الورقية والورود للعشاق، تارة ويتسولون تارة أخرى، في حين اختارت بعض بائعات الهوى الجلوس بقرب بائعات «الحريرة» و»اتاي والمسمن»، لإدراء الشبهات عنهن، ولو أن الفضاء جملة وتفصيلا يوحي بشفافية تفتقرها كبرى الأنظمة المتقدمة، كل شيء يباع هنا حتى دعوات المتسولين. الولي الصالح ينتظر الحشر على شطحات «اللعابات» اخترت الجلوس عند فاطنة «مولات لحريرة»، فحولها كانت تلتف مجموعة من «اللعابات»، أضفن على المكان نكهة مواسم الأضرحة القروية، كان مقهاها المتنقل يفترش الرمل و يحتضن الفضاء الواسع ، فهو لم يتجاوز مائدة صغيرة صففت فوقها مجموعة من الأكواب وأباريق الشاي الصغيرة ومجموعة من «زلافات»، وعلى جانبها الأيمن وضعت مقلات فوق قنينة غاز صغيرة لإعداد الرغيف ، أخذت كرسيا بلاستيكيا إلى جانب أولئك «اللعابات» من الدرجة الثالثة، فهن بلغن من السن عتيا، وتراجع الطلب عليهن، جعلهن يخترن خشبة الهواء الطلق ليسترزقن قوتهن. كان غناءهن و تطبيلهن يدلان على تمرس عال المستوى، لكن للأسف صنفن خارج المتطلبات الجديدة التي تلح على صغر السن وجمال الشكل إن لم نقل تقاسيم هيفاء وهبي ونانسي عجرم، وهي مؤهلات أضعنها على ردهات الزمن الخائن. طلبت «زلافة لحريرة» وجلست قرب رشيدة «اللعابة» التي في الستين من عمرها، طلبت مني أن ادفع لها ثمن رغيف وكأس شاي و طلبت منها أن تطربني من تراث العيطة الشعبية، حملت نغماتهن، التي يتنافس فيها الصوت مع الإيقاع، تفكيري إلى حال ذاك الرجل الصالح الراقد على أعلى تلة الجزيرة، هل علم في يوم وهو يهتز على أنين مزماره، مندمجا في شطحاته الصوفية، أنه سيأتي زمن يهتز فيه سكون خلوته الأبدية على شطحات اللعابات. شاذ يقرأ الطالع ويكشف المستور بعد «أوجيبة النشاط» غير المبرمجة، سألتني «رشيدة» عن سبب الزيارة، كان يكفي أن أقول لها أنني مكتئبة ولست على ما يرام، لتفك طلاسم حزني وتخبرنني أنني مسحورة وعلي قراءة الطالع لمعرفة المسببات وطرق العلاج، ثم سألتني إن كنت متزوجة، اختلقت لها أن إحدى قريباتي على علاقة مع زوجي. فقالت لي «رشيدة» أن الفقيه «سيمو» هو ضالتي وسيكشف لي عن الطبق المستور، فرحت كونها بلعت الطعم، كلفت رشيدة زميلتها بالمناداة على الفقيه «سيمو» من المقهى المجاور، حيث كان في مهمة رسمية لقراءة الطالع. كنت أنتظر فقيها بجلباب أبيض وذا سحنة بربرية، فإذا بي أمام شاب فاغر الطول يرتدي بنطال جينز وسترة جلدية سوداء قصيرة جدا، ويمشي بشكل يوحي أنه شاذ، جلس بقربي وهو يمضغ العلك الأمريكي، تم سألني عن اسمي فاخترت له واحدا. خلط أوراق اللعب في حركة سريعة، تم قسمها لثلاث مجموعات، وطلب مني أن أمرر يدي على كل مجموعة على حدى، وأقول على التوالي» هقلبي هتخمامي ها باش أتني الله»، وزع أوراق كل مجموعة على حدى بين يديه دون أن يبسطها أرضا، وأخذ يمرر الصور الورقية أمامه وهو يشير إلى «الراي» على أنه زوجي ثم إلى «السوطة» على أنها خاطفته، وقال «هذي ماشي ابعيدة منك راها من دمك « وأضاف «اتقي شرمن أحسنت إليه، ولكن انتي متخافيش غدا اتوقفي عند طابلة المخزن وغادي يوقف معاك مول لقلم» مشيرا إلى «الكابال»، فهمت حينها أن صاحبنا يقتات من نزيف ألم النساء و يأسهن ويغتني من فقر وعيهن وشدة جهلن. وعلمت أن زميلة «رشيدة» كانت تسترق السمع وأوصلت الرسالة على أتم وجه، واتضح أن الأمر كله نصب واحتيال وضحك على الذقون، وأن كل من يسترزق بهذا الضريح أو بفضائه المجاور يتقن قواعد لعبة بخسة يجهلها الزوار الباحثون عن السعادة، كلفني هذا الهراء، عفوا أقصد الاستشارة الغيبية عشرون درهما فقط. وسالت «سيمو» لماذا يخفي «الكارطة» ولا يبسطها فوق الرمل ، فعلل الأمر أنه يخشى رجال الأمن، كما انه يمارس هذه المهنة سرا وصنفها من باب الهواية، كاشفا أنه فنان شعبي محترف ولديه فرقة موسيقية لإحياء الحفلات، وطبعا من الدرجة الثالثة. فيا لها من هواية تدر عليه بمائتين درهم في اليوم الواحد، و دون أي خصومات عن الدخل. وحدها دوريات الأمن نادرة الحضور قضيت بالمكان ما يقرب الساعتين، وحدها دوريات الأمن كانت نادرة الحضور، الكل يتصرف بمنتهى الحرية ودون خوف أو حرج، ويسيرون طبق روتين اعتادوا عليه، كان كل من سبق ذكرهم من أبطال المشاهد الإباحية، السكر العلني، الشيشة، التسول، ممارسة الشعوذة ومزاولة التجارة بأماكن عامة دون ترخيص، تجد لها فصلا قانونيا يجرمها، لكن التنظير شيء و واقع الحال يفسر أن الفضاء مؤمن بطريقة لم تعد تخفى على أحد. سألت فاطنة «مولات لحريرة» عن ساعة الجزر، كي يتسنى لي بلوغ الضريح، فأجابت بأنه في ذاك الأسبوع سيكون الجزر صباحا والمد مساءا، إجابتها السريعة أبانت عن حنكتها بأمور البحر لكونها أصبحت جزءا لا يتجزأ من ذلك المكان وعوالمه. أديت الفاتورة الشفوية لمقهى «فاطنة» وغادرت المكان، عازمة أن أكشف أسرار القلعة البيضاء في يوم الغد. «أليس» في قلعة العجائب عدت في اليوم الموالي قرابة العاشرة صباحا إلى الشاطئ، مرتدية جلبابي الأسود كي أنسجم مع سيناريو الأحداث ، لم تكن «فاطنة» قد حطت رحال مقهاها بعد، وكانت إحدى زميلاتها، في المهنة، قد انتهت من تصفيف «زلايف» الحريرة على مائدة صغيرة، وشرعت في مناداة العابرين، كان المكان بئيسا ينقصه غناء «العونيات» وشغب الأطفال الذين يحجبون التسول ببيع الورود والقنينات البلاستيكية لمن يريد ماء السبع موجات العجيب، في اتجاه الضريح كانت جملة من النسوة يعبرون الممر الصخري للوصول إليه، و في اتجاه اليم الهائج وعلى الجنبات الصخرية للجزيرة كان هناك بعض هواة الصيد يستمتعون بطراوة النسيم، قد يساعدهم الحظ وتلتقط سناراتهم سمكا بدل ملابس نسائية داخلية ، علمت أن لكل وقت رجاله ومشاهده بهذا المكان، تراءت لي القلعة البيضاء التي كانت بالأمس جزيرة مغمورة الأطراف، تبسط بساطها الصخري نحو الشاطئ استعدادا لاستقبال الزوار، على مدخل القلعة حيث الدرج المؤدي إلى الزقاق الوحيد، كان يجلس شاب أسمر البشرة يرتدي «دربالة كناوية» ويستجدي الزوار على نغمات «لجواد». على جنبات الزقاق قبل بلوغ «قبة السيد» تراصت عدة بيوت متناهية الضيق، جزء منها تقطنه _الشوافات_ و_لفقها_، والجزء الآخر يعرض للكراء، خاصة في فصل الصيف الذي يعرف رواجا كبيرا يؤدي إلى بناء أعشاش صغيرة تعرض بدورها للكراء. عند مدخل باحة الضريح كان هناك دكان صغير يجمع بين البقالة والعطارة. وطبعا كانت الشموع وقريرات ماء الزهر و بخور الند على الواجهة. عرض علي صاحبه أن أشتري شيئا من الشموع، مدني بواحدة لم تكن ملفوفة، فهمت من اتساخ بياضها أنها بيعت ألاف المرات، كان صاحب الدكان، الذي فاق عمره ستون سنة، يبيع بترفع واضح ويرتدي وزرة سوداء من الجلد الرفيع وبنطال جينز، علمت بعد ذالك أنه» لحفيظ تاع السيد» أي المسؤول المباشر عن حاجيات الضريح و مداخيله بما فيها بيوت الكراء. قبر سيدي عبد الرحمان يرجم بالشموع مدخل قبة الضريح مزركشة بإبداعات فن المعمار الإسلامي. استدعى جمع الشموع المهداة إحداث سياج من الحديد يفصل قبر «الولي» عن باقي الغرفة التي انتهت إلى الجهة الأخرى بقبر خادمته «لالة زهراء»، وعلى مدخله كان هناك صندوق حديدي مثبت على الأرض بإحكام لجمع الصدقات أو بالحري التبرعات. وعلى الجانب الآخر من المدخل جلست إمرأة تجاوزت الأربعين منغمسة في قراءة عمود «نيني» بجريدة المساء، ولا ترفع رأسها إلا إذا همت زائرة بالخروج لتمد لها «زلافة» ملئت بحناء مخلوطة بماء الزهر وتخاطبها في صفة الأمر « خودي باروك لالة زهرة وأري فتوح ازيارة»، داخل الحصن الحديدي جلست سيدة على عتبة مؤخرة القبر تاركة الباب الصغيرة للحصن مفتوحة لتضع أمامها علبة كبيرة لتصفف فيها الشموع التي كان الزوار يرمون بها من فوق الحصن على قبر الولي بطريقة أقرب إلى الرجم من التضرع، وأسطر على هذه الكلمة الأخيرة بالأحمر العريض لأن التضرع يبقى للخالق فقط. إلى جانبي كانت سيدة اسمها فاطمة جاءت رفقة خالتها التي كانت توزع علينا حبات تمر وكؤوس حليب و خبيزات صغيرة، بجانب فاطمة كانت هناك قفة زرقاء تخفي شيء يتحرك بين الفينة وأخرى، انتهت الخالة عائشة من توزيع الصدقة وخاطبت فاطمة قائلة» يالاه نمشيو الخلوة»، حملني الفضول لأتبعهما كي أفك سر القفة الزرقاء. ذبيحة «حمو الجزار» تنتهي بشجار انسلت »فاطمة« رفقة خالتها إلى صخرة »مقدسة« خلف الضريح، مع كل خطوة تخطوها كان صياح الدجاج يفضح فحوى القفة التي تحملها، بدت معالم حزن وإرهاق تعتصر جسدها النحيل رغم كونها لم تتجاوز الثلاثين من عمرها. جلست فوق صخرة مواجهة ل»الصخرة المقدسة» بعينين زائغتين وبدأت في تتأمل خالتها « عائشة» التي كانت تفرغ زجاجات »ماء الزهر« وعلبة الحليب فوق الصخرة، أعقبتها برمي حبات التمر والزيتون الأسود ورش الحناء، ثم قطع السكر. طقوس اعتاد مرتادو »السيد« مشاهدتها بشكل يومي، يرضي بها «الممسوس» ساكنه من الجان، في ظل الاعتقاد أن لسيدي عبد الرحمن سلطة على ملوك الجان البحريين. وتشكل الطقوس الاستعدادات الأولية تهيئا للطقس المبجل وهو»الذبيحة» أي قربان المهدى للجني، والذي لا نعلم إن كان حاضرا يستمع بهديته أم يسكن عقولا مهووسة، انتهت فاطمة من رمي طلبات «لسياد»، لمحت النعيمة الشوافة و»لحفيظ» قادمين، فتوجهت نحو فاطمة وخاطبتها « اعطني الفروج لحمر اذبيحت حمو»، اختارت نعيمة قطعة ثوب أحمر من بين الألوان التي جاءت تحملها، وضعته فوق رأس الخالة عائشة وطافت بالديك فوق رأسها، ثم سلمته ل «لحفيظ» ليقوم بذبحه، ترنح المسكين ملطخا المكان بدماء»الصفح» و سكن والعيون تراقبه، ثم تناولته عائشة لتتجه به نحو الأمواج الثائرة التي اعتادت طعم الدماء، التفتت نحونا لترمي به خلف ظهرها في اتجاه البحر ، عادت مبشورة وكأنها رمت بكل أوزارها لتفتح باب «السعد» للسنة الجديدة. الجنية ميرة «خرجت من المولد بلا فول ولا حمص» خاطبت عائشة ابنة أختها قائلة: «أري ليا اذبيحتك ديال ميرة « وتناولت دجاجة صفراء نحيلة، كحال صاحبتها، مسلمة إياها ل»الشوافة» نعيمة، أخذت هذه الأخيرة ثوبا أصفرا من فوق الصخرة ونادت فاطمة التي لم تبرح مكانها قائلة» أجي أختي خلاص راه باقي السيد كيتسنا نوبتو» ، مشيرة إلى رجل في الخمسينات يقف برفقة زوجته حاملا دجاجة سوداء اللون، أجابتها فاطمة بغضب واضح في نبراتها « شكون قال ليك أنا باغا نذبح لشي جن راها خالتي لي كتدير للي بغات، أنا باغا غير نطلق هذيك الدجاجة اهنا اتفوج امعا راسها شوية» وأضافت « أنا لا أريد آن أشرك بالله إن ما تفعلونه هو ما وصف في القرآن بما أهل لغير الله»، كانت أول كلمات صدق أسمعها منذ حللت بالمكان، أراحت تفكيري من ثقل المشاهد العفنة، وكانت أيضا كالصاعقة على خالتها والباقون، فردت عليها نعيمة «طلبي التسليم لرجال الله» ، أخذت خالتها الكلمة لتشرح للجميع قائلة: « لقد طلقت من زوجها الأول بسب عدم الإنجاب، وسيكون لها نفس المصير مع الزوج الثاني إن لم تهدي «لمالكتها « هذه الذبيحة، لقد زارتني صاحبتها الجنية «لالة ميرة» في منامي وأخبرتني بكل شيء»، سكتت تم عقبت «خليها والله متطفروا أنا بعدا حلمي مكي طيحش الأرض». دخلت فاطمة وخالتها في مشادات كلامية كان الخاسر فيها هي الجنية «ميرة» التي سرى عليها المثل المصري «خرجت من المولد بلا فول ولا حمص»، والفائز هي الدجاجة الصفراء التي أفلتت من حكم الإعدام في آخر لحظة. رجل سلبته «عيشة» البحراوية شرعت نعيمة في مراسم الذبيحة الموالية، ثم نادت على الرجل صاحب الدجاجة السوداء لتكرر ما قامت به مع «الخالة» لكن هذه المرة بثوب لونه أسود وهي تردد «ها ادبيحت لالة عيشة البحراوية «، وبدوره الرجل أتم الطقوس بكل خشوع وإيمان على رنين زغاريد زوجته وصوت «النواقص» التي كان يقرعها الشاب صاحب اللباس «الكناوي» وهو يغني «السالباني لالة عيشة، السالباني البحراوية». سألت نعيمة عن ثمن هذه الطقوس، وبررت سؤالي كوني أرى رجلا أسودا في منامي يطالبني دائما ب «الذبيحة»، فرحتها ب»مغفل» جديد جعلها تصدق كلامي، وقالت أن علي إحضار الذبيحة وكل مستلزماتها من حليب وتمر و سيكلف إشرافها 150 درهم. ثم نصحتني أن أتبعها إلى البيت الذي تكتريه بالضريح كي تقرأ لي الطالع ب»اللدون» وتعرف نوع الذبيحة وصنفها، وما إذا كانت كبيرة أم صغيرة؟ سألتها أن توضح أكثر فقالت: « واش فروج ولا معزة». «العومان « في سيدي عبد الرحمان بثمن الحمام التركي على الجانب أيسر من «الصخرة المقدسة» وخلف الضريح مباشرة توجد غرفة »العومان« أو مكان طرد »لعكس«، تتحلق حولها أربع شابات وسيدتين في انتظار أدوارهن للدخول إلى الغرفة الصغيرة المظلمة، كان الطقس باردا بعض الشيء ورغم ذلك بدون مصرات على طرد النحس من حياتهن، قالت إحدى الفتيات للشاب المشرف على غرفة المعجزات،» هل يمكن أن تدفئ لي الماء قليلا وأعطيك 50 درهما بدل 30 درهم»، ردت بدلا عنه إحدى السيدات التي تنتظر دورها « إن السر يا ابنتي في الاستحمام بالمياه الباردة لسبعة أمواج فوق الرحى.» ، أبدى الشاب موافقته لرأى السيدة بإيماءة خفيفة، ثم سأل إحدى السيدات التي خرجت لتوها من الغرفة بعد أن استحمت و»تبخرات»، وقال «هل رميت شيئا من ملابسك الداخلية» أجابت ب «نعم»وانصرفت منتشية بإحساس أنها رمت ملابسها الحميمية ورمت معها كل ما من شأنه أن يكون حاجزا أمام تحقيق الحلم. قارئة «اللدون» تفك السحر ب300 درهم تذكرت دعوة نعيمة «مولات اللدون» لي، فقررت العودة إلى باحة الضريح لأبحت عن غرفتها، وجدتها جالسة بالجانب القصي من الغرفة، وحولها أوعية من ماء البحر تطفئ بها لهيب _اللدون_ بين رجلي إحدى الشابات. النعيمة امرأة في بداية الأربعينيات، جميلة ، ممشوقة القوام ذات شعر أملس أخفته بمنديل وردي، ترتدي وزرة منزلية فوق قميصها الأبيض المطرز باللون الوردي أيضا، يبدو من اختيارها لهذا اللون أنها تحب الحياة وجد متفائلة. كيف لا تكون كذلك و أتاوى »التفوسيخ« تصب في جيبها كالسيل من زبون لآخر. وجدت الغرفة الأنيقة، التي يغلب عليها اللون الوردي في الأثاث والأخضر في الجدران، كانت قد امتلأت عن آخرها بالزبائن، طلبت نعيمة من الرجل الوحيد بين النساء أن ينتظرا خارجا لأجلس مكانه، كان الكل من حولي ينتظر لحظة انكشاف سر كربه، ليخوض بعدها رحلة فكه و حله. ويأتي»التبخار باللدون» كمرحلة أولى تنكشف بها حقيقة الأزمة و مصدر السحر المعقود وثمنها 50 درهما، لتنطلق مرحلة ثانية متنوعة تحددها «الشوافة» ابتداء من «التفوسيخة» بنوع خاص من البخور، تقول أنها تأتي به من جنوب المغرب، والمرفق بإطفاء قطعة ساخنة من الحديد لمحراث تقليدي تطلق عليه اسم « سكة الورثة»، وتكلف هذه الحصة العلاجية 300 درهم ، مرورا ب»الذبيحة» وانتهاء ب»العومان» وغيرها من الوصفات التي تغرق بها الزبون أملا في شفاء مزعوم. وصل دوري وسألتني إن كنت قد أحضرت قطع «اللدون» قلت لها لم أعرف من أين اشتريه، قالت إنه عند دكان «لحفيظ» المتواجد بمدخل الضريح، هممت النهوض لكن نعيمة قالت أنها ستبيعني ما أريد مقابل 20 درهم، اتضح أن نعيمة تسرق مما يحضره الزبائن لتعيد بيعه لحالاتي، ناولتني القطع وطلبت مني أن أنفخ فيها ثلاث مراث، ثم تناولتها مني وأخذت تديرها حول رأسي ثلاث مرات، ثم لمست بها كتفي اليمنى واليسرى بعدها والبطن من جهة السرة ثم القدمين، وهي تغمغم كلاما لا يفهم منه إلا اسم الله تعالى وبعض المقاطع من سور قرآنية، ثم رمتها في وعاء الصهر جني أسود يرغب الزواج بي صبت نعيمة السائل المتحرك في إناء الماء البارد، فتصاعد البخار الدافئ مع جسمي، تناولت قطعة الرصاص المشكلة، وشرعت تقرأ في حفرها وندوبها معالم مستقبلي، ويبدو من دهاءها وثقتها في قدرتها على الإقناع، هي ما يمنحها الكلمات التي ينتظرها منها الزبون، هذا إن صدفت في شيء، وظفت نعيمة ما زعمته لها، عند الصخرة المقدسة، لتخبرني أن جنيا يسمى «ميمون لكناوي» يرغب الزواج مني و يحول بيني وبين أي زوج مرتقب، ناهيك عن كوني فقدت شغلي بسبب العين، أما باقي كلامها فكان يحوم غالبا في عموميات قد تعترض أي شخص. والحمد لله أنها حددت لي ذبيحة صغيرة بلون أسود. أديت ثمن الفحص الغيبي، وتركت ذلك المكان الذي دنست قدسيته بممارسات أقل ما يمكن وصفها بالشرك الخفي والنصب على الجيوب والعقول، ليتحول إلى مقلع لشياطين من الإنس، لأنه لو كانت هناك شياطين فعلا بالمكان لأخبرت «أمتها» نعيمة، على الأقل، أنني زوجة وأم لطفل أتمنى من الله أن يجد مغرب الغد يعيش حداثة لا تحجب بين ثناياها تجليات الجاهلية، ومعافى من تعفنات بدع ومعتقدات مجانبة للعقل والصواب والثوابت السمحة. .