اعتادت الحركة الثقافية الأمازيغية بين الحين والأخر على مساءلة خطابها و على تقييم أدائها النضالي و على رسم الخطوط العريضة لاستراتيجياتها،خاصة مع كل مستجد يطرأ على الساحة السياسية الوطنية والمغاربية والدولية، ولهذا كان لزاما علينا نحن –المناضلين الأمازيغيين- التوقف مرة أخرى عند المكتسبات التي تحققت والانتظارات والنقط التي لازالت عالقة لأنها وجدت تصلبا من هذا الطرف أو ذاك. لاشك أنه من الصعب جدا الحديث عن حصيلة إنجازات الحركة الأمازيغية خصوصا من مناضل يؤمن بأن الطريق أمام إنصاف الأمازيغية لا يزال طويلا جدا،لكن من الوجيه أيضا التطرق إلى التحول الذي أصاب مفهوم الهوية المغاربية بعد الربيع الديمقراطي والكشف عن دور البعد الهوياتي في الحراك السياسي. فقد انبرى المحللون خلف الأحداث واستلهتهم المعارك الميدانية على الشارع وقوافل الشهداء اليومية التي خلفتها آلة الاستبداد العسكرية وتغاضوا، إلا القليل منهم ، عن الأسباب والحيثيات التي أخرجت الناس إلى قارعة الطرق والميادين ، حتى الذين اجتهدوا في تلمس ورصد الأسباب انحازوا إلى العوامل الاجتماعية كالبطالة والفقر و أزمة السكن والاستبداد السياسي في حين كان الاستبداد الثقافي والعنف المفروض على هوية الشعوب عاملا حاسما في صنع هذا المنعطف السياسي البارز في التاريخ السياسي لهذه البلدان . لقد تفاجأ العالم مع نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين باندلاع الثورات الشبابية في العديد من البلدان المغاربية والشرق الأوسط ، ثورات أبهرت المحللين السياسيين ، ولأن منها تلك التي انتهت وحطت الحرب أوزارها ومنها التي لازالت مستمرة وشد الحبل لازال قائما بين الأنظمة والثوار . لكن الوقت الكافي لم يمض لتبين كامل الأسباب والعوامل التي تظافرت لتصنع هذا التحول الديمقراطي المفاجئ ولهذا تبقى التحليلات والتأويلات نسبية مادامت لا تتكئ على معطيات صلبة إلا أن الواضح هو أن الاستبداد السياسي والتضييق على الحريات الفردية والجماعية وكذا انسداد الأفق الاجتماعي من خلال البطالة والفقر الأمية وانعدام السكن ، هذه الأشياء كلها ساهمت في تأجيج المتظاهرين الذين كسروا حاجز الخوف. لكن أهمية هذه العوامل لا تعني عدم وجود عوامل أخرى فعلت فعلها وأثرت ،إن قليلا او كثيرا، في اندلاع هذه الأحداث و تأثير الهوية كان أساسيا خاصة في المغرب وليبيا وتونس ومصر . ولأن الأمر لا يتعلق بتغيير شكلي بروتوكولي انبعث من تلقاء إرادة الأنظمة فقد انفجر الزلزال السياسي ورام إعادة النظر في مسائل اعتبرتها الأنظمة الحاكمة مسلمات وبديهيات لا يأتيها الشك والباطل لا من الخلف ولا من الأمام . فحسب تحليلينا المتواضع تعرضت الهوية في المغرب وغيره من البلدان المغاربية لعنف قوي استهدف تدميرها في مراحل ومحطات تاريخية مختلفة أهمها الحملة الرومانية والعربية الإسلامية في ما سمي ب" الفتح " وكذا خلال التوسعات الإمبريالية الاستعمارية، لكن أقواها على الإطلاق هي الهجمة الشرسة التي قامت بها الدولة الوطنية التي تشكلت على أنقاض الاستعمار ، وتتجلى شراستها في كونها اتخذت صبغة وطنية وكذا في حجم الوسائل والإمكانيات التي سخرت أمامها فباسم الوطنية وتحت هذا الشعار البراق انطلقت الدولة الوطنية قبل وبعد الاستقلال في نهج ما نسميه بالعنف العروبي ألمخزني . فهو عنف دولتي étatique ، وهو عنف لأنه مفروض قسرا بقوة الحديد والنار وبفعالية الأجهزة الأيديولوجية على الأمازيغ ، هو عنف كذلك لأنه يندرج ضمن إستراتجية مرسومة ومنظمة للهدم والتدمير والمحو للوجود الأمازيغي المادي والرمزي. وهو عنف عروبي إذا ما أخذنا بعين اعتبار المضمون الثقافي لهذا العنف فهو يروم التمكين وتقوية حضور العربية من خلال سياسة التعريب الشامل ، تم إنه عنف مخزني بالنظر إلى الجهاز الساهر والقائم على تمرير هذا العنف وأجرأته على المستوى العملي وهذا ما عبر عه بن خلدون " إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب يهدمون المباني من أجل الحصول على أثافي القدور ويكسرن السقوف لنصب أوتاد الخيام وقل أن يرضى أحدهم بتسليم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه" ويقول الجابري في نفس السياق إن عملية التعريب الشاملة يجب أن تستهدف ، ليس فقط ، تصفية اللغة الفرنسية كلغة حضارة وثقافة وتخاطب وتعامل أيضا ، بل العمل على إماتة اللهجات البربرية منها أو العربية الدارجة. ص 146 أضواء على مشكل التعليم بالمغرب . قد يكون البعض قد صادف هذه المقولات لكن ، قليل من ينتبه إلى قوة الأفعال المستعملة وعلى دلالتها البارزة على العنف والتدمير الذي أشرت إليه سابقا ( تغلبوا ، يهدمون، يكسرون، تصفية، إماتة ...) بعد كل هذا نتأكد من أن الدولة الوطنية سعت بكل ما أوتيت من قوة لانتحار الشعب المغربي و تيتيمه ثقافيا وقطع كل الصلات بجذوره الحضارية وهذه خصوصية السلطة الاستبدادية عند المفكر الفرنسي ألان توران يقول : "السلطة المستبدة تسعى إلى توحيد المجتمع ثقافيا من أجل فرض رقابة مطلقة على الأفراد و الجماعات و بالتالي تقود المجتمع نحو جحيم الشمولية ." ففي الوقت الذي انشغل فيه الأمازيغ بخوض المعارك التحررية وحرب العصابات أمام فرنسا كانت نخبة مدنية تخوض حرب عصابات مماثلة ضد وجودنا الثقافي و ضد هويتنا الأمازيغية يقول علال الفاسي في التقرير المذهبي لحزب الاستقلال الصادر في يناير 1962 :"إن وطنيتنا عربية و بلادنا عربية ،ولنا الحق في أن نطالب العرب بالتكتل حول كلمة سواء هي العروبة التي تحمل في محتواها رسالة الإسلام."ص.51 .و قبل هذا التاريخ أي في الثلاثينات من القرن الماضي وإبان اشتداد وطيس حرب التحرير المغربية أصدرت هذه النخبة، في غفلة عن الامازيغ، وثائق إصلاحية تغازل السلطات الاستعمارية و تومئ إلى عقد مساومات ،كما اتخذت هذه الوثائق مرجعية للوطنية المغربية أكثر من ذلك نحتفل بذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال فكيف لم يفكر الوطنيون المغاربة في الاستقلال إلا إلى حدود 1944؟ وكيف يعقل أن نطلب من فرنسا الاستقلال وهي في قبضة الألمان و داخلة ضمن مستعمراتهم؟ و يبقى الإشكال العويص هو اعتبار هذه الوثائق مقدسات و ثوابت يعاقب القانون كل من تجرأ على خلخلتها. فلمثل هذا السبب اعتقل و سجن المؤرخ علي صدقي ازايكو و اتهم بتهمة المس بثوابت الدولة سنة 1982،كما اختطف اللساني الأمازيغي بوجمعة هباز سنة 1981 . هذا في المغرب، في الجزائر دشن النظام العسكري حملة من الاغتيالات لمفكرين تقدميين مؤمنين بجزائر متنوعة ديمقراطية وأقدم سنة 1980 على منع المفكر ميلود معمري من إلقاء محاضرة حول الشعر القبايلي القديم ....... خلاصة القول تأسس مفهوم الهوية في ظل الدولة الوطنية بالمغرب والجزائر و لبيا و تونس و مصر على العروبة و الإسلام في حين ظلت الامازيغة خارج حسابات منظري السياسة الثقافية في هذه البلدان وهذا ما يفسر انتكاسة وإخفاق جميع المشاريع التنموية فلا تنمية بدون الاعتراف بالتعدد و الاختلاف، لا تنمية ولا ديمقراطية مع استمرار هذه الدول في اعتبار الامازيغية خطرا وكل حديث يثار عنها ينظر إليه باعتباره مؤامرة لنسف الوحدة الوطنية أي لا تنمية ولا عدالة ولا أي شيء في ظل دول قائمة على الكبت الهوياتي والعنف الثقافي و اصطناع هوية اختزالية لشعوبها وجعل المجتمع مستلبا يتماهى مع ما هو أجنبي و ينظر بازدراء و احتقار لذاته. إذا كان مفهوم الهوية قبل الربيع الديمقراطي ينظر إليه من هذا المنظور التنميطي التوحيدي الاختزال أي : أن هذا المفهوم لم يسلم بدوره من المقاربة الاستبدادية فإن رياح التغيير التي اجتاحت هذه البلدان لم تكتف بنقد الأوضاع الاجتماعية المزرية و لا بواقع الحريات و بؤس الممارسة السياسية من خلال انتخابات مغشوشة و أحزاب ارتكاسية مخصية و تائهة ايديولوجيا، بل تعدى معول النقد ذلك ووصل إلى حد البث في القضايا المصيرية للشعوب خاصة الاختيارات الثقافية الخاطئة للدول التي لا تتماشى و الواقع التاريخي الانثروبولوجي للمجتمعات. ومن القضايا التي فتح حولها النقاش، قضية الهوية نفسها التي تمت إعادة تشكيلها من جديد و النظر إليها من منظور منفتح و تعددي حيث أخذ في الحسبان التجذر التاريخي و التنوع الثقافي لهذه الشعوب خاصة عمقها الأمازيغي. صحيح أن سيرورة المراجعة بدأت ،باحتشام، قبل الحركات الاحتجاجية 20 فبراير ولكن الحراك الاحتجاجي سرع من وتيرة التغيير و جعل هذا التغيير يطال جوانب لم تتوقعها الأنظمة الحاكمة . ففي المغرب مثلا تمكنت القوى الديمقراطية من ترسيم الأمازيغية في الدستور إلا أن حراس المعبد القديم قيدوا هذا الترسيم بقانون تنظيمي قيل انه سيصدر لكن إلى متى؟ و غاب عن هؤلاء الحراس أن العربية كانت رسمية منذ أول دستور في المغرب سنة 1962 ولم يكن هذا الترسيم مشروطا ولا مقرونا بأي قانون. أما في تونس فمباشرة بعد هروب بن علي تأسست أولى الجمعيات الثقافية الامازيغية .و في ليبيا فقد لعب الثوار الامازيغ الدور الحاسم في إسقاط نظام العقيد معمرالقذافي وشهد العالم بأسره كيف غطت الأعلام الامازيغية الميادين و كيف اكتسحت كتابة تيفيناغ الجدران و سيارة الدفع الرباعي و الدبابات و كل الآليات العسكرية للثوار ، أكثر من ذلك لاحظنا إصرار المجلس الوطني الانتقالي على إثبات هذه الكتابة في كل اجتماعاته الرسمية، كل هذا يعكس انفجارا واضحا للمكبوت الهوياتي خلال حكم الطاغية ألقذافي. ومن تداعيات الربيع الديمقراطي أيضا على المستوى الهوياتي إعلان تأسيس دولة أمازيغية بالطوارق كما لاحت في الأفق بوادر التنسيق بين الأمازيغ و الأكراد و تقوت العلاقات بين أمازيغ الدول المغاربية . اتضح الآن أن مفهوم الهوية في البلدان المغاربية قد انتقل من مفهوم منغلق و جامد إلى مفهوم منفتح و متعدد يحتضن التنوع والاختلاف، لكن على القوى الديمقراطية أن تحتاط لان رياح التغيير حملت إلى الحكم أحزابا ذات مرجعية اسلاموية ويمكنها تسييد التأويلات الرجعية للقوانين بالتالي ضرورة التأهب للتصدي لأي انحسار لأمواج الديمقراطية و الحداثة و كذا محاربة أي تضييق على الحريات الدينية و كل إجراء حكومي يسعى إلى مزيد من أسلمة الدولة لان الدولة جهاز يجب أن يحافظ على حياده.