يعتبر موضوع الهوية من بين المواضيع المستعصية في التناول، حيث ما لبثت أن أسالت مداد العديد من المفكرين والباحثين، خاصة لارتباطها بمصير أية "أمة مجتمعية" وأية جماعة بشرية على أية أرض. وصعوبة الموضوع تكمن في اختلاف التعاريف ووجهات النظر حوله. وقد اخترناه ليكون موضوع مقالتنا نظرا لأهميته الراهنة خصوصا مع ظهور موجات الربيع العربي التي أثارت انتباهنا حول التيه الهوياتي والمخلفات التي أعقبته، خاصة عدم الاستقرار والصراع الإثني، الديني والقبلي بين مكونات بعض الأقطار التي عاشت هذا الربيع (بالرغم من اختلاف حدة الصراع). فعلى سبيل المثال عرف المغرب بعد الحراك الشعبي الذي أفرزته حركة 20 فبراير ظهور مجموعة من الحركات العرقية الداعية لإقرار مبدأ تقرير المصير. فهناك الحركة الأمازيغية في الريف الداعية لإنشاء جمهوريتها، تنامي النزعة الصحراوية في إنشاء دولة مستقلة ، الصراع بين التيارات العلمانية والإسلامية حول جعل الدين الإسلامي أساس للهوية المغربية، وظهور مجموعة من التساؤلات حول: من نحن ؟ أنحن عرب؟ أمازيغ؟ صحراويون؟ مسلمون دينً أم ثقافةً فقط؟ ما الذي يجمعنا كمغاربة؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تمس عمق الهوية. انطلاقا من هذا الجدل، تولدت لدينا رغبة في البحث حول الموضوع، لأسباب ذاتية وموضوعية، لنحاول تقفي أثر بعض الأجوبة أو الإرشادت المؤدية إليها انطلاقاً من تساؤلنا المركزي حول أهمية الهوية في بناء أمن قومي؟ خاصة بعد ظهور ظاهرة العولمة، التي انتقلت من الجانب الاقتصادي إلى الجانب الثقافي وبالتالي الهوياتي. ومنه يمكننا أن نتساءل حول: مدى مساهمة العولمة في بناء هوية عربية مشتركة أو تكريسها لمبدأ القطرية ؟ وكذلك مدى تهديدها للأمن الهوياتي؟ لكن قبل الشروع في التحليل لابد من التأطير النظري لمجموعة من المفاهيم التي هي أساس الموضوع حيث سنبتدأ بمفهوم "الأمن"، "الهوية" ثم "العولمة". 1- المدخل المفاهيمي: أ- مفهوم الأمن: تتعدد التعاريف بتعدد وجهات النظر وبتعدد مستوياته وكذلك بتعدد المضامين التي يحملها هذا التعبير. عموما "الأمن" هو حالة من الإحساس بالطمأنينة والثقة ، تظهر قيمتها عند مجموعة من الأطراف كالفرد والعائلة والدولة وهو يستدعي كذلك في بعض الأحيان التضحية ببعض القيم كالحرية والمساواة والعدالة وغيرها من القيم . ويقصد به كذلك في بعض التعاريف، الموقف المترتب عن الحالة والناتج عن غياب حقيقي للخطر، وهو مرتبط بخاصية العدوانية المبنية على فكرة الخوف. بالتالي فهو يعني حماية الذات وضمان حق البقاء، حيث تقوم الدولة بكل ما يلزم لضمان بقائها الذي يعتبر من حقوقها الأساسية . وفي التقاليد العربية الإسلامية نجد الأمن قد عني به الطمأنينة والاستقرار، وهو ما عبر عنه في القرآن الكريم بقوله تعالى "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" . بمعنى تحرير الإنسان من الحاجة ومن الخوف. وقد عالج بن أبي ربيع (القرن الثالث الهجري) الأمن من خلال قضيتين، أولهما "سياسة الحروب" التي تشير إلى البعد العسكري، وثانيهما "تدبير المملكة" وجوهرها الأبعاد الاقتصادية . أما أبو حسن الماوردي فقد ربط الأمن بتقدم المجتمع، حيث قال " اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة ستة أشياء، هي قواعدها وإن تفرعت، وهي: دين متبع، سلطان قاهر، عدل شامل، أمن عام، خصب دار،أمل فسيح" . وهنا يجب التركيز على القاعدة الرابعة أي الأمن العام، حيث وصفه بأنع "عام" لأنه بهم الحاكمين والمحكومين، ويصفه كذلك بأنه "مطلق" يؤدي وظائف سياسية، فيه تطمئن النفوس وتحفز على العمل والتقدم . أما التقاليد الغربية فقد تناولت مفهوم الأمن على أنه يمثل قدرة الدولة على أن تحمي قيمها السائدة داخليا لتحليل الأسلوب الموجه الذي بموجبه تخطط الدولة وتقيم سياساتها الأمنية المستهدفة أساسا لزيادة القدرة . حيث يعرف شارل سلايشتر الأمن على أنه "يشير إلى قيم مثل الحرية والرفاهية والسلام والعدالة والترف، هذه القيم هي أهداف الأمن ومن ثم يصير الأمن مجرد لحمايتها" . وبالنسبة لبعض الاتجاهات الفكرية العربية المعاصرة، فقد ظهرت على السطح مجموعة من الإسهامات، فمثلا عرف الدكتور حامد ربيع الأمن على أنه" يلك المجموعة من القواعد الحركية التي يجب على الدولة أن تحافظ على احترامها، وأن تفرض على الدول المتعاملة معها مراعاتها لتستطيع أن تضمن لنفسها نوعا من الحماية الذاتية والوقائية الإقليمية" . إضافة إلى الدكتور علي الدين هلال الذي عرفه على أنه "تأمين كيان الدولة والمجتمع ضد الأخطار التي تهددها داخليا وخارجيا، وتأمين مصالحها وتهيئة الظروف المناسبة اقتصاديا واجتماعيا لتحقيق الأهداف والغايات التي تعبر عن الرضاء العام في المجتمع" . ومن هنا يمكننا الحديث عن عدة مستويات للأمن، فهناك الأمن الجماعي المرتبط بانتفاء الأخطار التي قد تهدد بقاء الجماعة وبشعور الثقة والتحرر من الخوف، وهناك الأمن الفردي المرتبط بالاستقرار والإشباع الفيزيولوجي والاجتماعي (الانتماء، تحقيق الذات) . انطلاقا مما ذكرناه سابقا من تعاريف، يظهر لنا أن الأمن من طبيعته يخضع لتهديدات مادام هذا المفهوم مرتبط بالخوف، وبالتالي سنحاول تقسيم هذه التهديدات إلى أخطار داخلية وأخرى خارجية: فبالنسبة للأخطار الداخلية، فيمكن أن تكون سياسية تتمثل في عدم الاستقرار الناجم عن غياب التنمية والديمقراطية والحريات، وهو ما ينتج عنه مجموعة من الأزمات كأزمة الشرعية المرتبطة بالنخب السياسية الصانعة للقرار، وأزمة المشاركة في صناعة القرار، وأزمة الهوية التي تعززها إجراءات التنمية التي تتخلل تركيبة النسق الاجتماعي الواحد ومواقع الأفراد فيه على أسس غير تقليدية. وهي جميعها تدخل نطاق التخلف السياسي الذي قد يشكل أحد عوامل التهديد للأمن . بالإضافة إلى الاخطار السياسية يمكننا الحديث كذلك عن الأخطار الاجتماعية التي يمكن أن تكون مرتبطة بالانقسامات القبلية والطائفية والعنصرية التي قد تزعزع الأبنية الاجتماعية عندما تتحول إلى أنماط سلوكية انعزالية مقاومة للتجديد . أما الأخطار الخارجية المهددة للأمن فيمكن أن تكون من خلال دولة ما أو من مجموعة من الدول أو من خلال ظاهرة عالمية. فبالنسبة للتهديد الخارجي من خلال دولة ما فيمكن أن نتحدث مثلا عن الخطر الاسرائيلي الذي يحاول اقتلاع الشعب الفلسطيني ويسعى إلى استئصاله عضويا تحت ذريعة المحافظة على "الأمن الاسرائيلي" . أما بالنسبة للتهديد الخارجي الذي قد تساهم فيه مجموعة من الدول فإننا نعني به الأحلاف والتجمعات الاقتصادية كالاتحاد الأوربي وحلف الناتو...، والتي قد تساهم في إسقاط دولة معينة عن طريق اختراقات عسكرية، كما حدث في ليبيا مؤخراً، وثقافية كما هو حال المغرب الذي يستفيد مجتمعه المدني من تمويلات ضخمة لمشاريع تهدد المنظومته الثقافية من خلال المقاربات المعتمدة في تنفيذها كمقاربة النوع مثلا والتي يتم فرضها في جل المشاريع . وبالنسبة للتهديد هن طريق ظواهر عالمية فنعني بذلك ظواهر من قبيل العولمة التي سنعالجها في الفقرات المقبلة خاصة في علاقتها بالهوية . ب- مفهوم الهوية: تعتبر الهوية من المصطلحات المثيرة للجدل خصوصا لحداثة استخدامها وقابليتها للتناول من زوايا مختلفة. فمن الناحية اللغوية فهي تقابلها كلمة identité في اللغة الفرنسية، وهي ذات أصل لاتيني وتعني الشيء نفسه. كما تعني في اللغة الفرنسية مجموعة من المواصفات التي تجعل من الشخص ما هو عليه . وفي ثراثنا الفكري العربي تعرف الهوية على أنها حقيقة الشيء المطلقة، أما الهوية الجماعية فهي معالمها وحقائقها المميزة. ويشير "الكندي" إلى مصطلح الهوية حيث يقول أن "لا هوية إلا بما فيها من الوحدة وتوحدها هو تهويها" . بالتالي فإن الهوية هي ماهية الشيء وحقيقته المعبرة عنه، حيث تتحدد الصفة بالموصوف في تشخص متفرد لا إشراك فيه ، وهذه الهوية ترتكز على ثلاث أركان وهي: العقيدة، اللسان والثراث الثقافي الذي يزود الانسان بالذاكرة الأدبية والتاريخية . وهذا ماا سنركز عليه في مقالتنا هته، حيث يعتبر الموروث الثقافي الإسلامي صلب الهوية العربية، والموروث هنا من زمن الثقافة العربية المنتجة للنظام المعرفي المرتبط جدليا بالمكون العربي الاسلامي والذي بانتفائه ينتفي وجوده كمكون حضاري . لكن الإشكال المطروح بشدة الآن هو مدى قدرة الهوية العربية والإسلامية التي تشكلت في تاريخ سابق على الصمود في وجه تحديات العولمة التي قد تؤدي بها إلى الاندثار والذوبان في نموذج ثقافي عالمي يسلبها معالمها؟ بصيغة أخرى يمكننا التساؤل عن مدى تهديد العولمة للهوية العربية الاسلامية؟ لكن من جهة أخرى يمكننا التساؤل عن مدى قدرة العولمة على بناء هوية عربية مشتركة ؟ لكن في نفس الوقت يمكننا التساؤل عن مدى حاجتنا إلى هوية تميزنا عن باقي المكونات الثقافية الكونية؟ بعبارة أخرى، ألا يجدر بنا الاندماج في حركة تثاقف عالمية؟ للاجابة عن هذه الأسئلة لابد من الحديث عن "العولمة" كمحدد لهذا "التهديد" أو "الاندماج" أو "التحول" الذي قد يطال هويتنا العربية الاسلامية. ت- مفهوم العولمة: انهار الاتحاد السفياتي، خمد وطيس الحرب الباردة، انتصرت أمريكا وأصبحنا نتحدث عن نظام عالمي جديد... ظهرت إلى السطح ظاهرة "العولمة" وهي ترجمة حرفية للمصطلح الانجليزي GLOBALIZATION. وقد اختلف المحللون والمفكرون في تعريفها لاختلاف مشاربهم الفكريةومناهج تحليلهم . ارتبطت العولمة في البداية بالمجال الاقتصادي، حيث ارتكزت على إزالة الحدود لتسهيل حرية تنقل السلع ورؤوس الأموال. غير أن هذه الظاهرة تجاوزت ما هو اقتصادي وتجاري إلى مجالات أخرى كالثقافة والحياة الاجتماعية وما يحتويها من أنماط سلوكية ومذاهب فكرية تصوغ بدورها هوية الشعوب والأفراد . كتوضيح لهذه الظاهرة هناك بعض الأمثلة الواقعية التي تترجم أبعادها، فمثلاً اتفاقية GATT و NAFTA، كذلك قيام مؤسسات كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بتوجيه الدول الضعيفة في استراتيجياتها الاقتصادية. بالتالي يؤدي ذلك إلى إزالة القيود عن الدولة الوطنية. وهو ما استشعرته بعض الدول كفرنسا، التي رأت في العولمة مرادفا "للأمركة"، وتحفظت على بعض بنوذ اتفاقية GATT، وكذلك موقفها الصارم في المؤتمر الدولي للسياسات الثقافية في المكسيك سنة 1982، حيث نددت بمواقف الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تبذل جهوداً كبيرة من أجل نشر ثقافتها، وأصبح الحديث عن "الغزو الثقافي" الذي سيؤدي حتما إلى تدمير البنية الثقافية الوطنية ومنظومة القيم، إضافة إلى تغيير أنماط الحياة الاجتماعية، الثقافية، السلوكية والأخلاقية . وهو ما يؤكده المفكر محمد عابد الجابري، حيث يقول بأن العولمة نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد وأنها نظام عالمي يشمل المال والتسويق والمبادلات والاتصال كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والإيديولوجيا . وهو ما يوافق القول بأن العولمة هي القولبة الكلية الأحادية الأكثر اتساعا وشمولية، تتجه إليها الأوضاع الدولية مدفوعة بالثورتين الاقتصادية والتكنولوجيا . بالتالي هل وجب الخوف من العولمة ما دام عالمنا العربي الإسلامي يعيش الوهن والضعف؟ هل هويتنا الثقافية في طريقها نحو الاندثار؟ هل من مصلحتنا الاندماج في التيار الكوني رغم إمكانية الاستلاب؟ أم نتشبث بقيمنا وهويتنا بالرغم من خطر الانغلاق المجتمعي؟ 2- الأمن الهوياتي وإعصار العولمة: بعد ما أبرزناه من تعاريف ومفاهيم مؤطرة لموضوع مقالتنا، كان ولابد من ربط هذه المكونات للشروع في محاولة فك لغز العولمة للتعايش معها أو مواجهتها إن دعت الضرورة، على الأقل هوياتيا مادامت الجوانب الأخرى صعبة المنال خاصة في ظل ضعف الأنظمة السياسية الحاكمة وضعف الاقتصادات الوطنية في المنطقة. وفي سبيل ذلك سننطلق في تحليلنا انطلاقا من رصد مأزق الهوية العربية، لننتقل بعد ذلك لمحاولة رصد معالم بناء أمن هوياتي. أ- مأزق الهوية العربية: يعتبر الموروث الثقافي الاسلامي صلب الهوية العربية، وقد اعتبره المفكر محمد عابد الجابري في كتابه " نقد العقل الأخلاقي العربي" محدداً للأخلاق، وبالتالي للهوية العربية التي تشكلت في إطاره هي الموروث العربي الخالص والموروث الاسلامي الخالص والموروث الفارسي واليوناني والصوفي. وهي تقع كلها ضمن الثقافة العالمة . والحقيقة الجديرة بالذكر هي أن هذه الموروثات كما أحصاها الجابري أصبحت لا تقع كلها في الثقافة العربية بمعناها الشامل لاستفحال دائرة الحياة الشعبية، وبالتالي طغيان السلوك الشعبي. فالأخلاق التي شكلت هوية الثقافة العربية الكلاسيكية بهتت في العصر الحديث، لطغيان السلوك والنمط الغربي، وبسبب الاعتراض عليه أيضا، وهو ما يزيد من اغتراب الذات العربية ذاتها. ومن هنا يتبين مأزق الهوية العربية، حيث انحصرت في نوستالجيا الماضي عوض إنتاج ثقافة حديثة تفصح عن هويتها المعاصرة. أي الانتقال من الهوية المُنجزة إلى صناعتها. فالمعطى التاريخي القديم، أي الإسلام واللغة العربية أصبحا يمثلان مشكلة بسبب غياب القدرة على الإبداع والتواصل مع الذات. وقد ذهب البعض إلى القول بأن المشكل ينحصر في غياب التاريخ الخالص للمنطقة العربية كوحدة ثقافية وإطار قومي يقف أمام التحديات الخارجية. كل ذلك راجع للأسباب التالية: التداخل بين الزمن الحديث والمعاصر، حيث فشل رواد النهضة العربية في الحسم في القضايا التي خاضوها، وهو ما يترجم العجز عن تحقيق الوحدة العربية الإسلامية، وكذا العجز عن تحقيق تلاؤم بين الاسلام والدولة المدنية. فلازالت نفس القضايا تقض مضجعنا إلى اليوم. في نقطة ثانية، لابد من الإشارة إلى أن العرب لم يعرفوا ثورة فكرية أو تحركاً سياسيا ولم يكونوا دولة واحدة أو مجموعة أقاليم يجمعها أحد العناصر التي تنبني عليها الحداثة. فغياب الدول العربية آنذاك ضيع فرصة ظهور هوية تؤطر للتاريخ الخاص بالمنطقة العربية. وعلى الرغم من ذلك لابد من الإشارة إلى أن المنطقة العربية عرفت في تاريخها الحديث سجلا حافلا من أشكال مقاومة الاستعمار والاستبداد غير أنه يبقى مقوما ضعيفا لضمان قوة تباث الهوية الخاصة في ظل غياب الازدهار والأمن. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المجتمعات العربية قبل الاستقلال عرفت انحراف كبير عندما حاولت هدم رواسب الاستعمار ومحاولة الرجوع إلى الهوية الأصيلة التي كانت قبل دخول هذا المكون، بالتالي عملت على سن سياسات لطمس هذه الفترة وقامت بإقرار سياسات التعريب والمحافظة على الثوابت الوطنية، غير أنها لم تعمل على توفير بدائل لصيانة وتحديث وعصرنة هذه الهوية حتى تواكب عصر الحداثة . وبالتالي أصبحناأمام سكيزوفرينية المجتمع التائه بين التشبث بالقيم الأصيلة الغير واضحة والملتبسة وبين التطلع إلى مجتمع الحداثة والممارسات الحياتية التي يفرضها، الشيء الذي ولد لنا هوية معطوبة وحداثة مشوهة. وفي الجانب الآخر من المشهد، لابد من الحديث عن العلاقة بالعولمة التي ولدت ما يسمى "بالغزو الثقافي"، أي طغيان ثقافة معينة على أخرى، أو كما فضل البعض تسميتها ب"الأمركة"، حيث تسعى الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى إدخال ثقافتها وقيمها إلى العالم وذلك تحت ذريعة التواصل الثقافي والتبادل الحضاري. هو أمر محمود ومرغوب فيه لنماء الثقافة وتطورها، فمثلا تحدث الكثير من المؤرخين عن انفتاح الثقافة العربية والاسلامية في العصر العباسي والأموي علي باقي المكونات الثقافية العالمية، وبذلك اختاروا ما شاؤو من هذه الثقافات دون أن يفرض عليهم ما يأخدوه . وهو ما يختلف عن واقع الأمة العربية حيث تعاني الضعف والوهن السياسي والعسكري والثقافي...، ما يجعلها دائما أمام واقع الاستلاب والتغرب في ظل غياب أمن حقيقي لهويتها، يحفظ أسسها ويضمن تطورها واستمرارها. ب- نحو أمن هوياتي: من خلال ما سبق يتبين لنا أن الهوية العربية والإسلامية في حد ذاتها تعاني من عدة اختلالات وتمزقات خاصة في عصرنا الحديث، وعجزت إلى حد الآن عن تطوير مكوناتها الثقافية . هذا ما يجعلنا نتساءل عن مآل هذه الهوية خاصة في ظل السرعة التي يسير بها العالم و اختلال موازين القوى الدولية، خصوصا في ظل ظاهرة العولمة التي جعلت من المستحيل إيقاف سيل المدخلات الثقافية والهوياتية خاصة مع ثورة وسائل الاتصال والتكنولوجيا. هذا يجعلنا أمام اختيارين، الانطوائية والانغلاق، وهو النموذج الشاذ لحماية أمة ما، وهنا يمكننا أن نطرح نموذجا حيا اعتمد هذا المنهج، وهو كوريا الشمالية التي تعيش تحت نظام "كيم جونغ"، هذا الأخير حاول بكل وسائل الانغلاق المتاحة التصدي للتأثيرات الخارجية على العقلية الكورية الشمالية وثقافتها، فإذا أخدنا مثلاً إحصائيات عدد المتصلين عبر الأنترنيت في هذا البلد نجده لا يتجاوز 215 شخص في البلد كله. بالتالي إن أردنا تطبيق نفس النموذج على الحالة العربية التي تعرف الآن حالة من الانتكاس والحنين للأصولية (نتائج الانتخابات بعد الربيع العربي) وفي ظل غياب الحركات الثقافية المجددة سنكون لا محال أما هروب إلى الوراء. الاختيار الثاني هو الانفتاح المُحَصّن، وهو نظرتنا للأمن الهوياتي، حيث يتم العمل على تشجيع الإبداع وتحرير العقل عن طريق دعم المجالات الثقافية وتقليص نسب الأمية، خلق نقاشات حول الثراث وآليات تجديده (دون تشويهه) وبتفاعل مع باقي الحضارات العالمية، حتى نحصل التراكم المطلوب لإعادة تأهيل هويتنا و تجديدها لتصالحنا مع ذاتنا وتحصن ناشئتنا. بهذا سنكون قد تقدمنا بخطوات مهمة نحو صناعة حصن هوياتي صعب الاختراق. هنا يمكن أن ندرج أمثلة من التجربة الفرنسية في هذا المجال، حيث فرضت سنة 1996/1997 على قنوات التلفزة أن تخصص 60 بالمئة من برامجها للانتاج الأوربي، حتى لا يترك المجال مفتوحا أمام الانتاج الأمريكي، كما تم حرمان جموع التظاهرات الثقافية والفنية من الدعم ما لم تعتمد اللغة الفرنسية كلغة للتظاهرة ، هذا بالإضافة إلى فرض اللغة الفرنسية في المهرجانات الخطابية. وقد ذهب الرئيس السابق جاك شيراك إلى منع إنشاء مطاعم "ماكدونالد" في برج إيفل، حتى يبقى منفردا بنمط العيش الفرنسي . هذا يجعلنا أمام ضرورة الانفتاح على تجارب من هذا النوع للاستفادة منها خاصة في الحفاظ على المكونات الثقافية لأمتنا المجتمعية، وهو ما سنحاول التنقيب عنه في بحوثنا المستقبلية سواء على المستوى الشخصي أو الأكاديمي، حتى نتمكن من وضع أسس الأمن الهوياتي كمكون للأمن القومي، والذي قد يساهم في رسم استراتيجيات هذا الأخير. قائمة المراجع: المراجع العربية: 1. القرآن الكريم 2. سعيد خالد الحسن، مدخل تمهيدي لدراسة نظرية القيم السياسية، دراسة غير منشورة، 2010، الرباط 3. د. محمد مصالحه، مسألة الأمن العربي بين المفاهيم، الواقع والنصوص، مجلة شؤون عربية، يناير 1984، 4. شارل روسو، القانون الدولي العام، الدار الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1982 5. ابن أبي ربيع، سلوك المالك في تدبير الممالك، تحقيق ودراسة د. ناجي التكريتي، الطبعة الثانية، دار الأندلس، بيروت 1980 6. أبو الحسن الماوردي، أدب الدنيا والدين، دار الفكر، بيروت 7. د. حامد ربيع، نظرية الأمن القومي العربي، دار الموقف العربي، القاهرة، 1984 8. د. حامد ربيع، المضمون السياسي للحوار العربي الأوربي، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1979، ص 228 9. د. حامد ربيع، من يحكم تل أبيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1975 10. د. على الدين هلال، الامن القومي العربي، دراسة في الأصول، شؤون عربية، ع 35، يناير 1984 11. الطيب عبد الجليل، بحثه حول " اشكالية الهوية وبناء الدولة الوطنية المعاصرة" ، نسخة إلكترونية 12. العولمة والهوية، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة الدورات، الرباط، 1997 13. نور الدين ثنيو، " الهوية العربية تواجه ذاتها"، مجلة الديمقراطية، العدد 12، أكتوبر 2003 14. د. عبد الغني عماد، سوسيولوجيا الثقافة – المفاهيم والاشكاليات من الحداثة الى العولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، 2006 15. محمد عابد الجابري، نقد العقل الأخلاقي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000 16. محمد عابد الجابري، " أسئلة يجب الوعي بها"، الشرق الأوسط، 4 فبراير 1997 17. السيد ولد أباه، "مأزق ايديولوجيا العولمة"، الشرق الأوسط، 2 فبراير 1997 المراجع الأجنبية: 1. David A. Baldwin, the concept of security, review of international studies, 1997 2. Morton Berkowitz & P.G Bock, National security, International encyclopedia of the social sciences, new york, 1968, vol 11 3. Charles P.Schleicher, international relations, cooporation & conflict, englewood cliffs, NNew Jersey, 1982 4. G.Homans, social behavior, Brace world, new york, 1961, chpt 2 5. Apter, ther politics of modernisation, university of chicago, chicago 1965 6. معجم larousse