تحوط منهجي: حينما هممت بالكتابة حول "موضوع الهوية" ترددت كثيرا،ليس تخوفا من المفهوم و لا حرصا على "قداسته"،ولكني استنفرت عدة إشكاليات، جعلتني أعمل بقولة عمر بن الخطاب التي قال فيها "ما ندمت على سكوتي مرة ولقد ندمت على الكلام مرارا". ليس سهلا أن يخوض المرء رغم تروضه على التفكير مرارا في موضوع لا يعلم كيف يكون منه المخرج. لقد كان تحوطي نابع من معطى أساسي : أن الكتابات بخصوص المفهوم متعددة،وأن أقلام من تمردوا على الجاهز و آثروا الخوض فيه لازالت لم تجف بعد . تحضرني الآن كتابات كل من الدكتور محمد عابد الجابري " نحن و التراث"، "التراث والحداثة"...كما تحضرني كتابات طه عبد الرحمان " العمل الديني و تجديد العقل" و "تجديد المنهج في تقويم الترات"... و كتابات حسن حنفي "التراث والتجديد :موقفنا من التراث القديم"و "التراث و التجديد"،و أيضا كتابات عبد الله العروي التي تناولت مفاهيم محورية أعيدت لها قيمتها الاعتبارية ك"مفهوم العقل"،"مفهوم الدولة" و "مفهوم الحرية"...طبعا لست ندا لهؤلاء و لكني إذ أعلن تواضعي أعلن معه أيضا تمردي و أعلن أيضا بعضا من تصوري . تحوطي المنهجي هذا صادف عقبة أني لم استوعب يوما تخلفنا وقرأت كما قرأ الجميع خطابات رواد الحركة السلفية الحديثة : محمد عبده ،قاسم أمين،جمال الدين الافغاني ،شكيب أرسلان و عبد الرحمان الكواكبي...وقلت هل الأخلاق و تحرير المرأة و محاربة الاستبداد ...وحدها تلزمنا لنخرج من تخلفنا و تسمح لنا بتحقيق الإقلاع الذي ينشده الجميع علنا؟ و هل إعادة قراءة التراث و تجديده وتصحيح مساره كفيل بأن يمدنا بالإجابة عن سؤال أفرد له عبد الله العروي حيزا في كتابه" الإيديولوجيا العربية المعاصرة" عنونه ب"الوعي بالغرب و الوعي بالذات"... أكيد أن "أبطالا" بحجم هؤلاء لم ينطلقوا من قاعدة السهل الممكن الاحاطة به ...بل إنهم فطنوا بدهاء الحكيم و فطنه الفيلسوف إلى خطورة الإشكال وصعوبة الحسم فيه، خصوصا وأن تداول العلاقة بين "الأنا" و "الآخر" أخذ ملفوظات أخرى مثل "التراث" و "الحداثة"... وهو الأمر الذي حملني على أن أطرح إشكالية الهوية كمسوغ للانتقال إلى الحداثة أو كعائق أمام هذا الانتقال،و كيف ينبغي التعامل مع سؤال الهوية لتجاوز مرحلة الكمون (إن لم نقل الركود) التي تمر منها مجتمعاتنا التي لازالت تحتفظ لكل ما هو تراثي بقداسته المحصنة... لهذا التمس لنفسي العذر إن أبليت في هذا الموضوع وفق رؤية كونتها وتبقى على أي محط نقاش كان ولن يزول في المستقبل القريب كما أظن. 1. على سبيل التقديم : إن مفهوم "الهوية" لم يعد حديث نخب و علية القوم، بقدر ما انه أضحى حديث نخب تسامر به إبريق شاي أو فناجين البن... على رصيف ملئ بالمتناقضات .و إن نظرنا إلى المفهوم من هذه الزاوية ترآى للجميع تداولية المفهوم، لكن إن عصرت الفكرة وعمق التفكير بدت في الأفق حجم المشكلات التي يطرحها المفهوم بشكل يجعله محط تأمل أكثر منه محط تجريب . بالرجوع إلى المعنى اللغوي لاصطلاح "الهوية" نجد أنها مشتقة من الضمير " هو " ، أما مصطلح "الهو هو" المركب من تكرار "هو" فقد تم وصفه كاسم معرف ب "ال" ومعناه "الاتحاد بالذات"...كما أن مفهوم "الهوية" يشير إلى ما يكون به الشيء هو أي من حيث تشخصه و تحققه في ذاته وتميزه عن غيره ، فهو وعاء الضمير الجمعي لأي تكتل بشري ،ومحتوى لهذا الضمير في نفس الآن بما يشمله من قيم و عادات ومقومات تكيف وعي الجماعة و إرادتها في الوجود و الحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانها . و بالانتقال إلى مرحلة مقاربة المفهوم اصطلاحيا يمكن القول أن الهوية بما هي مجموع السمات و المميزات التي تميز الفرد عن الجماعة كما تميز فردا عن آخر بل وجماعة بشرية عن أخرى (وأمة عن أمة أخرى) نظرا للاختلاف الموجود بين الأمم من الناحية الجغرافية و الثقافية و الاجتماعية و النفسية و اللغوية و العرقية ...إن الإنسان كما يذهب الى ذلك جان فرانسوا ماركييه " كان يبحث منذ البدايات عن مرآة يمكن أن يجد فيها صورة هويته المشتتة، وقد جمعت و جرى فهمها أخيرا ،و هو يعثر على غداء بحث كهذا في اللغة ،الفلسفة و الآداب ..." (1) معترفا أيضا أنه " ليس ثمة ما هو أقل تحديدا و أكثر تشتتا مما هي هوية كل واحد ، ليس ثمة ما يصعب أن نحرزه أكثر من وجهنا حين لا تكون موجودة مرآة تعكس صورته" (2) 2. هل الهوية تختزل في المكون اللغوي؟ هذا طبعا يجرنا الى إشكالية أعمق وهي تلك المرتبطة بعلاقة اللغة بالهوية ،فإذا كانت اللغة هي أكبر من مجرد آلية للتبليغ والتواصل، فهي أيضا قدرة تمكن من الإبداع وحمل المعرفة و انتاجها, فاللغة فعلا كوعاء للفكر و المعرفة هي أساس بناء المجتمع ومساهم بارز في تنميته، لهذا ما لبث هيجل Hegel يقول "نحن نفكر داخل الكلمات " بل لقد وصف ميرلوبونتي M.Merloponty لحظة التفكير الصامت بأنها "ضجيج من الكلمات" (3) ووصفها (أي اللغة) لبنيتزLeibnitz على أنها " مرآة العقل" كما اعتبرت صلب كل نسل كما يصفها أحد الشعراء " لكل قوم لسان يعرفون به إن لم يصونوه لم يعرف لهم نسب"...باختصار فاللغة عاكسة لانجازات الفكر .رغم أن المشكل ليس في مثل هذا الإعتراف ،و لكن عندما يتم ربط اللغة بالهوية تطرح الاشكالية خصوصا حين يتم امتطاء المشكل لتحقيق مآرب أخرى غير تلك المعلنة . إن الإصرار على اعتبار أن أخلاق الشعب لها تأثير على لغته كما أن اللغة هي صانعة ذلك الشعب ، هو إصرار متعصب يدفعنا إلى التساؤل عن جدوى تعلم لغات أجنبية، أليس الأمر بهذا الشكل معناه فقدان الهوية ؟ هنا يمكن التصريح بأن ربط الهوية باللغة فقط هو ربط مجاني،اعتباطي واختزالي في الآن ذاته، و لنا في التجربة المغربية دليل ، فأثناء صياغة دستور فاتح يوليوز 2011 طرح المشكل بصورة أوضح، خصوصا وأن خطاب 9 مارس 2011 الممهد للتعديل الدستوري،على ما اعتقد ،تحدث عن الهوية و ليس اللغة ،إلا أن بعض "الفعاليات الأمازيغية" أرادت أن تستغل الفرصة و تحقق مطالب كانت إلى حد قريب مجرد مطامح بل أحلام، الأمر الذي كاد يؤدي بالنقاش الدستوري إلى أن يدخل في صراعات قبلية أو حزبية ضيقة،خصوصا عندما يتم تحويل النقاش من الهوية المتعددة للمغاربة وكيفية دسترتها إلى نقاش لغوي وصولا الى أي اللغات ينبغي ترسيمها ... من يملكون منظورا مختزلا للهوية في علاقتها باللغة فعلا واهمون ،لأننا لا نتحدث عن هوية واحدة, بل عن هويات متعددة ،و ليس لأي فاعل كيفما كان وضعه أكاديمي كان أو سياسيا ان يدخل الوطن في دائرة المجهول. فلحظة التوثيق الدستوري للهوية هي التي تبرز الى اي مدى هناك اختلاف في الرؤى بخصوص "مشكلة الهوية" فلا غرابة إن توقفنا عند التجربة الانجليزية التي يلعب فيها العرف دورا تشريعيا أكبر مثلما ان اسبانيا تطرح فيها اشكالية التعدد اللغوي ... إن الحديث عن هوية المغرب كوطن له تاريخه يتجاوز السب المتداول(4) إلى ضرورة فتح نقاش علمي يؤمن بأن أي حديث عن الهوية هو حديث عن لحظاتها التاريخية التي مرت منها ،و هذا يجرنا بالتأكيد إلى طرح إشكالية أعقد من سابقتها وهي تلك المتعلقة بعلاقة الهوية بالجغرافيا و المصير التاريخي المشترك و بالانتماء الديني...ثم هل يمكننا الحديث عن "صفاء عرقي" بالمغرب مثلا شأنه شأن الصفاء العرقي في مجموع البلدان التي تعاني من النعرات الطائفية و العرقية ... تكمن صعوبة تعريف الهوية اذن في تعدد أوجهها الدينية العرقية و اللغوية ،بل و حتى الإيديولوجية والسياسية ...وهو ما يجعلنا نصطدم بمجموعة من التقابلات العلائقية كعلاقة الهوية بالدين وعلاقتها بالعرق و اللغة و الايديولوجيا . 3. دواعي شعار "تحصين الهوية" كثير هم الذين يتحدثون عن "الهوية الوطنية" التي تشكل أساسا "الهوية الاجتماعية" ،تفكير كهذا يعبر عن نزوع عميق لتقدير الذات بما يضمن الأمن النفسي و الاستقرار الانفعالي للإنسان عندما يتعزز شعوره بمكانته و احترامه و كرامته...،بل إن مثل هذه النعرة كما سنأتي على ذلك فيما بعد دفعت إلى رفع شعار ضرورة تحصينها من أي تهديد كيفما كان نوعه ،وهو ما يتغافل عن إشكالية علاقة الهوية ،كظاهرة، بالعولمة : فهل يمكن اعتبارها ظاهرة عالمية؟ فاليابانيون مثلا يتنازعهم هذا الإشكال, فهل موقعهم وثقافتهم تجعل اليابانيين آسيويين أم أن ثروتهم و ديمقراطيتهم و حداثتهم تجعلهم غربيين و هذا شأن العديد من الدول التي إما إنها تبحث عن هويتها الوطنية او أنها تعيش ازمة هوية مستمرة (جنوب افريقيا،الصين ،تركيا...). إن مشكلتنا كشعوب تعيش واقع التعدد في روافد الهوية الوطنية هي أن هويتنا الوطنية غالبا ما تصطدم "بمحنتنا" التي هي في الاصل محنه قديمة في الزمن،إنها محنة أن لنا تاريخا ...هناك العديد من الأوطان استطاعت أن تؤسس لهويتها بسهولة ويسر ،علما أن هذه الأوطان لم تفشل في تحقيق ما تصبو إليه ، بل إن الغرب الذي طالما عاتبنا على جزء منه أنه بدون ذاكرة تاريخية،استطاع إحكام قبضته على العالم إما بطمس الهويات التي تشكل عائقا أمام تحقق طموحه أو التي تسعى إلى إضعافه أو إلى خلق مناخ للتماهي بين الهويات باعتماد آليات الحداثة و العولمة و العلمنة أيضا .حتى أصبح الشك يساورنا و من تم أصبح لزاما طرح سؤال : هل عائق تطورنا هو إسرافنا الجهد و الدهر في حياكة استفسارات منصبة على هويتنا مع العمل على حماية الهويات ،دينية كانت او اثنية او لغوية او ايديولوجية او سياسية... ،من كل ما يهددها ؟هنا اصبح سؤال الهوية عائقا أمام تحقيق التنمية.فقد أسرفنا زمنا ليس بقصير و نحن نلوك هذا السؤال فمن المستفيد من هذا التأخير؟ تعتبر كل هوية متماسكة و صلبة البناء و التشكل ،من و جهة نظري ،بمثابة عبء و قد يحد من حرية الاختيار ، لأن فتح الأبواب حين يطرق الآخر يعتبر أمرا مستحيلا و هذا ما سأعمل على توضيحه عند الحديث عن علاقة الهوية بالإقلاع الحضاري و الحرية باختصار تصبح الهوية هنا وصفا لكل شيء متصلب و مذمومة و مستهجنة ومدانة من طرف كل السلطات الحقيقية و المزعومة في أيامنا ،كوسائل الاعلام و خبراء المشاكل البشرية و أيضا السياسية ...لأنها على نقيض المواقف الصائبة الرشيدة المبشرة بيسر التعامل مع الحياة. قبل الاجابة عن سؤال : من المستفيد من التأخير الحاصل في التقدم بطرحه لقضية "الهوية"؟ تستوقفني آخر عبارة ختم بها د.محمد عابد الجابري مقدمة أحد كتبه قائلا : "سؤال الحداثة سؤال متعدد الأبعاد ،سؤال موجه إلى التراث بجميع مجالاته وسؤال موجه إلى الحداثة نفسها بكل معطياتها و طموحاتها...إنه سؤال جيل بل أجيال ...سؤال متجدد بتجدد الحياة"(5). مات محمد عابد الجابري و في نفسه غصة من أولئك الذين لم يستوعبوا مشروعه الفكري فظلموه. فالرجل لم يسع إلى قلب الطاولة على التراث بل لقد اعتبره منطلق كل تجديد ،دون انكار أنه (أي التراث)محدد للهوية العربية التي ابتدأت من "صحيفة النبي الى لحظة تفكك الخلافة العباسية..."(6) و الذي ارتبطت فيه العروبة بالإسلام ،و الإسلام بالعروبة "إذ لم تكن الهوية تتحدد بالنسب بل كانت تتحدد حضاريا بالإنتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية،و سياسيا و اجتماعيا و دينيا بالإنتماء إلى إحدى الهويات الصغرى :عرقية ،مذهبية،دينية طائفية..." (7) ،بل لقد سعى الجابري مثله مثل الراحل محمد اركون و عبد الله العروي و هشام جعيط و حسن حنفي ...للمساهمة في تعميق النقاش المتعلق باشكالية الانحطاط و التخلف الذي يعيشه العالم العربي و الاسلامي ، و التي اختزلتها الصياغة التالية : " لماذا تقدم الغرب/ الآخر و تأخر العرب/ الأنا؟". يرى العديد من المثقفين كما رجالات الفكر أن المجتمعات العربية و الإسلامية بعد لحظة الاستيقاظ من نومها (بل قل بياتها) الطويل وجدت نفسها تتعرض لهجمة شرسة افتتحت فصولها بالاحتلال بعد ذلك الاستلاب الثقافي و الإجتماعي و السياسي ثم القانوني و التربوي فالإقتصادي...هذه المجتمعات لم تجد لها مفرا لمنع تلك الهجمات غير الالتجاء و الاحتماء بماضيها و تراثها أيا كان نوع هذا الميراث خشية الذوبان أو التماهي...فهذه المجتمعات المغلوبة على أمرها سعت لإحياء تراثها في العادات و التقاليد والعقائد و كثير من الأمور الثقافية و ذلك لدحر المستعمر عن ديارها و هو ما حدث مع الدول العربية و الإسلامية التي شهدت دعوات قادها جماعة من العلماء و المفكرين الذين انطلقوا من المؤسسات الدينية (مساجد أو زوايا...)،هنا ظهرت ثقافة الاحياء الديني و الثقافي و الاجتماعي.