صدر لعالم الاجتماع العربي الكبير السيد يسين كتاب هام تحت عنوان "الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي" عن الهيأة المصرية العامة للكتاب (سنة 2008)، وقد ضم بين دفتيه بعضا من دراساته ومقالاته الهامة ذات الصلة بالموضوع عالميا وعربيا ومصريا. ونظرا للقيمة العلمية والاعتبارية المتوافق عليها للكاتب، ولجدة وثراء ما بسطه يسين في كتابه، سأحاول أن أعرض في هذا المقال لأهم ما سطره الباحث بخصوص مفهوم المجتمع العالمي وخصائصه المميزة. و هذا ما تظهر أهميته و آنيته في سياق الثورات العربية، حيث لعبت تكنولوجيا المعلومات و استخدامها الذكي خارج منطق الرقابة ( من خلال شبكات التواصل الاجتماعي و نقل و تقاسم الأخبار و التسجيلات السمعية و البصرية...) دورا تاريخيا مهما في دخول العرب عصر الحداثة و الديمقراطية و الحرية و الكرامة الإنسانية الحقيقية. ذلك أنه يصعب دراسة "الظواهر المتعددة التي سادت في الوطن العربي في العقود الأخيرة بغير تعمق في دراسته وتحليل التغيرات الكبرى التي لحقت بنية المجتمع العالمي" (ص 54). ومرد هذا التشابك إلى أن المجتمع العالمي أصبح اليوم هو وحدة التحليل الأساسية في العلم الاجتماعي المعاصر. من ثمة، يشدد يسين على أن ظاهرة العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية "أثرت تأثيرا بالغا على بنية ووظائف المجتمعات المحلية والمناطق الإقليمية في العالم". من هنا، عمد الباحث الى التأصيل لهذه التغيرات العالمية التي تتمثل في ما أطلق عليه الثورة الكونية، بأبعادها السياسية و القيمية والمعرفية (ص 54). فقد انتقلت الإنسانية صوب صياغة مجتمع عالمي جديد تحت تأثير الثورة الكونية التي جاءت عقب الثورة الصناعية. وتمثلت البدايات الأولى في بزوغ ما أطلق عليه "الثورة العلمية والتكنولوجية" التي جعلت العلم يصبح قوة أساسية من قوى الإنتاج، تضاف إلى الأرض ورأس المال والعمل. ويعود يسين بمصطلح "المجتمع العالمي" إلى الستينيات من القرن المنصرم، حيث أطلق بعض علماء الاجتماع ومن أبرزهم "دانييل بل" مصطلح "المجتمع ما بعد الصناعي" لوصف المجتمع الجديد، ومع مرور السنوات، تبين قصوره في التعبير عن التغير الكيفي الحاصل، وهذا ما دعا علماء الاجتماع إلى نحت مصطلح آخر أوفى بالغرض وأكثر دقة هو "مجتمع المعلومات" ( ص55-56). ويأتي مجتمع المعلومات ليتطابق مع مرحلة تكنولوجيا المعلومات، بعد أن مر التاريخ الإنساني بمراحل تميزت كل واحدة منها بتكنولوجيا معينة (تكنولوجيا الصيد، تكنولوجيا الزراعة، تكنولوجيا الصناعة). من ثمة يؤكد يسين أن سمات مجتمع المعلومات تستمد أساسا من سمات تكنولوجيا المعلومات. ويجملها في ثلاث سمات: 1 إن المعلومة غير قابلة للاستهلاك أو التحول أو التفتت، لأنها تراكمية بحسب التعريف، وأكثر الوسائل فعالية لتجميعها وتوزيعها تقوم على أساس المشاركة في عملية التجميع والاستخدام العام والمشترك لها بواسطة المواطنين. 2 إن قيمة المعلومات هي استبعاد عدم التأكد وتنمية قدرة الإنسانية على اختيار أكثر القرارات فعالية. 3 إن سر الوقع الاجتماعي العميق لتكنولوجيا المعلومات هو القيام على أساس التركيز على العمل الذهني (أو ما يطلق عليه أتمنة الذكاء) وتعميقه (من خلال إبداع المعرفة وحل المشكلات وتنمية الفرص المتعددة أمام الإنسان). بناء عليه، يؤكد يسين أن أبرز ملمح من ملامح المجتمع الجديد أنه يقوم أساسا على إنتاج المعلومات وتداولها من خلال آلية غير مسبوقة هي الحاسب الآلي (الحاسوب) الذي أدت أجياله المتعاقبة إلى إحداث ثورة فكرية كبرى في مجال إنتاج وتوزيع واستهلاك المعارف الإنسانية. و ينضاف إلى ذلك القفزة الكبرى في تكنولوجيا الاتصال واستخدامها في البث التلفزيوني الكوني، مما يؤثر على الرسائل الإعلامية والقيم والاتجاهات والعادات. وهذا ما يدفع إلى القول بتشكل عالم غير مسبوق وبما أسماه الباحث ب "الوعي الكوني" الذي سيتجاوز في آثاره كل أنواع الوعي السابقة عليه كالوعي الوطني والوعي القومي. هكذا، "سيبرز الوعي الكوني متجاوزا كل أنماط الوعي السابقة لكي يعبر عن بزوغ قيم إنسانية عامة تشتد في الوقت الراهن المعركة حول صياغتها واتجاهاتها، ولابد في مستقبل منظور أن ينعقد الإجماع العالمي عليها" (ص 56). وعلى الرغم من الإقرار بوجود أدلة واقعية على مجتمع المعلومات، يحذر الباحث من أن عملية تشكيل مجتمع المعلومات الكوني يقف دونها تحديات عظمى ينبغي مواجهتها، وأولها المعركة الدائرة الآن حول "ديمقراطية المعلومات" باعتبارها شرطا موضوعيا لابد من توفره لتفادي الشمولية والسلطوية. ويحدد مقومات ديمقراطية المعلومات في أربعة: 1 حماية خصوصية الأفراد، بما يعني الحق الإنساني للفرد كي يصون حياته الخاصة ويحجبها عن الآخرين. 2 الحق في المعرفة، وتعني حق المواطنين في معرفة كل ضروب المعلومات الكونية التي قد تؤثر على مصائر الناس. 3 حق استخدام المعلومات، بمعنى أن لكل مواطن الحق في استخدام شبكات المعلومات المتاحة وبنوك البيانات بسعر رخيص وفي كل مكان وفي أي وقت. 4 حق المواطن في الاشتراك المباشر في إدارة البنية التحتية للإعلام الكوني، ولاسيما عملية صنع القرار محليا ووطنيا وكونيا ( ص 59). وأمام التحولات الكيفية غير المسبوقة التي أفرزتها عملية تغيير العالم الجارية، يطرح الباحث السؤال عن كيفية فهم الآثار التي ستنجم عن نشوء مجتمع المعلومات الكوني وتحليل الصراع المحتوم في الوقت الراهن حول النظام العالمي الجديد. وهذا ما يطرح قضايا منهجية يشتغل بها علماء الاجتماع، ويثير قدرة الناس في العالم المعاصر حيث تنزل عليهم الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عبر التلفزيونات. من ثمة، يتساءل يسين، "هل تصلح المناهج السياسية والاقتصادية بمفرها لأن تقدم لنا إطارا يسمح لنا بالفهم؟ في تقديرنا أن هذه المناهج التي عجزت عجزا تاما عن أن تتنبأ بما حدث تقصر عن أن تكون مرشدنا في فهم ما يحدث، ومن هنا قناعتنا المؤكدة هي أننا بحاجة إلى تبني منهجية التحليل الثقافي لكي يساعدها على أن نفهم ونفسر التغيرات العالمية الكبرى..." (ص60-61). وبعد عرض مفهوم وخصائص مجتمع المعلومات الكوني والتحليل الثقافي باعتباره المنهجية الملائمة لدراسة وتحليل وتفسير التغيرات الكبرى التي حدثت في العالم، يلخص الثورة الكونية التي يعبر عن مجمل حركة الانقلاب في الأوضاع العالمية في كونها: 1 تحول من الشمولية والسلطوية إلى الليبرالية ومن صراع الفناء إلى إرادة البقاء. 2 ثورة في القيم وتحول من القيم المادية إلى القيم المعنوية. 3 ثورة معرفية تنطوي على الانتقال من الحداثة إلى عالم ما بعد الحداثة (ص66). ويلخص الباحث إطار مجتمع المعلومات في الملامح التالية: المنفعة المعلوماتية (من خلال إنشاء بنية تحتية معلوماتية تقوم على أساس الحواسب الآلية المتاحة للناس) في صورة شبكات للمعلومات المختلفة وبنوك المعلومات، والتي ستصبح هي بذاتها رمزا للمجتمع. الصناعة القائدة ستكون هي صناعة المعلومات التي ستهيمن على البناء الصناعي. سيتحول النظام السياسي لكي تسوده الديموقراطية التشاركية، ونعني السياسات التي تنهض على أساس الإدارة الذاتية التي يقوم بها المواطنون، والبنية على الاتفاق وضبط النوازع الإنسانية والتأليف الخلاق بين العناصر المختلفة. سيتشكل البناء الاجتماعي من مجتمعات محلية متعددة المراكز ومتكاملة بطريقة طوعية. ستتغير القيم الإنسانية وتتحول من التركز على الاستهلاك المادي وإلى إشباع الإنجاز المتعلق بتحقيق الأهداف. أعلى درجة متقدمة من مجتمع المعلومات، ستتمثل في رحلة تتسم بإبداع المعرفة من خلال مشاركة جماهيرية فعالة، والهدف النهائي منها هو التشكيل الكامل لمجتمع المعلومات الكوني (ص209-210). ويؤكد يسين أن هذه الصورة المرسومة ليست ضربا من الأحلام، على اعتبار أن مجتمع المعلومات الكوني مفهوم واقعي يشكل المرحلة الأخيرة من تطور مجتمع المعلومات، وللبرهنة على ذلك، يبسط الباحث ثلاثة أدلة: ستصبح العولمة هي روح الزمن في مجتمع المعلومات المقبل، ويرجع ذلك إلى الأزمات الكونية المتعلقة بالنقص في الموارد الطبيعية وتدمير البيئة الطبيعية والانفجار السكاني والفجوات العميقة الاقتصادية والثقافية بين الشمال والجنوب؛ إن تنمية شبكات المعلومات الكونية باستخدام الحواسب الآلية المرتبطة ببعضها عالميا، وكذلك الأقمار الصناعية ستؤدي إلى تحسين وسائل تبادل المعلومات، وتعمق الفهم، مما من شأنه أن يتجاوز المصالح القومية والثقافية والمصالح الأخرى المتبادلة؛ إن إنتاج السلع المعلوماتية سيتجاوز إنتاج السلع المادية، بالنظر إلى قيمتها الاقتصادية الإجمالية، وسيتحول النظام الاقتصادي من نظام تنافسي يقوم على السعي إلى الربح إلى نظام تأليفي ذي طابع اجتماعي يسهم فيه الجميع (ص 210-211). ولا يخفي يسين مفاجأته لوجود خلافات شديدة بين الباحثين حول الآثار الإيجابية والسلبية لمجتمع المعلومات العالميين نظرا لأنها أدت إلى استقطاب إديولوجي بين المتفائلين والمتشائمين يشبه تماما الخلاف بين أنصار العولمة وخصومها. من ثمة، يؤكد الباحث أن أنصار المجتمع المعلوماتي العالمي "يقررون بكل يقين أنه أكبر ثورة في تاريخ تطور الإنسانية، بل إن الثورة المعلوماتية في نظرهم تفوق كل ما سبقها من ثورات كالثورة الصناعية أو اختراع المطبعة، وقيل نفس الشيء عن الاختراعات الباهرة في تاريخ الاتصالات الإنسانية كالتلفون والتلغراف والفاكس. أما خصوم هذا المجتمع المعلوماتي البازغ فهم يعددون سلبياته ولا يرون في ظهوره أي إيجابية، ويركزون بأسلوب درامي على المصائب التي ستحل محل العالم من جراء ذيوعه وانتشاره، وخصوصا في مجال زيادة الفجوة بين من يتصلون ويعرفون والمحرومين من ذلك، سواء على مستوى المجتمعات في الشمال والجنوب، أو على مستوى الأفراد داخل كل مجتمع ( ص223).