يكاد يكون هذا العنوان هو لسان حال بنية السلوك الهمجي الذي عم المدن العربية من الماء إلى الماء. في أقسام التعليم القديمة، كان الأطفال يتلقون آداب التصرف الإنساني استنادا إلى القيم الموروثة من الثقافة العربية والحضارة الإسلامية العريقة. كانت المروءة والاحترام والتقدير والكف عن إيذاء الغير... خارطة طريق الأطفال والكبار. وكل من صدر منه تصرف أرعن عن وعي منه أو من دون وعي، يبادر إلى الاعتذار والخجل باد على محياه، حتى إنه يتمنى أن تنشطر الأرض لتبتلع جثته وتحفظ ماء وجهه وكرامته المهدورة جراء صنيعه السيئ. كان هذا أيام زمان. أيام كان الأبيض أبيضا، والأسود أسودا وبينهما ألوان واضحة لا سبيل لخلطها مع نظيراتها. حينئذ كانت الثقافة السلوكية المدنية السائدة ملتصقة بقيم الدين والعروبة والأخلاق المتوارثة، حيث الانسجام والتناغم والوضوح. لكن، بفعل التحولات الاجتماعية الحاصلة عالميا وعربيا، ومع الفصام الثقافي والاغتراب الوجودي الذي صار "الأفراد" يعيشونه صباح مساء، صار "كل فرد" سيد نفسه في الشارع العربي. لقد اندثرت القيم الموجهة والقواعد السلوكية الحاكمة والتراتبيات الاجتماعية المتعارف عليها. لم يعد الكبير كبيرا في السن أو القدر أو الجاه أو العلم... لم تعد المرأة امرأة وفق ما تتطلب أدبيات المعاملات العربية القديمة بما لها و ما عليها. صار كل من تطأ قدمه الشارع يمارس سيادة مطلقة على أقواله وأفعاله ويتصرف كأن العالم فارغ إلا من وجوده الشخصي أو "وجود" شلته من الشباب المكافح في إدمان المخدرات أو الشيشا أو الكوكايين أو مواقع الفراغ الكبير. صارت "الفتونة" و"البلطجية" تبيح "لقادتها" أن يفعلوا ما شاءوا لأنفسهم ولذريتهم وذوي القربى ومن تبعهم بالإساءة إلى الجيران والأقران إلى يوم الحساب. في أيام عيد الأضحى، يصبح الشارع مرتعا لكل أنواع الازبال التي يلقى بها من دون أن يرف للرامي أو الرامية جفن. فالشارع ملك مشاع يكاد لا يضبطه قانون أو عرف. تتم الإساءة للجماعة و يلوث الفضاء العام و كأنه عمل " بديهي" و "عادي". و ياويلك إن حاولت ممارسة مواطنتك بالاحتجاج على الفعل غير المتحضر. يمكن أن تسمع ما لم يقله مالك في الخمر.انه التوحش الحضري في تمظهراته القذرة( من القاذورات).انه الانقضاض الحديث على نبل فكرة التضحية. يتم قتل المشترك و الجماعي و تمارس طقوس شبه بدائية يسيل فيها دم الاكياش، و أحيانا يسيل حتى الدم البشري. لم نعد نسمع عبارات "آسف"؛ "أستسمح" ؛"أعتذر" بمعادلاتها المختلفة في اللغات الدارجة في شتى الأقطار العربية (اسمح لي، لا مؤاخذة..). لقد أصبحت الإساءة العمدية في الكثير من الحالات مكتسبا تاريخيا لا سبيل لمناقشته أو البحث عن تغييره... حتى أن القوة الجسدية أو النفوذ العائلي تبيح ما لا يباح وتسمح بكل شيء وفي أي وقت. صارت مدننا فضاءات للزعيق والتلوث السلوكي والسمعي البصري والتلفزيوني والمعلومياتي حيث تقتل "المدنية" ويحيا الهمج أفرادا وجماعات. والغريب أن الجاليات العربية المقيمة في أوروبا وأمريكا ما إن تطأ أقدامها أرض الوطن في الصيف حتى تصاب بعدوى الهمجية السلوكية، ويصبح بعض "ممثليها" أكثر فتكا بالتمدن من المقيمين الدائمين في الوطن" (سرعة قيادة السيارات،الصوت المرتفع للموسيقى أو الراديو، سكر علني وسهرات مزعجة للجيران.. الخ). و الأغرب أنهم لا يستطيعون فعل ذلك في بلدان المهجر.يكونون هناك مهاجرين أو مواطنين طيبين متخلقين.ما إن يجتاز بعض المغاربة ميناء طنجة مثلا، حتى يتحولوا بقدرة قادر إلى " مغاربة بصح". تتغير المبادئ و القيم السلوكية، و تتم العودة الطوعية لمظاهر " العياقة" و " الحكرة" و إعادة إنتاج صورة " الزماكري" في المتخيل المغربي. هكذا، يجتمع أصحابنا على شعار: لا تعتذر عما فعلت". حاصر أخاك بالزعيق والضرب والصراخ و تلويث الفضاءات العمومية، وإذا سقط بفعل صنيعك، فزد في حجم إساءاتك فأنت حر وحر وحر. حاصر أخاك المغربي (والعربي) لا مفر. لا تعتذر عما فعلت. مع الاعتذار العميق للشاعر الكبير محمود درويش على تصرفي في عناوينه وأبياته الخالدة.رحمة الله عليك في هذا الزمن العربي الرديء.