-1- إذا كان مبرر وجود الأدب ? حين لا ننظر إليه على أنه ترف أو تسلية أو تصيد لامتياز أو شهرة ? هو معاناة الواقع والإحساس العميق الصادق به إحساسا يكشف طريق المستقبل، فإن القراءة الجيدة والموضوعية للعديد من الكتابات الشعرية التي تشهدها الساحة الشعرية العربية في السنوات الأخيرة، وللون خاص بات يشغل مساحة عريضة منها يلف نفسه بأكفان الحداثة البيضاء، أقول تستطيع هذه القراءة أن تكشف عن الكثير من نماذج هذه الكتابات التي لم تعد تقدم تبريرا لوجودها ، لأنها ودون تجن على الحقيقة، بعدت عن أرض الواقع والمعاناة ، حتى ليشعر المتلقي بغربة حادة وهو يمارس قراءته لها، هي التي تتحول حين ينتهي منها إلى خيبة أمل مريرة . لقد سقطت هذه النماذج، وفقدت كل أصالة وفاعلية، حين أوغلت في الاستهانة بالواقع العربي الراهن المكتوي بالقهر والمعاناة والإحباط، والمثقل بالانتكاسات والأحزان. إن الأزمات التي يعانيها العرب حاليا، كفيلة بتوسيع آفاق انطلاق الكتابة عند الكاتب والشاعر ليخلق ويبدع، ومنحه، حتما، خصوبة في التجربة وتعدداً في الرؤى. فواقعنا العربي، واقع مرهص بالإبداع، جياش بالروافد التي تثري التجربة الإنسانية وتنضج معاناة المبدع وهو يكشف لنا عن العديد من مظاهر التحلل التي تفتت في عضد هذا الواقع. في هذه اللحظة التاريخية بالذات، يسود فيه، لدرجة محزنة، فيض شامل من الكتابات السالفة الذكر التي باتت تغمر المجلات والصحف والمجموعات؛ بحيث تأتيك بأقلام ليس لديها إلا الرغبة في أن تكتب فقط، وتكتب ما يشاء لها ذرف الحبر وبياض الورق تحته ، تأتيك ، رغم ما يُثار حولها من ضجيج ، بدون معاناة ولا هوية شعرية ولا أي ميزة من الاطلاع والثقافة والشعور بمسؤولية العمل الفني، وبالغياب الكلي عن تراث النوع الذي تنتمي إليه، وعن المرحلة التي تعاصرها. لقد أحدث أصحاب هذه الكتابات قطيعة قصوى بينهم وبين متلقي الشعر، بحيث أصبحوا لا قارئ لهم سوى تلك الدوائر المحدودة جداً والمقتصرة عليهم. هم الذين انحرفوا بشدة عن المسار الشعري العربي، ولم يمتلكوا ، في نفس الآن، أي بديل يعطي للقارئ متعة شعرية وجمالية. إننا نؤمن ، طبعا، بتطور الشعر، ولكن يجب أن لا يكون تطوره بعيداً عما للشعر العربي من تاريخ ، بل ينبغي أن يكون التطور من داخل هذا التاريخ ، وفي صميم حركة هذا التاريخ. لقد كان موقف النقاد والباحثين المختصين في الشعر العربي المعاصر واضحاً، حيث انصرفوا عن متابعة هذه الكتابات (الشعرية)، لاعتقادهم، هم كذلك، بأنها غير جديرة بالقراءة ، فضلا عن أن تكون محلاً لدراساتهم. لكنهم ، من جهة أخرى، توجهوا بكتاباتهم النقدية وأطاريحهم الجامعية، صوب المنجزات المتميزة والمدهشة لشعراء جيلي الرواد والستينيات في شعرنا العربي المعاصر، التي أثبتت الأعمال الشعرية للعديد منهم، على تنوع تجاربها، أنها الأكثر أصالة وحداثة، بتحقيقها الكثير من قيم الإبداع والتميز والجمال؛ ودون أن يفقد أصحابها صلتهم وتفاعلهم بالواقع العربي، حيث كان التزامهم بقضايا أوطانهم الاجتماعية والسياسية والقومية صادراً من إحساسهم الثوري العميق بالمسؤولية ، وقت أن كان الصراع من أجل نصرة هذه القضايا، يعني النفي والتشريد والسجن، أو هو كان يعني، ببساطة ، أن تتحمل حياتهم عبء مسؤولية الكلمة الصادقة الشريفة. وهكذا ، فإن قصائد هؤلاء الشعراء المسؤولين حضاريا ، تظل بمثابة الشواهد الحقيقية، على عذابات الإنسان العربي، على ولاداته واندحاراته، على مواسمه وانقطاعاته؛ من خلال توظيفها لشتى الأساليب والأشكال والتقنيات المكتسبة من أحدث تجارب الآداب العالمية. -2- يستطيع الباحث الموضوعي المتتبع لتطور حركة الشعر العربي المعاصر منذ خمسينيات القرن الماضي إلى الآن، أن يضع، باطمئنان، المتون الشعرية البالغة الغنى والنضج للشاعر الكبير حميد سعيد في مكانها المتميز ضمن أهم وأبرز منجزات شعراء جيله الستيني العربي، خاصة منهم المتألقون الذين واصلوا مسيرتهم ، وشاعرنا واحد منهم، فاستطاعوا ، رغم تباين اتجاهاتهم الفنية والفكرية، أن ينجحوا في ترسيخ وتوسيع آفاق منجزاتهم الإبداعية الخلاقة، وتحقيق مجموعة من الإضافات والمزايا على مستوى التجربة والرؤية والبناء، مما اعتبر إغناء واضحا للجهود الإبداعية التأصيلية التي قدمها المبدعون الأفذاذ من جيل الرواد الشعري للقصيدة العربية المعاصرة، كما استطاعوا، بإخلاص ووعي كبيرين ، استيعاب اللحظة التاريخية لعصرهم، بطموحاتها وتحدياتها وكبواتها وانكساراتها، تلك التي عبروا عنها، جميعها ، باقتدار مشهود. -3- ينتمي المشروع الشعري لشاعرنا حميد سعيد ، كذلك، إلى التيار القومي ? الاشتراكي في أدبنا العربي المعاصر، الذي اتخذ سبيله إلى دنيانا العربية بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين، عندما تطور وحمل هويته الخاصة، تيارا بارزا قويا كثيف الوعود، حفر لنفسه مجرا عميقا واسعا في العديد من الأقطار العربية، حيث فرض وجوده المتحدي من خلال الالتزام الطوعي، الذي يقرن التزاوج الحي بين الممارسة والفكرة، بين التجربة الإبداعية الفنية والتجربة النضالية اليومية، القائمة على الممارسة الفعلية التي يمتلكها المبدع والفنان العربي الثوري الأصيل. لقد كان الشعر المنتمي لهذا التيار، هو شعر الطليعة العربية المتسم بالحيوية وصدق المعاناة، وإحدى الوسائل المحرضة للجماهير العربية على الرفض والثورة من أجل تحرير الوطن العربي وتوحيده. وظل شعراؤه ملتزمين بقضايا أوطانهم وأمتهم والإنسانية، يعيشون أزمة عصرهم بكل توهج الألم الخلاق، ويتفاعلون مع حركة الواقع الاجتماعي على صعيده الطبقي بصدق وتواصل حي، وليس فقط بمستواه الشعري كفن. فليس من العبث، إذن، أن تقترن ثورة الشعر العربي المعاصر، إبان الخمسينيات، بنمو الفكر الاشتراكي ، والحركات القومية الاشتراكية بالشرق العربي خاصة، بحيث نستطيع ، على ضوء هذا ، أن نفهم المدى الذي قطعه شعرنا العربي، آنذاك ، حين قلب موازينه قلبا يكاد يكون شاملا، مستجيبا لحركة الواقع الذي أخذ يتمثل النمو الفكري الجديد، وحاملا قيمه وطموحه، من هنا فإن ثورة الشعر المعاصر هي بالتحليل النهائي الصورة الوجدانية للقضية القومية ? الاشتراكية. ولهذا فإن مراجعة متأنية لهذا الشعر، ستكشف، بشكل من الأشكال، عن هذه العلاقة،وستُبَيِّن أن التطور النوعي لشعرنا، ما كان له أن يتم بالصورة التي تمَّ بها، لولا النقلة الفكرية التي حصلت على صعيد الواقع العربي بعد الحرب الثانية. -4- لوردةٍ في ساحة التحرير لنخلةٍ في ساحة التحرير لعامل البناء .. للبائعة الجميلهْ غنّيتُ .. أبحرتُ .. ملأتُ دفتر المطر كتبتُ للصغار ، للجنود ، للغجرْ قصيدةً عن ساحة التحرير صبيةً كساحة التحرير نديةً كساحة التحرير. (ولادة في ساحة التحرير...) مما لا شك فيه أن ظروفا بيئية واجتماعية وطبقية، إضافة إلى الوعي المبكر الآتي من الانتماء الفكري السالف الذكر، قد ساهمت كلها في تشكيل التجربة الشعرية للشاعر حميد سعيد، وتعميق مواقفه الوطنية والقومية. لذلك لم يلذ شاعرنا بالظلال ، ولم ينكفئ على نفسه فيضعها موضع المتلقي السلبي، بل كان، من خلال إبداعاته الأصيلة ، ومواقفه المسؤولة الواضحة، وثيق الارتباط بوطنه وقضاياه المصيرية وتطلعاته الثورية، كما كان، في نفس الآن، متفاعلا أعمق التفاعل مع هموم ونضالات أمته، بل كثيرا ما وحَّد إبداعيا بينهما، فاحتلا معاً من وجدانه أعمق الاهتمام، مثلما وحَّد، كذلك ، بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، فلم يؤزم العلاقة بينهما، وهذه مسألة بالغة القيمة في الإبداع عامة. على ضوء هذا، نستطيع القول بأن التزام شاعرنا بمثل هذه القناعات والمواقف الصادقة، والتعبير عنها بصيغ وأساليب فنية ناضجة، أكسب متونه الشعرية قيمتها ومعناها، وتوهجها وصدقها. -5- وهذا زمان فلسطين .. كل الذين يثورون ينتسبون إليها وكل الذين يموتون أو يولدون .. بهم من شمائلها حالةٌ وجهها يسكن الفرحَ البشريَّ.. كما يسكن اللحظة البائسَهْ وجهها يملأ الماءَ واليابسهْ . ( قصيدة : الحضور" ) أصبح من نافلة القول الحديث عن الأثر العميق لحرب حزيران سنة 1967 في التاريخ العربي المعاصر. فرغم أنها لم تستغرق سوى ستة أيام، لكن نتائجها كانت من الضخامة والتأثير بحيث غارت في عمق الوضع العربي، وعملت على إحداث هزة عنيفة عارمة في أركانه لتتحول هزيمة تلك الأيام الستة إلى نكسة كبيرة، اصطبغت بسماتها كل وجوه الواقع العربي، ولتخلق حالات تاريخية جديدة على الأصعدة كافة، وكان الإبداع الأدبي العربي بمختلف أنواعه وأجناسه مرآة عكست تلك الحالات والتحولات والتأثيرات . لقد أملى الواقع المأساوي الكبير لتلك الهزيمة على المبدع العربي التنبه إلى مدى خطورة وضعه، وإلى تهديد وجوده كإنسان ووجود شعبه وتطلعاته. فلم تكن النكسة واقعا عارضا ولدته حرب خاطفة، لم تكن حرب حدود بل هي حقا حرب وجود، حرب إرادتين متنازعتين تاريخيا، حرب مصيرية فاصلة. فكان الخامس من حزيران عام 1967 امتحانا عسيرا لكل القوى العربية المتطلعة إلى النهوض وتحقيق الذات والانبعاث القومي لمواجهة إرادة قوى معادية كالصهيونية والإمبريالية ، لذلك كان لمخلفات تلك الهزيمة الأثر البيّن في الأدب العربي المعاصر عامة. لقد وقع معظم الشعراء العرب، آنذاك ، تحت تأثير رد الفعل العاطفي العنيف لهذه الهزيمة ، حتى الملتزمون منهم بعقيدة أو فكر واضح يعينهم على تعليل أسباب الهزيمة ، ووسائل تجاوزها . وكان رد الفعل العنيف هذا قد أخذ طابع الرفض المطلق أو النقد السلبي القاسي، فاتسم بطابع اليأس ، والحزن القاتم عند البعض؛ كما اتخذ ، عند آخرين ، طابع النقد الإيجابي ، برفض أسباب الهزيمة والإلماح إلى طريق الأمل والنصر، وإن شابته غُلالة من الحزن. أما بالنسبة لشاعرنا حميد سعيد، فإننا لا نعدو الصواب إذا قلنا بأن فلسطين قد احتلت حيزا خاصاً في منجزه الشعري، وكانت ماثلة ، دوماً ، في قلبه وروحه. لقد أصيب شاعرنا بحزن عميق، وكاد يبدو يائساً من إمكانات الأمة في حاضرها، على استعادة حيويتها وصلتها المنقطعة بتراث أمجادها وبطولتها، إلا أن رفضه وحزنه لم يوقعانه في اليأس طويلا، إذ أنه سرعان ما صارع اليأس والحزن، فرأى ملامح الأمل الطالع فداء من ثنايا الغضب، ليمسح عار الهزيمة، حيث عرض صورة الحزن والرفض واليأس، لكنه تساءل عن إمكان التغيير، فاستعاد رباطة جأشه مفتشاً عن الأمل الذي يتلامح في ثنايا الحزن، وقسوة الحصار ليعيد لحزيران العار وجهه الإنساني المقاتل. قصيدة ( صلاة لحزيران .. الذي يأتي بوجهه الآخر ). لقد وجد الشعراء في العمل الفدائي الأمل المنقذ من الهزيمة والضياع والتخلف، ومعادلاً للكرامة العربية التي امتهنت طويلاً، ودماً جديداً يغذي حركة الثورة العربية وينتشلها من تمزقها وسلبياتها. فتحمسوا للعمل الفدائي، وعايشوا ولادته وآماله ومخاوفه، ووقفوا مع الحركة الفدائية في حصارها وضربها، ورثوا شهداءها، ومجدوا أبطالها وبطولاتها. كما رصدوا، بأمل ، اجتياز الفلسطيني المشرد طفولة وعيه، وبؤس تشرده، وتحوله إلى فدائي ، يعتز بانتمائه إلى وطن ، ويستمد من ضياع وطنه وتشريد أهله وآلامهم عزيمة على المضي في طريق مجابهة العدو المحتل وتحرير الوطن المغتصب ، فيتحول الفدائي ? الرمز، إلى ثورة تحريرية عربية شاملة. لقد ارتفع البطل والشهيد لدى حميد سعيد إلى مستوى عال من الوعي والقدرة على نقل الوعي إلى حيز السلوك، حيث نجد الأبطال لديه متحدين بنماذج البطولة العربية في التراث ، ملتصقين بالأرض، يمدهم انتماؤهم وإرثهم الوطني والقومي بما يعبرون به حاجز الخوف إلى موقف المجابهة والتحدي البطولي للأعداء واستسهال الموت، ما يجعلهم أمثولة للمناضلين ونسخاً لعهد النواح والحزن، ومصابيح تضيء طريق التحرير. لقد اتحدت فاطمة برناوي بالحسين كشهيدين مدافعين عن قضية الحق والعدل، مانحة استشهادها بُعداً تراثيا مستعلياً على الواقع الذي تشوهه نزوات الحكام المتخاذلين، ويأسره الأسى واليأس، مرتبطة بالأرض التي تأبى الاغتصاب، باعثة باستشهادها حياة جديدة ترج الرجال رجاً عنيفاً، حافزة ببطولتها رجولتهم إلى مواصلة طريق الكفاح. قصيدة ( فاطمة برناوي .. صوت من كربلاء). حين حوصرت المقاومة الفلسطينية وضُرب العمل الفدائي، في أكثر من قطر عربي، وجد شاعرنا حميد سعيد في ضرب الحركة الفدائية، قتلا لأمل الأمة الوليد في تحقيق كرامتها وحريتها، وتدنيساً لكل القيم الأصيلة المقدسة التي هبت للدفاع عنها، وتآمراً خيانياً يصطف مع الأعداء ، تدفعه الأنانية والشهوة والتخلف لوأد حلم التحرر والثورة العربية: رأيتُ الأرضَ حُبلى ... والرجال معطلين فلم يُبقِّ عصرُنا المحمومُ إلا هذه الأسماء ... قصيدة ( بحر الظلمات) . الرجوع كذلك إلى القصائد ( اللجوء إلى مدن البُراق )، (عودة إلى مرفأ البداية)، (الحضور)، ( الفتى وصوت الأرض ) ... . -6- رأيتٌُ جميع الشهداءِ يقومون إليَّ القبةُ تمشي نحوي وتناديني باسمي طلعت من شق القُبة عشرُ يماماتٍ أو عشرُ لآلٍ فامتدَّ الأفقُ الأبيضُ .. وامتدَّ الفردوسُ الأخضرُ.. كثيابِ الشهداء وتفجر منه الماء ... ( رؤيا نصب الشهيد). الحرب رجة ضخمة لكل السواكن والمستقرات في العالمين الخارجي والداخلي للإنسان. إنها، حتماً، تجربة غير اعتيادية بكل ما تخلفه من مآس إنسانية، وفجائع نفسية . فكيف السبيل إلى التعبير إبداعياً عن حدث بهذه الضخامة؟ عن مثل هذه الدراما الكبيرة المدمرة المفجعة؟. وكيف السبيل، خاصة، إلى كتابة قصيدة تحقق شرطها الجمالي الفني، وتستجيب، في نفس الآن، لمجد ودم الشهيد، ولعظمة موقف الجندي، ودورهما الاستثنائي البالغ القيمة في الدفاع عن الوطن وحماية الحياة. في الوقت الذي كان فيه الشعب العراقي العظيم يخوض معركته ضد العدوان الإيراني، كان العديد من الشعراء العراقيين يعيشون هذه الحرب كمقاتلين، أو مشاركين فيها من مواقع العطاء الإعلامي والفني. فمن ساحات القتال الملتهبة، كانت القصيدة ، بشكليها العمودي والتفعيلي، ترافق المعركة، متخذة، في البدايات، دور المحرض والتعبوي ، موثقة لانفعالات المعركة، قابضة على صداها الأقرب، مدخرة، في الوقت ذاته، عبء الكتابة الأعمق والأغنى لمرحلة التأني والتأمل. أما بالنسبة لشاعرنا حميد سعيد، فقد كان، من موقعه الإعلامي طيلة سنوات الحرب، معايشا، كثير الالتصاق بمجاميع المقاتلين في الجبهة ، وبالحالات الجانبية الأخرى التي كانت تفرزها المعارك من الشهادة إلى الاستبسال إلى البطولة الفردية. إذن، فهو عايش الحياة وهي في حالة حرب، فكيف عبّر عن هذه الحياة بالذات في حالة الشعر؟. أظن أن مثل هذا التساؤل قد فرض نفسه حتماً، على شاعرنا. ورغم أن الحرب يمكن التعبير عنها بصيغ متعددة، غير أن رغبة الشاعر حميد سعيد في التميز عما كان يُنشر في البداية هي التي فرضت عليه التأمل لما يقرب من ثلاث سنوات على بدء تلك المعركة ، ليطلع على القراء بأول رد فعله الشعري، فكانت قصائده التي ضمها، بعد ذلك، ديوانه الفاتن ( طفولة الماء). وبالفعل جاءت هذه القصائد مزهوة بالمجد واللغة الجديدة، محققة نبل القصد وشرف الإبداع، مؤسسة لتقاليد جديدة لقصيدة الحرب، تكون ذات فعل أطول زمنا وأوسع مدى وبخاصة بعد انقضاء الحرب. لهذا كله لم يقف شاعرنا مع الاتجاه التعبوي ، ولم يتحدث عن الحرب بشكل مباشر، وإنما اختار زاوية نظره الخاصة المتفردة ، وذلك من خلال عودته إلى مدينته (الحلة)، ملتقطاً أشخاصا عرفهم عن قرب في طفولته ، وما زالوا يعيشون في ذاكرته ، حيث استحضرهم الآن وقد كبروا وصاروا رجالا يدافعون عن الطفولة والأرض والكرامة. فها هو ، مثلا ، ( العريف عبد العباس ) فتى عراقي كان منذ طفولته نموذجا للغيرة والشجاعة : ... ثم ضاق به جلدهُ فرأى وطناً مثقلا بالمحبة والشمس قال لأقرانه .. إن مجد الحياة الجديده يومئ لي أن أقومَ .. فقمتُ .. رأيت بلاداً تدافع عن حُبِّها وتدافعُ عنِّي فحاولتُ أن أتمادى .. وأدفعَ عنها تباريحها .. السلامُ عليكَ على وطن طيبٍ السلام على أهلنا .. السلام على نخلنا... السلام عليك على إخوة لك يبتكرون المحبَّةَ والغضبَ الحلوَ والمعجزات .. السلام على جبهة الحربِ ثم السلام . (العريف عبد العباس) ومن النماذج البشرية التي عاد إليها الشاعر، يشكل ( الولد السبع ) رمزاً وتشخيصا لحالة الإيغال نحو الجذور التي ستتورد وتمنح ثمارها للدفاع عن حدود الوطن : ... إنه الشغفُ الأولُ .. وتعاليمه . والرؤى .. والطفولة ترسمُ في دفتر الولد العذب .. خارطة للعراق .. تعلمهُ أن يدافع عنها وأن يتعذَّب من أجلها فإذا ضحكت .. ضحك الولد العذْبُ أو دوهمت .. وقف الولدُ السبعُ يدفع عنها تباريحها . ( الولد السبع) ولأن للشهيد دوره الذي لا ينسى ، فقد وجد فيه الشعراء رمزاً إنسانياً سيلهمهم على الدوام، ويمنحهم الثقة بأن القيم تصونها الدماء، وأن الكرامة أغلى من أي شيء، لذلك احتفظ الديوان الشعري العراقي المعاصر للشهداء بأعز الأمكنة وأخصها، فهم حاضرون لم يغيبوا ولم يبتعدوا عن الوطن، لأنهم انتصروا له ودافعوا عنه. فموضوع " الشهيد" ، إذن، نبع لا ينضب لشعر المعركة، حيث يستمد مياهه المتدفقة من رجال يواصلون النضال ضد الموت والنسيان. وقد احتل الشهداء مكانة فريدة في متون شاعرنا حميد سعيد، فلم تعد حالة الشهادة، بالنسبة إليه، حالة تجريدية، بل أصبحت حالة يتعايش معها يومياً ويعرفها بشكل دقيق من خلال أصدقائه وأقربائه وجيرانه. ولعل قصيدته ( رؤيا نصب الشهيد)، ذات الطابع الطقسي الرؤيوي، تعتبر نموذجا بالغ القيمة والبهاء في هذا المجال. حيث يقص علينا الشاعر، من خلالها، رؤياه عن زيارته وتفقده للشهداء في جنة النعيم، أليسوا أحياء في عليين؟. فها هو الشهيد عبد الهادي الصالح يقدم له " كأساً من ماءٍ بارد " بمجرد ما رشف منه قليلا حتى: رأيت جميع الشهداء يقومون إليَّ ... وهنا التقى الشاعر بأصدقائه : هذا رجلٌ ظل يقاتل من أجل مدينتنا حتى فتح الله عليه .. وهذا النائم بين الوردةِ والوردةِ .. الطالعُ من غصن الزيتونِ .. صديقي والآتي في الطلع .. رفيقي . وهذه المرأة ليست فتاة جميلة وديعة يشتهيها وإنما هي أم الشهداء ولدت وعاشت في وطن يستقبل الشعر والشهداء، إنها رمز المرأة التي تقاتل وتدافع عن وطنها: يستوقفني قمرٌ مغسول بحليب امرأة طاهرة أعطت للحرب ثلاثة أبناء ... أصحبها .. فأرى فتياناً بثياب الميدانْ ينتظرون صباحاً .. لا تنزلُ في ساحته الأحزانْ يقيمون عليه متاريس.. لتدرء عن وطن الحبِ شرور العدوانْ . ( رؤيا نصب الشهيد) يمكن الرجوع كذلك إلى قصائد القسم الأول من ديوانه ( مملكة عبد الله ) . - 7 - تحت قَصفِ صواريخهم وقنابلِ أحقادهم .. يستفيق ترابُ العراق.. وتدنو ملاحمُه متوجِّسةً .. حيث كان دمٌ مفعم بالمروءات.. ينزل من شرفاتِ المنازلِ من شجر يتحامى شظايا القنابل كانت حدائق بغداد .. مُثقلةً بنثار بَنيها وكان النخيلُ يَنوءُ بما مزَّقت طائرات المغيرين .. من حَلَمات النساءِ .. ومن لحم أبنائهنَّ ... ********** الطيور تُضيِّع أعشاشها .. والكلاب تموءُ .. والقطط الأليفة تبكي .. وجاراتُنا يُعدِّدنَ أسماء من قُتلوا في البيوت القريبةِ .. الدخان يُغطِّي الشوارعَ.. يدخل في كل بيتٍ .. ويخرج من كلِّ بيتْ ( من وردة الكتابة إلى غابة الرماد ) ********** « سقطت بابلُ العظيمةُ وصارت مسكناً لشياطين ... ». رؤيَا يُوحنَّا اللاهوتي ? الأصحاح الثامن عشر ( العهد الجديد) ********** هو الذي رأى .. احتلال وتدمير وطنه العراق، من طرف القوات الأمريكية الغازية بقيادة (جورج دبليو بوش ) ذلك « الدموي العُصابي ? الكحولي ? الوقح ? الفظ ? الغليظ ? السافل » وبمعية عملائه وميلشيات الحقد الإيرانية، وجحافل من شذاذ آفاق ، وقتلة ومجرمين ، وكلاب مسعورة. كل هؤلاء تجمعوا على تلك الأرض المباركة ، فكان ما أشاعته فيها تلك الوجوه الدموية من ظلام وقتل ودمار، أسوأ من جرائم النازية والفاشية مجتمعة. إنها جرائم مرعبة غير مسبوقة في التاريخ البشري الحديث، إذ لم يشهد شعب من الشعوب غزواً مبنياً على أكاذيب وهرطقات لا أساس لها، وعلى أوهام كانت عاقبتها مشؤومة على الإنسان والمكان. هو الذي رأى .. الدمار الشامل يستهدف معالم الحضارة العراقية العظيمة، تلك الحضارة التي تمتد إلى أكثر من ستة آلاف سنة، وتعتبر ركيزة أساسية في الحضارة الإنسانية عبر العصور. لقد تحول وطنه إلى ( غابة من الرماد) وإلى ( ما يشبه الخراب.. بل هو الخراب). هو الذي رأى .. فلم يفرط ، كعادته ، بشرف الموقف التاريخي، فقدم شهادته الإبداعية الصادقة والمؤثرة والبالغة القيمة، كشاهد إثبات على هذه اللحظة التراجيدية المرعبة. فكانت قصائده المضمنة في ديوانيه الأخيرين ( من وردة الكتابة إلى غابة الرماد) و ( مشهد مختلف). قصائد غاية في الغضب تستنكر هذا الدمار الهائل، تُدين قوى البغي والعدوان، وتفضح الخيانة: كل اللصوص .. يَبيعون تاريخَ بغداد ليس الذي باع تاريخ بغداد .. منها ستذكر بغداد أسماء من حُرِّقوا .. وستذكر بغداد أسماء فتيتها الذائدين .. ومن دافعوا عن حماها وتذكر أسماء من خانها . ( من وردة الكتابة ..). قصائد جاءت بلغة حادة غاضبة ساخرة، وانثيال شعري عارم متوتر ، لا يعترضه شيء، ورؤية شعرية يمتزج فيها واقع الذات بواقع الوطن في عالم خال من كل ما هو مجدي. قصائد اتسمت ، كذلك، بلحن مأساوي قاتم حزين ، تكشف تنويعاته المختلفة عن الإحساس المشترك بغروب شمس وانكسار تاريخ : هل أعرفُ هذه الوجوه .. هل مررتُ من هنا .. وهل أقمتُ حيث تظهر الأشجار في نهاية الطريق؟! أسئلةٌ تُغيِّر الصورة ... .................. ................. إِنَّ ظِلاًّ قاتماً .. غيَّبَ من في الصورة القديمه وغيَّبَ الطريقَ والبيوتَ والأشجار لم يبق في الصورة غيرُ أثرٍ .. ما ظلَّ منه غيرُ ما أبقى الزمانُ ... من بقايا دُولٍ دالت .. وما تبقى من بهاء مُدنٍ هانت ومن جمال امرأةٍ .. كانت . ( مشهد مختلف ) -8- ليس يسيراً بالتأكيد، في هذه المقالة، الإلمام بأبرز القيم الموضوعية والخصائص الفنية التي حققتها المنجزات الشعرية لشاعرنا حميد سعيد لأكثر من أربعين سنة. لكن وقفتنا الحالية معها ستبقى ، حتماً، ناقصة إذا لم نُشر ، ولو باختصار شديد، إلى بعض الخصائص والمزايا التي تبدت لنا في العديد من متونه الشعرية، والتي سنجملها في النقاط التالية: أولا : إن توهج هذه المتون بهموم الوطن والأمة، لم يتعارض أبداً، ومنذ البدايات، مع حرص شاعرنا الشديد على ضرورة توفرها على الصنعة الماهرة والتدبير الفني المحكم ، مُبعداً عنها آفة الخطابية والشعارية، بحيث يستطيع القارئ/ الباحث المتتبع الوقوف من خلالها على نضج فهم شاعرنا لمعنى القصيدة المعاصرة بكل تعقيداتها البنائية. ثانيا : ارتباط شاعرنا العميق بالتراث العربي، خاصة، ارتباطا وثيقا باعتبار هذا التراث، إنجازات وقيماً روحية وفنية، من الواجب اكتشاف الطاقة الفاعلة فيها، وحيوية امتدادها في المستقبل. وقد أكد منجزه الشعري ، بشكل جلي ، على مدى استيعاب الشاعر وفهمه لتراثنا الشعري، وتعلقه الكبير بالموروث الديني والتاريخي الإسلامي، لما يضم من صفحات مشرقة حارة مليئة بالتجربة الإنسانية العالية والعمق الفكري، لذلك نرى هذا التراث بموجوداته المختلفة من مواقف وشخصيات ورموز ونصوص، قد شكل لديه أداة حية للتعبير عن تجربته الشعرية الخاصة، وإيصال أبعادها النفسية والشعورية إلى المتلقي. لذلك نستطيع الإشارة إلى أهم مصادره التي وظفها، منوعاً في آليات استدعائها، من اقتباس وتضمين وإشارة وإيماءة وقناع، مكتفين ، هنا، بذكر بعض النماذج عن كل منها : 1 ? القرآن الكريم : القصائد (ولادة في ساحة التحرير وأخرى في مخدع امرأة العزيز) (رماد الفتى) (رحلة الصمت)(فاطمة برناوي)( من معلقات العصر) ( في إطار التوقعات) ( إشراقات الشهيد عباس بن شلب) ( هجائية من مهرج إلى أغبياء)... 2 ? شخصيات دينية : إبراهيم ? يونس ? إسماعيل ? أيوب ? الخضر ? يوسف ? نوح ? المسيح ? فتية الكهف ... 3 ? شخصيات تاريخية : الحسين بن علي ? زينب أخت الحسين ? أبو ذر الغفاري ? عمار بن ياسر ? طارق بن زياد ? الولادة بنت المستكفي بالله ? سُحيم ? علي بن محمد صاحب الزنج ? الصعاليك ? ابن زريق البغدادي ? كسرى ? أبو جعفر المنصور ? الجاحظ ? الحسن البصري ? زيد بن علي ? التوحيدي ? علية بنت المهدي ? قريش ? الكندي ? زبيدة بنت العباس ? الحلاج ? موسى الكاظم ? النعمان ... 4 ? شخصيات أسطورية : هابيل ? عشتار ? تموز ? أنكيدو ? كلكامش ... 5 ? توظيف نصوص الشعراء : امرؤ القيس ? الشنفرى ? بشار بن برد ? جرير ? المتنبي ? أبو العلاء المعري ? عبيد الله بن قيس الرقيات ? علي بن الجهم ? لسان الدين بن الخطيب ? لوركا ? السياب ... ثالثا : هيمنة عنصر المكان على العديد من قصائده ، مما أضفى عليها نوعا من الخصوصية والتميز. هي أمكنة متنوعة جغرافيا وتاريخيا: 1 ? بعض هذه الأمكنة حمل ذكرياته الأولى، والحياة الاجتماعية التي كونت شخصيته، ويتجلى هذا، بشكل خاص، من خلال ارتباطه الصوفي الحميم مع (الحلة ) وناسها وتراثها الشعبي الحي، وعناصر طبيعتها المحلية بكل تكويناتها وحركيتها، والتي لم تفارقه حتى وهو في إسبانيا ، وهذه نماذج من معجمه اللغوي التي تحيل على هذه البيئة( المنازل ? السطوح ? أعالي المنازل ? النهر ? السمك ? مياه ? غدوق ? نجوم ? ليل ? سفائن ? طيور ? أعشاش ? المواويل ? شباك الصيد ? الصيادون ? النخيل ? الرحى ? حنجرة النهر ? الفرات ? القرى ? البيدر ? التنور ? العصافير ? العشب ? التوت ? القرويون ? الحطب ? الأسماك ? البساتين ? الضفادع ? الصحاري ...). 2 ? أماكن يعبر من خلال توظيفه الفني لها كرموز وأقنعة عن مواقفه الفكرية ومعتقداته تجاهها ب ( القبول أو الرفض)، كما يعبر من خلال أمكنة أخرى عن تجاربه وذكرياته مع أناسها، فالمكان عنده قبل كل شيء هو الإنسان. وهذه نماذج أخرى من هذه الأمكنة ( دجلة ? الفرات ? الصحراء ? الشآم ? كربلاء ? دمشق ? بغداد ? سوق الكرخ ? فلسطين ? الناصرة ? الأطلسي ? الأردن ? الخليج ? زمزم ? المغرب ? باريس ? زنقة إسماعيل ? بيروت ? بابل ? عمّان ? القدس ? جزيرة العرب ? بلاط كسرى ? أرض الروم ? سيناء ? يافا ? اللد ? هيروشيما ? البصرة ? نجد ? وهران ? آسيا ? إفريقيا ? حطين ? القادسية ? الوطن العربي ? غرناطة ? خراسان ? مدريد ? غزة ? الرصافة ? ساحة التحرير ? بلاثامايور ? الدارالبيضاء ? قاسيون ? بردى ? تطوان ? العراق ? الحلة ? نصب الشهيد ? مكة ? ميسان ? ريف الديوانية ? الفاو ? جيكور ? أوروك ? قرطبة ? الناصرية ? مدن سامي مهدي ? سومر ? نيويورك ? ملجأ العامرية ? فاس ? هوليود ? أور ? آشور ) .