مدخل : بين " هذا العشق ملتهب" ( 1980 ) و" الرؤيا وعنف الأحوال" (2010) يمتد إبداع الشاعر المغربي محمد لقاح ليصنع له، على مدى ثلاثين سنة، صوتا متميزا ونغمة أساسا في سمفونية الشعر المغربي الحديث. فقد أصدر الشاعر في هذه العقود الثلاثة سبع مجموعات شعرية تشي بفرادة قصيدته من حيث الموضوعات والنفس الشعري والحرص على جمال الصورة وأناقة الإيقاع من جهة، ومن حيث حضور الرؤية الشعرية من جهة ثانية. ولأن الإحاطة بكل مكونات القصيدة عند الشاعر المغربي محمد لقاح أمر يحتاج إلى مجال أوسع، سنسعى في هذه القراءة إلى الكشف عن أحد أبرز عوالمه الإبداعية، وهو شعر المكان؛ لأن عين القارئ لدواوينه لا يمكنها إلا أن تدرك هذه العلاقة القوية التي تجمع الشاعر بالمكان، خاصة قريته ومسقط رأسه " بني درار" وحسرة الشاعر على ما لحقها من تحول وتغير. إن الشاعر محمد لقاح شاعر أصيل، يدرك مسؤولية الكلمة، ويصدر شعره عن رؤية إبداعية واضحة لديه. وقد أبرز ذلك منذ أول مجموعة شعرية عندما اختار تصدير ديوانه " هذا العشق ملتهب" ببيتين للشاعر نايف سليم : ليس ما تنزف يا قلمي بعض حبر إنما بعض دمي ما كتاباتي و أشعاري سوى قطع قد أفلتت من ألمي فقد وقّع بذلك صك اعتراف برؤيته الشعرية. فلا مجال عنده لكتابة عبثية أو ترف إبداعي تمليه لحظة استرخاء أو لهو، وإنما هي أشعار قدت من صخر الألم وكتبت بالدم لا بالحبر. ولعل في هذا التصدير ما ينفي عن الديوان ما يمكن أن يشي به العنوان من معاني الصبوة والغرام، ويدفعنا نحو البحث الجاد عن ملامح هذا العشق الملتهب. وتعضد التصديرَ القصيدةُ الأخيرة من الديوان، والمعنونة ب"الشاعر" لتكشف عن وظيفة الشاعر وعلاقته بمكونات الواقع. فالشاعر/الذات تحتمي ببراءتها (أنا لم أذنب) في وجه ما يوجه إليها من ضربات وحصار مر، وتعلن عن نزوعها للنور في وجه النار، وللسلام في وجه الحرب. أنا لم أذنب و لكن أتلقى الضربات قد أحاطوني بحرب وبأقسى الجهات و أنا عاشق نور و سلام في الحياة وهذه الذات المفردة تحس بقدْرها ومكانتها على الرغم مما تواجَه به من جحود وإنكار يعود على المنكرين بالجهل لمعاني الوجود والحياة: لودروا قدري لكانوا عرفوا معنى الوجود إنما كل الطغاة قد تساووا في الجحود ولا يترك الشاعر القصيدة تنتهي إلا بأمل ورجاء ليُسمَعَ لحنُهُ، وهو أقصى ما يطمع فيه الشاعر؛ أن يصل صوت معاناته ولحن ألمه: فاسمعوا لحني المعنّى إنه روحي مذابه فيه معنى لوجودي وتحد واستجابه وبين التصدير ونص الختام يعيش الشاعر معاني "التحدي والاستجابة " المعلن عنهما في آخر سطر من الديوان. وقد استطاع الشاعر أن يزيل عن هذا المفهوم نثريته ومرجعيته الفكرية ليصبغه بروح شعرية منحها إياه الإيقاع القائم على مجزوء الرمل بما يمليه من خفة وطرب يجعلانه قريبا من الموشح، خاصة مع تنويع القوافي وحروف الروي. إن هذه الرؤية الفكرية الشاعر محمد لقاح تحتاج منا مزيدا من الكشف؛ لكونها مبثوثة في ثنايا القصائد والدواوين، ولكونها تشكل الخلفية الحقيقية لكل ما يصدر عن ذات الشاعر محمد لقاح من شعر، والمفتاح الأول لفهم رسالته الشعرية. صورة المكان: يحتل المكان أهمية قصوى في الأدب، بسبب الإحساس العميق الذي يتملك المبدع تجاه هذا الحيز الضروري الذي " يتسع من حيز فردي يمارس فيه الفرد حياته اليومية، إلى حيز جماعي تنظمه الجماعة لتحافظ على تماسكها وتناغمها، إلى حيز قومي تحارب الدول لحمايته، إلى حيز كوني." ولعل الشاعر العربي الحديث أكثر إحساسا بالمكان بسبب ما يحس به من مظاهر التهديد التي تحيط بالمدن العربية، المتساقطة تباعا في يد الاستعمار والغزو، ونظرا للتحولات المتسارعة التي تعصف بشكل المدن وبراءتها، ثم لكون الشاعر ينسج مع المكان علاقة ألفة وحميمية تكشف عنها النسبة إلى الذات الفردية لدى أغلب الشعراء ( مدينتي قريتي وطني...). إن العلاقة بالمكان تنطوي على " جوانب شتى ومعقدة تجعل من معايشتنا له عملية تُجاوز قدرتنا الواعية لتتوغل في لا شعورنا. فهناك أماكن جاذبة تساعدنا على الاستقرار، وأماكن طاردة تلفظنا. فالإنسان لا يحتاج فقط إلى مساحة فيزيقية، جغرافية يعيش فيها، ولكنه يصبو إلى رقعة يضرب فيها بجذوره وتتأصل فيها هويته، ومن ثم يأخذ البحث عن الكيان والهوية شكل الفعل على المكان لتحويله إلى مرآة ترى فيها "الأنا" صورتها." من هنا يندغم لدى الشاعر الإحساس بالمكان الفردي والمكان الجماعي لدرجة يصعب معها التفريق بينهما أحيانا. إضافة إلى أن المكان " أصبح ينظر إليه على أنه عنصر شكلي وتشكيلي من عناصر العمل الفني" يمكن القول أيضا إن المكان يرتبط في الشعر العربي بالفعل من جهة، والموقف من جهة ثانية، بمعنى أنه دال على ما ينجز داخله من أفعال إنسانية، ثم إنه مرآة كاشفة لما يعتري الشاعر داخله من أحاسيس وانفعالات. وتساهم اللغة، باعتبارها القناة المحولة للأشياء إلى أنساق، في كشف هذا الإدراك للمكان والإحساس به. 1 المكان، جدلية الاغتراب والأمل: يحتفي الشاعر المغربي محمد لقاح بالمكان احتفاء بالغا، ويعيش داخله اغترابه المفعم بالحنين والمتلبس بالتذمر من التحولات التي شابت الأمكنة الأصيلة. وهذا ما يحول القصيدة إلى مرثية للجمال والأصالة. فالخرائط لا تعدو أن تكون " امتداد رماد"، و"الأبعاد تنتفي"، ووجدة " محض سراب" حينا، و" فيض سراب" حينا آخر. وحتى ما قد يبدو إضفاء للجمال على المدينة لا يلبث أن يتعثر أو يزول: مدينتي معزوفة أنغامها تلاحقت لكنها لم تكتمل وهي مدينة يلفها الحزن والضياع، إذ يصف دروبها ب" الحزينة" ويصف طقوسها بالضياع: حفظت طقوس المدينة عن ظهر قلب ضياع ضياع ضياع وقد اعتبر الدكتور إحسان عباس أنه " من الطبيعي أن تتشابه تجارب الشعراء الريفيين المهاجرين إلى المدن العربية في طبيعة الصدمة إن حدثت فهي دائما تعبير عن الاغتراب النفسي والاجتماعي الذي أصابهم، ولكنها تتفاوت في العمق والمدى، فهي عميقة مزمنة مثلا عند السياب، وهي عميقة لكنها مرحلية عند أحمد عبد المعطي حجازي، وهي متقلبة خاضعة لتغير الظروف عند البياتي، وهي مبهمة إلا أنها واقعية الأسباب عند بلند الحيدري، غير أن أكثر الشعراء يتحدث عن " مدينتي" هكذا بياء الإضافة إذا عز أن يحددها بالتسمية، وفي هذه الصيغة يتجاور النفور والحب تجاورا لا انفكاك له. ويمثل بلند قمة النفور من كل ما يسمى مدينة، حتى لينفر من قريته نفسها، ويرفض العودة إليها حين تحولت إلى مدينة: لا لن أعود لمن أعود وقريتي أمست مدينة؟ ! أما أسباب نفوره من المدينة فلأنه يخشى ضياع خطواته في شوارعها الكبيرة، وانسحاقه في الأزقة الضريرة، وخوفه من وحشة الليل، ورعبه من عدم وجود الصديق." ولا يشذ شاعرنا عن هذه القاعدة، أي نسبة المدينة إلى الذات وتجلية الوجه الكئيب للمدينة في حزن دروبها وضيقها وبالقدر نفسه تتمظهر في وجوه سكانها على اختلافهم: أراك على وجه غانية تستفز الرصيف لتأكل من لحمها الوثني أراك على وجه عاملنا اليحمل الوطن المستباح على وجه زارعنا اليستلذ الجراح وفي الليل يرحل خلف النجوم أراك على وجه شاعر حب تعثر في شفتيه القصيد على وجه طفل شريد أراك صدى ... وهذا الحلول المتعدد في الأشياء كاشف عن تعدد وجوه المدينة تبعا للرائي وزاوية الرؤية. ثم إن الشاعر محمد لقاح يختلف عن الشعراء العرب في تصوير ما سماه إحسان عباس ب"الصدمة" لكون المدينة التي انتقل الشاعر إليها لا تختلف كثيرا عن القرية في هدوئها وبساطتها. ف"وجدة" 1980 ليست القاهرة أو الدارالبيضاء أو بيروت. " إن النفور من المدينة والحنين إلى الريف ممتزجا مع الحنين إلى الأم وإلى الطفولة نزعة رومنطيقية أصيلة، وقد وجدت لها تعبيرات مختلفة في الأدب العربي في هذا القرن، كما وجدت لها بدائل أخرى في الحنين إلى الماضي الذهبي أو في العودة إلى الطبيعة الغاب (عند المهجريين) أو التشوف إلى يوتوبيا ( كما رأينا عند نازك)، أو في خلق مدن مسحورة تغني الشاعر عن مدينة الواقع المليئة بالآلام والعذاب، تلك المدينة المسحورة التي يصورها البياتي..." أما عند الشاعر محمد لقاح فقد ارتبط بنزعة ثورية ورغبة في التغيير ممزوجة بنغمة الأمل في الغد. وإذا كان الشاعر العربي في حديثه عن اغترابه داخل المدينة يسبغ آيات الكمال على قريته كما عند بدر شاكر السياب في قصائده حول قريته "جيكور"، أو يرفض العودة إليها مطلقا، كما عند بلند الحيدري، فإن الشاعر محمد لقاح يصر على تمسكه بأمل عودة قريته إلى ماضيها المشرق، و يصف ما يرى من مظاهر تنكر القرية له، وصور اغترابه داخلها فيخاطبها حزينا: ياقريتي لشد ما أحببت أن أعانق الأطفال فيك والرجال لكنهم لا يدركون ما أريد يلفني أمامهم سؤال واغربتي عناقهم محال ولعل الاغتراب الذي يجده الشاعر مع الناس تنسحب ظلاله على المكان أيضا، ويفسر ضيقه وصغره بأنه ليس ضيقا جغرافيا وإنما هو ضيق نفسي بسبب غياب الرفاق. ويصغر الزقاق في عيني ... يضيق لأنني بلا رفيق ويصر الشاعر على تسمية الأماكن ليمنح تجربته ما تستحق من خصوصية من جهة، ولتبرز أصالة تجربته من جهة ثانية. فشعر المدينة عنده لا يتكئ على استنساخ ما قيل في شعر المدينة بقدر ما هو تعبير عن تجربة ذاتية تستمد أصالتها من حرقة الشاعر على ما آلت إليه قريته المطمئنة، وما أصابها من جراح "سجٍّرها حزنها المستفيض" هذا الحزن الذي يصفه الشاعر بأنه "رث كبارود فرسانها ( الحاركين)" وكما كانت المدينة، في رؤية الشاعر لها، ناقصة "معزوفة لم تكتمل أنغامها" فإن القرية كذلك وهم، وهي غير مكتملة يخيم عليها الحزن والمسخ والعقم والضياع: لتبقى بني درار وهما تجاسر في ( حرْكة) وحظا تعثر قبل الوصول وموسم عقم يطول وحزنا حقيرا يشكل كل الوجوه التي فقدت لونها في الرهان وحظا رديئا تشامخ في الواجهات وفي الطرقات وفي الأغنيات تشامخ مثل الثآليل ثم تمطى شحوبا وجدبا ويتحسر الشاعر على ضياع الأحلام الوردية والأنغام العذبة التي رددها، ولا يجد غير الجبل الشامخ في قريته ليكشف له عن مكنون صدره، بعد أن خذله الناس الذين أحس معهم بالاغتراب : أبا يسغانَ كان شموخك الممهور ينسغنا فعانقناك أحلاما ورددناك أنغاما فلم تينع سوى الأحزان كالأورام في الجسدِ ولم تعد الأشياء الجميلة غير ذكرى أو حكايات ترويها الجدات عن زمن الخصب والخير والجمال، فالجفاف "بسط جناحه الأغبر"و" الغبار يكدر وجه الحياة" و القرية : "بني درار" التي فقدت ملامحها ولا بسها الذهولُ على امتداد مسيرة شردت يساكنها الظما الآسن ويسكن قلبها القلقُ ولم تعد الاحتفالات الشعبية ( الوعْدة) التي كانت " ترصِّع بالقِرى المأثور موسمها" سوى ذكرى عابرة. أما ألعاب الفروسية ( الحرْكة) التي كانت" تلون بالسنا الوهاج الحاضر وتبعث همة الأسلاف" فقد غابت ولم يعد لها وجود إلا في حكايات الجدات: ونسأل أين الخيول؟ فتروي لنا جدتي أنها قبل أن يتضاءل فرسانها قد أثارت من النقع ما أربك الفاتحين ولم يبق أمام الشاعر سوى أن يكتفي بمطاردة الذكريات في أزقتها التي تضيق بسبب غياب الرفيق، فالشاعر لا يكف عن العودة إلى قريته رغم الكلوم والجراح ومعاكسة تيار التحولات الجارف: أعود أجر خطاي الثقيلة نحوك أسبح ضد التيار أطارد فيك الطفولة والذكريات بل إنه في تحسره على ضياع موسم "بني درار" يتساءل عن جدوى تجديده مادام الإنسان تغير وخمدت فيه شعلة الإحساس بقيمة الأشياء والمكان: فهل بقي الآن ما قد يبرر تجديد موسمها بعدما خمدت شعلة في القلوب. فلم يعد الشاعر يحس بأن أحدا مازال يحب قريته وموسمها وذاكرتها فيعلن أنه وحده يحبها: فمن سيؤازرني؟ ليس لي فيك أي شريك فهل أسبح الآن وحديَ ضد التيار؟ ثم يقول: يراني الذي من هواك استقالْ أقول له: يا رفيق أريد الطريق فدل خطاي يقول: الطريق الذي تبتغي غير سالك فوَجِّه هواي إذاً إن ذلك أقوى من الاحتمال وغادرني ليؤكد لي أنه من هواك استقالْ وكما كان انتظار "مقدم فارس مغوار" يخلص المدينة التي " سلبت على الأشهاد" ينتظر الشاعر الفرسان المخلصين الذي يخرجون القرية من حزنها ويستبطئ وصولهم باستعمال الاستفهام: متى يصلون ؟ بني درار من دونهم حشرجات تحز اللهاة وفاكهة لم تعد مشتهاة لكن الشاعر في غمرة تذمره وحزنه يعلن عن قيمة الوفاء، و تفاؤله العميق أن بعد هذا الظلام لا بد وأن يطلع الفجر ويولد النهار من جديد: سيولد فجرك بين الدروب وينشر ضوءه في كل فج وتشمخ فيك الجبال كما ألفتها تواريخنا آنذاك يزول الغبار فأشهد يوم" الجبوب" وأفخر بالحب ... حب بلادي ولكنني الآن ما زلت للحب مقترفا وسأبقى ! بهذا الحب الجارف للقرية الأم تتجسد الوطنية والعروبة. يفتخر الشاعر بحب قريته التي ترك فيها بصمات الطفولة وحنين الذكريات ويفخر بحبه لبلاده بكل جهاته وأقاليمه. 2 جدلية المرأة والأرض:
يقول الدكتور إحسان عباس:" إن تصور الشاعر الحديث للمدينة في صورة امرأة ثم في صورة امرأة متعهرة يكاد يكون قسطا مشتركا بين عدد كبير من الشعراء (...) ومن السهل أن نجد العلة في استعمال هذه الصور، فالمدينة في اللغة " مؤنثة" وفي معظم الأحيان كانت حركة التاريخ ضد المدن فتحا واجتياحا واغتصابا لها..." وقد قدم الشاعر محمد لقاح أيضا مدينته في صورة امرأة، لكنه قدمها في صورة عذرية لا تخدش حياءها وحبه لها، هي ليست "مبغى كبير" كما عند بدر شاكر السياب وليست عاهرة " في أسمالها تضاجع الملوك" و" تفتح للغزاة ساقيها وللطغاة " كما عند عبد الوهاب البياتي، وليست زانية كما عند محمد بنعمارة الذي يقول:" آدم بدء ومدينتي زانية" وإنما هي الحبيبة التي لا تباح والسند القوي الذي يمنح الشاعر القوة، ورصيده الوحيد في هذا الرهان. ولعل هذا الحب الجارف للوطن هو ما جعل الشاعر يمتطي معجم الغزل العفيف للتعبير عن "هذا العشق الملتهب" كما سماه ويمكن أن نمثل لذلك بقصيدة "كوني الذي لا يباح " والتي امتطى فيها الشاعر بحر المتقارب ليمخر عباب المعنى مسافرا، باحثا، تائها، فالمسافة تطول، والوصول لا يلوح في الأفق، والسير ممتد إلى نهايات غائمة لا تفيد فيها المراوغة وتحاشي الهوى (أسافر مني إليك) فالمسافة تطول بالشاعر دون وصول، مما يوقعه في الحيرة القوية التي يعمقها التساؤل: "أعانق شلال وهم ترى أم تراني أعانق فيض اليقين؟!" فالمعاناة شديدة، والمرأة المخاطبة، رصيده الوحيد لهذا الرهان، "تختفي خلف كل الرؤى المستباحة، وخلف الفصول التي أجدبت من زمان. كما أن الخطو وئيد، لكن يبقى العزاء الوحيد هو الرجاء بأن تحمي الذات المخاطبة نفسها لتكون ما لا يباح : فكوني السنا واستلذي الجراح وكوني و كوني ... وكوني الذي لا يباح وهو ما يفتح دلالة " الأنثى" هنا على معان متعددة. فالمرأة هنا معادل واضح للوطن والقيم وكل ما يحس الشاعر الملتزم بأنه مهدد بالتلاشي والضياع. وقد نسترشد بالألفاظ الدالة على المكان لندرك أن الشاعر مسكون بحب الوطن والأرض ( المسافة الخرائط امتداد ...). ومما يعضد كون الحبيبة معادلا للوطن والأرض والثورة ما جاء في قصيدة "التي تأتي" إذ يخاطب الشاعر الحبيبة التي يراها قادمة من بعيد ويدعوها للتجدد و المراهنة على الوصول و تبديد مسافة الزمان بينهما ويخبرها: سنركب المد، نلتقي في " الساقية" وفي "العيون" نسترد بعد عثرة السنين حُبَّنَا وفي استعمال لفظ "المسيرة "وفي وضع كلمتي العيون والساقية بين مزدوجتين نقل لهما من احتمال دلالاتهما اللفظية الغزلية إلى أسماء أماكن " مدينة العيون " "وجهة الساقية الحمراء " و بذلك فالحب المستعاد إذن هو الأرض التي ضاعت، بعد عثرة السنين، أي الاستعمار. وهذا ما يعطي للعشق الملتهب دلالة على حب الأرض والوطن وعشقهما حد الاحتراق. في نص" مكابدة " أيضا يسبغ الشاعر معجم الغزل على المكان؛ فوجدة/ المدينة السراب، المعطرة ضفائرها بالشعور، ترفض الشاعر وتوهجه الوثني وترفض منه التودد وتبتعد، لكنه يلاحقها برؤاه، لكن هذه الرؤى تملأها صورة الموت كما في قصيدة "هذا العشق ملتهب": وصورة الموت التي ملأت رؤاي تصادر الأشواق وهو ما يدفع الشاعر للرغبة القوية في التخلص من هذا الحب بعد أن يحتار في ما يمكن فعله: هل يهجرها إلى الأبد، أم يلعب لعبة الأضداد، أم يحلم في ظلال الموت بالتكوين والصدفة؟ لينتهي إلى صرخته المنفعلة الراغبة في الخلاص: خذوا عيني التي حملت رؤى عجفاء ..... واكتأبت كما الأوهام تكتئب خذوا عشقي، أريحوني فهذا العشق ملتهب وجدير بالذكر أن رؤيا الشاعر لم تكن أسيرة وطنية ضيقة، وإنما امتدت إلى رؤيا قومية تحفل بالنصر كما في قصيدة "صوت من القاهرة" حيث يخاطب الشاعر تشرين رمز الانتصار المجهض ويتنبأ بالعجز عن مواصلة النصر والتراجع نحو الأوهام والأحلام والكلام : تشرين يا صراطنا المثير يا فوزنا الكبير ستنتهي كموجة أضاعت التيار ستنتهي، لأننا يا أنبل الشهور نعيش بالأحلام في الحطام ونرشف الأوهام كالغريق وننتشي بلعبة العبور ستنتهي لأننا قد افتقدنا معلم الطريق. وفي قصيدة "على خط من النار" يعبر الشاعر عن ثورية قوية في وجه الأعداء تناقض هدوءه في مخاطبة المدينة : فِدائي أثور إذا تآزرتم لإنكاري سأثبت في وجوهكمو وأبعث هول إعصاري في الختام: لا ندعي لهذه المقالة أنها رصدت تجليات المكان كلها في تجربة الشاعر المغربي محمد لقاح لغزارة ما كتب في هذه الموضوعة الهامة، والملتصقة بوجدانه، لكن ما يمكن التأكيد عليه هو قدرة الشاعر الفائقة على رصد طبيعة العلاقة الوجدانية مع القرية، علاقة خاصة أمكن معها تحويل القرية إلى رمز، وقد ساهم المقروء الشعري للشاعر في تطعيم تجربته دون أن يوقعه في استنساخ تجربة شعرية ما، خصوصا وأن موضوع المدينة والغربة فيها والالتجاء إلى القرية كان موضوعا سائدا ومغريا. الهوامش: الشاعر محمد لقاح من مواليد قرية بني درار ( شرق المغرب) سنة 1944. أصدر الدواوين التالية: هذا العشق ملتهب (1980) ثلاثية الحنين المهرب ( 1998) سأفتح باب فؤادي (1998) نهر الأطلسية (2005) سيدة القمة (2008) مواسم الأمطار الغرثى (2009) الرؤيا وعنف الأحوال (2010). يوري لوتمان، مشكلة المكان الفني: تقديم وترجمة سيزا قاسم من كتاب " جماليات المكان" ( تأليف جماعة من الباحثين) الناشر: عيون المقالات الطبعة الثانية 1988 ص 60 نفسه ص 63 نفسه، تقديم الكتاب، ص 3 محمد لقاح، هذا العشق ملتهب، المطبعة المركزية الطبعة الأولى 1980ص 15 نفسه ص 26 إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، دار الشروق للنشر والتوزيع، الطبعة 2 / 1992 ص 93 هذا العشق ملتهب، ص 27 اتجاهات الشعر العربي المعاصر ، ص 94 هذا العشق ملتهب ص 17 نفسه، ص18 محمد لقاح، ثلاثية الحنين المهرب، دار النشر الجسور، وجدة، الطبعة الأولى 1998 ص 7 نفسه ص 9 نفسه ص11 نفسه 14 15 ، نفسه ص 19 نفسه ص 21 ص 24 ص 29 33 هذا العشق ملتهب ( م.س) ص 22 ثلاثية الحنين المهرب (م.س) ص 10 نفسه 39 اتجاهات الشعر العربي المعاصر (م.س) ص91 92