في قاعة العرض التي تشكل المدخل الرئيسي لقصر البديع في مراكش, تآلفت روحانية التشكيل الفني المعاصر التي جمعت أجيال متعددة ومختلفة في الرسم واللون والمواضيع والأساليب والمدارس المتنوعة التي جاءت بصفحات ملونة شعلت بنبضاتها الشوق الحقيقي للفن الجميل أمام عيون الناظرين كي تتسم بتسجيل حالة جديدة في العرض التشكيلي للملتقى الفني الدولي لهذه الفنون التي عملت من أجل إقامة تجمع فني رائد من بلدان مختلفة تتماثل فيها سحر اللون الجميل . ولأن اللون في هذا المجال التشكيلي يشكل وطناً للفنان بحبه وشوقه الذي يغطي سطوح لوحاته بشمسه الدافئة المتحمسة، ومن باب أولى فهو يرسم لنا العلاقات المتميزة بين الوعي الفني والوعي الاجتماعي واسقاطاتهما على الوعي النفسي للفنان والمتفرج في آن واحد, وهذه مهمة ليست بسهلة فهي تتجاذب من طرفين . إن البحث في أهمية ذلك السر العميق بين العمل الفني المكتنز وطبيعة الابداع للمنجز النفسي والجمالي هو الأقرب الى العين -- البصر -- الذي يحلق في عالم الخيال بالفكرة المطروقة حديثاً . وبين العمل الخالي من الفنية والجمالية, لذلك نقول لا بد وأن تكون هناك فواصل واضحة تفرزها العين\ المجهر ولا تستجيب إليها الذائقة الفنية البصرية بسبب التشوهات الخلقية داخل تفاصيل أي عمل غير مكتنز. لأن اللوحة الجميلة هي كائن حي مخلوق بشكل جميل خالٍ من التشويهات الخلقية، وبنفس الوقت فهي تعطينا خصوصية بصرية في التمرد على الواقع عبر الالتزام بالموضوع والشكل الذي يمثل فيه البعد الانساني الأهم الذي ينتمي إليه حلم الفنان . إن التماهي في أبجدية جديدة متنوعة لأعمال تشكيلية فنية مختلفة جاءت محلقة بأجنحة ملونة من بقاع مختلفة من العالم لتحط على أرض مراكش الحمراء، وتحديداً في قصر البديع الجميل , وهي حاملة معها موسيقا داخلية تتناثر بين الاضاءة واللون, لتحيلنا الى عالم الشعر في موسيقاه الداخلية حينما تصور لنا هذه اللوحات العمق الحقيقي للتعبير عن مشاعر الانسان الفنان . وإننا نعتقد بأن الرسام هو شاعر مبدع في أسلوبه المميز حينما تكون لديه رؤية فنية صورية يتقنها ويترجمها عبر اللون والدلالات الأخرى, فالشاعر في شعره يقدم لنا نسيج قوي وناعم كالحرير حينما يترجم معاني النص الدلالية والشعرية بما تحمله من موسيقا عبر معاينة بصرية، تعتمد الواقع المرئي للكلمات والعبارات الشعرية، كي يخلق تكويناً جديداً لبناء صور جديدة بايقاع موسيقي جديد، وهذا أيضاً ما ينطبق على الرسام المبدع الذي يتفنن في وضع عناصر اللوحة بشكل يبهر العين ويغازلها حتى العشق, ويشكل بناءً أو هيكلاً جديداً يعتمد في أساسه جمالية اللون في حركة اللوحة، وحركة الشكل، ورائحة المواضيع، ولاننسى المسحات اللونية التي تحدد هذا اللون أو ذاك مثل الضربات الموسيقية لكل لوحة، حينما نرى اللون الأحمر أو الأبيض أو الأزرق فنلاحظ كسراً لذلك الطوق الواقعي المألوف والمتعارف عليه. هكذا جاءت اللوحات التي عرضت على جدران قصر البديع . إن أغلب اللوحات التي عرضت في هذا الملتقى تحمل بصمات خاصه بألوانها وأشكالها ومواضيعها لكونها تمثل طبيعة الفن التشكيلي, البصري الذي يحمل بدوره بصماته الخاصة وألوانه الرمزية لواقع المجتمعات المختلف وتفسيرها له, وجدنا من قبل ثقافة الفنان, ألواناً تحدثت عن نفسها متمثلة في الاعتماد على الفولكلور أو التراث الشعبي أو الواقع المعاش أو الطبيعة أو التاريخ القديم لمجتمعات ينتمي إليها الفنان المشارك في المعرض. كما في لوحات الفنان العراقي فائق العبودي الذي كان شديد الحرص على اللعب في فضاءات لوحاته بشحنات تراثية، وهو بذلك شكّل أهم انفتاح على الموروث التاريخي بين الاسطورة والحرف المسماري معلقات على الجدران والشبابيك مليئة بالشوق والحنين لذلك الزمن العتيق الذي يمتد الى الاف السنين عبر وحدة الشكل والبناء والرؤية . ومن هذه الناحية جاءت الاعمال الفنية مزدهرة بالالوان الزاهية والبيضاء من كوريا وبالالوان الغامقة والداكنة كما في العراق والمغرب والسعودية والكويت .. كما وقدمت, أعمال تحمل في طياتها خطابات متعددة منها لانتصار الطبيعة ومنها لانتصار الانسان ومنها تعبر عن حالات الانكسار , بمعنى آخر أعمال جاءت لنصرة الحقيقة واعمال جاءت لترد على ما هو سيء ورديء في هذه الحياة . في هذا الملتقى الفني تشاهد العين السطوح الملونة والأفكار الجديدة، وهي تحكي قصص عن تلك المحطات المختلفة في بقاع العالم .. فمثلا الإنسان في جمهورية كوريا ينظر إلى الألوان والحياة والطبيعة بألوان باردة فاتحة بيضاء، مليئة بالسكون الربيعي الجميل من خلال الطبيعة الهادئة لروح الحياة هناك. في حين نرى الألوان الحارة كالأحمر والأزرق والأصفر تمثل الطبيعة العربية، وكيف ينظر إليها الإنسان الفنان، وهو الذي يعيش في العراق او المغرب او الكويت او السعودية بسبب الحكايات التي عاشها الإنسان هناك وأثرت فيه عبر تناقضاتها وصراعاتها وعن تلك المكنونات والرغبات والطموحات التي يعبر عنها هناك . لذلك نرى بان اللوحات تعطينا خصوصية بصرية في التمرد على الواقع عبر الالتزام بالموضوع الذي يمثل البعد الانساني المتشتت في عالم الحلم الذي ينتمي اليه الفنان في مختلف الاماكن في العالم، وحسب البيئة والظروف، بسبب الاشكاليات في الواقع الذي يسكن في مخيلته، بمرارته أو حلوه، بتشظيه أو تماسكه، بانكساراته أو تقدمه نحو الأمام، بالتباعد أو الاقتراب، بالغياب أو بالحضور، وذلك يبقى ضمن الطموح الذي يفلت من أصابع اليد . وحتى هذه الألوان وتركيبها اللوني الأحمر والبرتقالي والأصفر تجلت في لوحات الفنانة السويسرية ماري ماكين بشكل واضح بالاضافة الى اللون الابيض الذي يصنع الضوء في أعمالها مما يستفز عين المتفرج . ومن ذلك نجد أن الفنانين في هذا الملتقى الفني للفنون التشكيلية يمتلكون فيضاً من التدفقات المنحبسة داخل معاقل السكون والذات, السكون الوهمي الذي يتكشف لنا جلياً عبر طاقات الدفق المتحرك لخطوط تتقاطع هنا وهناك تتعارض مع انسيابية الالوان الهادئة البيضاء والاضاءة الخافته التي تسكن فضاءات اللوحات . ومن جهة أخرى نجد فضاءات أخرى متعددة ورؤى مختلفة متعددة تركيبية من حيث جمالية أو صناعة في الديكور في مزواجة بين أسلوب وآخر من خلال عناصر تكوين اللوحة في الكتلة والفراغ . وفي الحقيقة نرى أيضا من زاوية أخرى أن المستوى الفني للموضوع في بعض الأعمال الفنية التي عرضت على جدران قاعة قصر البديع الفنية ليست بالشكل الواضح , لذلك لم نجد ذلك التفاعل فيها, كما في حركة الجسد مع الرقص .. حينما نركز على بعض الأعمال التي نجدها تفتقد تماماً إلى الضوء واللون أو الموضوع، وأقصد هنا الشكل والمضمون، أي بمعنى آخر لم نجد ( فكرة الروح وهي تعانق الجسد ). أعمال لاتستحق أن تشارك في مهرجان ثقافي مثل هذا بين أعمال فنية متطورة , وهذه مسالة مهمة جداً، وعلينا أن نشير لها حتى ندعم بها الملتقى الفني للفنون التشكيلية الآخر القادم . علماً أن هذه الحالة في المشاركات تحدث في أي معرض أو مشاركة عالمية حينما تجتمع الألوان والأفكار بقوتها وضعفها, لأننا سنرى ذلك التدرج اللوني المدني والصحراوي بتنافره وتقاربه يتجسد في فضاءات اللوحة الذي يخلق انسجام واضح في حركة التوزيع لكل فنان ماهر ولكل حسب طريقته وأفكاره مع تعامله لإثبات وجوده في اللوحة عبر حركته بين هذا الاختلاف الفني المشاكس. لذلك سنجد الغث والسمين بين الاعمال . وسيكون واضحا وجليا أمامنا حضور الفكر الإنساني عن طريق اللون والتكنيك على سطوح الاعمال بالاحساس إلى أعلى درجاته . أن الملتقى الدولي للفن التشكيلي المعاصر الذي نظمه مركز الحمراء للثقافة والفكر بقصر البديع بمراكش أيام 23 – 24 و25 دجنبر 2011 قدم لنا نماذج مختلفة من العالم وبمشاركات عربية وآسيوية وأوروبية ومن الأعمال التي تركت بصمة واضحة في مجال الفنون التشكيلية . هناك لوحات فنية أطربت العين وتمتعت بمشاهدة فنية طيبة، من خلال انعكاسات الألوان والأضواء، أسهمت في تقديم التبادل الثقافي بين فنانين يمثلون الفنون التشكيلية عبر رؤى خاصة لكل مجتمع، كما وأسهمت في تبادل الخبرات بين العرب والاجانب الذين تجمعهم رؤى فنية جمالية مختلفة ضمن مدارس فنية متعددة, أي بمعنى العمل على تفعيل مبدأ تلاقح الحضارات بجمالياتها وفنها على جدران معرض قصر البديع في مراكش الحمراء. وهناك لوحات لا تستحق المشاركة, كما أسلفت سابقاً . لكن من المهام الرئيسية لهذا الملتقى هي: يحاول هذا الملتقى مساهماً في نشر الوعي التشكيلي بين صفوف الناس الذين يمتلكون ذائقة فنية جمالية وعيون تميز مواطن القوة والضعف أثناء ممارسة العين لدورها في الحياة , و من أجل الارتقاء بمتفرج واعي يرتقي بمستوى الكشف عن أساليب جديدة تعجبه لابد لنا من أن نقدم له في هذه المعارض أو الملتقيات الفنية التي تشكل ورش عمل فنية حياتية لابد ان نقدم إليه الجميل من الأعمال أي لابد وأن تكون هناك هيئة فنية استشارية لتحديد النوع الذي سيشارك في هذه الملتقيات الفنية الدولية . * ناقد عراقي يعيش بسويسرا