هوية بريس – الإثنين 19 ماي 2014 يقول عبد الرحمن حسن الجبرتي في تاريخه المسمى: "عجائب الآثار في التراجم والأخبار": «اعلم أن التاريخ علم يُبحَث فيه عن معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم، ورسومهم وعاداتهم، وصنائعهم وأنسابهم وديانتهم. وموضوعه: أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والشعراء والملوك والسلاطين وغيرهم. والغرض منه: الوقوف على الأحوال الماضية من حيث هي وكيف كانت. وفائدته: العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها، وحصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن؛ ليحترز العاقلُ عن مثل أحوال الهالكين من الأمم المذكورة السالفين، ويستجلب خيار أفعالهم، ويجتنب سوء أقوالهم، ويزهد في الفاني، ويجتهد في طلب الباقي». إن التاريخ كما سلف علم دقيق وفن عريق، ومستودع الأخبار والتجارب، وموطن الفوائد والمصائب، باستطاعة أي فرد ولوجه، على اختلاف نياتهم مقاصدهم، والنهلَ منه بغية تحقيق بعض مصالحهم، فكان -من ثم- تراث جميع الناس، عليه يبنى كل أساس. وفي ذلك قال ابن خلدون المغربي: «تسمو إلى معرفته السوقة والأغفال.. ويتساوى في فهمه العلماء والجهال»، من هنا دخله الدغل، وشابه كثير من الزغل؛ لما تطاول عليه غير أهله؛ وحاول الاستفادة منه حاطب ليله، فسامه الدجالون المدلسون سوء العذاب، وشوهوا صورته واللباب. لقد كان أجدادنا العلماء على وعي تام بخطورة فن التاريخ، لما رأوا من تجرؤ الطغام عليه، وولوغهم في عرضه، زعما منهم أنه للجميع مستطاع، وأنه أخبار تُذاع، وحوادث تشاع؛ لذلك جاءت التواريخ المعتبرة مروية بالسند، كي يترك المجال واسعا لنقاد الروايات المشهود لهم بالباع الطويل في العلم والتقوى، ليضبطوا الأقوال، ويدققوا في أحوال الرجال، وما قد يدخل في التاريخ من قيل وقال. ولهذه العلة بين أبو جعفر الطبري في مقدمة تاريخه أن: «العلم بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائن من أنباء الحادثين، غير واصل إلى ما لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم، إلا بأخبار المخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس» معتذرا للنقاد الجهابذة عما قد يحويه تاريخه من أمور مستنكرة يستشنعها السامع، فقال: «وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا». ولله درهم وإكرامهم، فقد أجادوا وأفادوا، وقبلوا من الأحداث وردوا، مما نقلوه مشافهة شيخا عن شيخ، أو صديقا عن آخر، بإسنادهم الأحداث إلى راويها؛ ليساعدوا القارئ الفذ على ضبط المروي الصائب من الزائف، بناء على قواعد التحديث المعلومة. يقول ابن كثير الدمشقي في مقدمة تاريخه "البداية والنهاية": «ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله، مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو القسم الذي لا يُصدق ولا يُكذب، مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا، مما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به، لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه، وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما صح نقله أو حسن، وما كان فيه ضعف نبينه..». إن خطورة علم التاريخ تأتي من كونه تُبنى عليه الأحكام الجزاف، والآراء السديدة والشاذة، والمواقف الرشيدة والبغيضة، من غير تأكد من حقيقة الخبر، ولا تيقن من حالة المخبر، إلا أن يكون المعتمد تاريخا اتفقت لأجله الأمة، واجتمعت عليه الكلمة. فانظر إلى دقة مؤرخي الإسلام، كيف يحتاطون في المرويات احتياطهم من الأعداء، سواء كانت تفسيرا لكتاب الله أو سنة وردت عن رسول الله، بذكر سند الكلام، متصلا إلى قائله، لينظر أمره وما قال فيه معاصروه في باب العدالة والدين والصدق والعقل، وغيرها من شروط الناقل الحافظ المتقن؟؟ ولولا الإسناد لقال القائل ما شاء أن يقول، ولزادت وقاحة المتطفلين على الدين، وما يمت إليه من علوم، ولدخل الشك في الإسلام من أصله، وتلك كانت غاية الذين دسوا في تاريخ المسلمين ما ليس منه، غير أن الله قيض لحماية شرعه أقطابا قوائمَ ثابتةً، تنخل الروايات وتجس حال أصحابها. وهو ما أدهش العالمين، من مشارقة وغربيين منصفين، وليس ذلك إلا لأن الصدق والإخلاص لله تعالى والخوف من عاقبة الكذب والزور والبهتان، كانت حاجزا يقف أمام المؤرخين الشرفاء رضى منهم، وثقة كاملة في أن الصدق يهدي إلى البر، وأن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، ونفس الشيء بالنسبة للكذب ..حتى يكتب عند الله كذابا. إذن فعلم التاريخ لا ينفك عن تقوى الله والإيمان به، وبمقدار إيمان المؤرخ تصدق الأخبار، ويُتحرى في أحاديث السُّمار، يقول أكرم ضياء العمري في مغرض وصفه لقيمة تاريخ خليفة بن خياط : «فإن الثقة التي أولاها النقاد وعلماء الجرح والتعديل لمؤلفه، وكثرة ما فيه من مرويات علماء الحديث، تجعل منه مصدرا تطمئن إليه نفس الباحثين في تاريخ صدر الإسلام؛ حيث تلعب الأهواء دورا خطيرا في توجيه الروايات وفي انتقائها». وقال صاحب كتاب "تاريخ سلاطين بني عثمان": «فالتاريخ مرآة الأولين، تنعكس منه صور أعمالهم، فيستدرك فيها النقص، ويتقوى من الضعف، وفيه يبقى الأثر الخالد الجليل للأعمال، والاسم الحي لأعاظم الرجال، ومنه ترهب النفس الظالمة فتردع عن غيها، تحاشيا من تخليد سيئاتها». إن قضية التاريخ ليست سردا فلكلوريا لأحداث مضت ووقائع خلت يشوبها تصوير درامي، كسائر فنون القص الخيالية، وإنما هو ذكر لحقائق حصلت، بغية النهل منها والسير على منوالها، أو الحذر منها وتجنب أخطارها، وليس عبثا قول الناس: التاريخ يعيد نفسه!!. فعاقبة الظلم وخيمة، ونهاية الظالمين أليمة، وقصص المتصفين به معلومة، ولا شك أن فيها عبرا عظيمة لذوي النفوس الكريمة، والعقول الفاهمة السليمة، وكلما قرئ التاريخ المنقح المدقق بعين منصفة وقلب غير لاه، وبنية خالصة لا يكدرها مكر أو شهوة، انتبه الناس لأخطاء السابقين، وراغوا عنها مطمئنين، فأصلحوا من ثمة أحوالهم، وضمنوا التقدم لمجتمعهم. (يتبع بحول الله وقوته).