من الأقوال التي يروج لها علماء الشيعة الإثني عشرية الجعفرية، ويسوقونها كقاعدة علمية في معرض الرد على أهل السنة إظهارا لبطلان المذهب السني؛ قولهم: ((إن مذهباً يثبت نفسه من كتب مخالفيه أحق أن يُتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )). ولأهمية هذه (القاعدة) عندهم جعلها موقع: شبكة الشيعة العالمية، أول كلمة بعد آية الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، تظهر على صفحة الافتتاح. فالمذهب الشيعي الجعفري حسب هذه القاعدة لا يقتصر في استدلاله لصحته وأحقيته بالاتباع، على مروياته المذهبية فقط، وإنما يدعمها بكثير من مرويات خصومه من مذهب أهل السنة والجماعة نفسه. وأمام مجابهة المذهب الشيعي للمذهب السني بالأخبار السنية المناصرِ ظاهرُها للاختيارات الشيعية، يلجأ السنة إلى تأويل ظاهر هذه النصوص ليستقيم مع أصول مذهبهم ويدفعوا توهمات المخالف. وهذا، في زعم الشيعة، نقص وضعف من المذهب السني في الأخذ بالدليل. ويبدو من ظاهر هذه المحاجة وبادئ الرأي أن الاستدلال الشيعي أقوى من السني. ولأهمية هذه (القاعدة) عند الشيعة نجدهم يستنجدون بها في أكثر كتبهم إن لم نقل كلها أقصد طبعا كتبهم الكلامية التي يناظرون بها أهل السنة قديمها وحديثها. وإن كان المحدثون أكثر إيرادا وتطبيقا لها من القدامى.. فالمناظر الشيعي يستشهد ضد السني بما ورد في البخاري ومسلم وكتب السنن والمسانيد وكتب التاريخ والسير السنية وهي الأكثر عددا والأكثر انتشارا.. ومما جاء في هذا الصدد في صفحة الافتتاح لشبكة الشيعة العالمية قولهم: ((نحن نطالب المسلمين بالوحدة ، و نسعى لها لكن الوحدة تكون على كتاب الله وسنة رسوله ، لا على حساب كتاب الله و سنة رسوله. و لهذا اخترنا الأدلة القاطعة من كتاب الله و كتب علماء أهل السنة طريقةً لحل الخلاف و منهجاً لبيان الحقيقة)). وما فات إخواننا المسلمين الشيعة هو أنهم لم يحققوا النظر في القيمة الاستدلالية لهذه القاعدة ومدى إسعافها لهم ضد مخالفيهم.. فهذه القاعدة بحاجة إلى بصيرة تأملية تعمق النظر في جذورها وأصولها الفكرية التي تمدها بقيمتها الاستدلالية.. وفي أي مرتبة هي من مراتب الحجاج؟ أهي في مقام اليقين والقطع أو الظن أو الشك أو الوهم؟ هذه القاعدة تتمحور حول رواية الأخبار.. وحد الأخبار ما يتطرق إليها التصديق والتكذيب. فهي إما أن تكون صادقة أو كاذبة. فإن كان حامل الخبر معروفا بالصدق والضبط صدقنا خبره. وإن كان مجربا عليه كذب، توقفنا ولم نصدق واجتهدنا في تحري الأمر بوسائل أخرى ومن طرق أخرى إن وجدت.. وإذا وضعنا هذه القاعدة في سياق الصدق الإخباري وكذبه تبين لنا أنها حجة دامغة تؤيد المسلك السني أكثر من تأييدها للمسلك الشيعي.. فأهل السنة ابتلوا أثناء جمع الأخبار والأحاديث النبوية بالاطلاع على روايات يتعارض ظاهرها وأصول مذهبهم الاعتقادي والفقهي ومع ذلك رووها وأعطوها الدرجة التي تستحقها من حيث قوة سندها وضعفه. وابتلوا بأخبار أخرى هي حجة لمذهبهم لكنها ضعيفة أو واهية وربما موضوعة، لم يترددوا في الإعلان على رؤوس الأشهاد في دروسهم وكتبهم أنها ضعيفة ولا تصلح للاستدلال. فهم ينظرون في السند بالمنهج الذي يلائمه ويفحصونه ويمحصونه بتجرد أخلاقي رفيع، ثم يصدرون أحكامهم محررة من التعصب للذات الفردية والمذهبية على حد سواء.. والذي يروي أخبارا وهو يعلم أن ظواهرها لا تخدم مصلحته الشخصية ولا المذهبية، وقد يحرجه بها خصمه ويعنته، فهو إما أنه عدل نزيه يقينا، وإما أنه غر بليد. فإن كانت الأولى فالحكم أنه الأولى من غيره بأن يُصدق في كل ما يبدر منه، خبرا كان أو إنشاء. وإن كانت الثانية فلا أغبى منه في العالمين. ولست بحاجة والقارئ كذلك إلى إثبات أن جمهور علماء المذهب السني يعتبرون من أذكياء العالم. ولا يستطيع أحد مهما كان عناده أن يتهمهم بالغرارة والبلادة. وما داموا كذلك فهم بروايتهم تلك الأخبار يدلون على عظيم صدقهم وعدالتهم وإنصافهم، وعلى أنهم أبعد الناس عن التعصب المذهبي أو الطائفي. حتى قال إمام من كبار أئمة سلفهم في الفقه والحديث وهو وكيع بن الجراح: "أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم" رواه الدار قطني. وممن شهد لهم بهذا علّامة المذهب الشيعي الزيدي الشيخ محمد بن إبراهيم الوزير اليماني [المتوفى سنة:840ه] في كتابه الموسوعي النفيس: (العواصم من القواصم في الذب عن سنة أبي القاسم) قال رحمه الله في سياق كلامه عن أمارات عدل أهل السنة وإنصافهم: ((تضعيفهم للأحاديث الدالة على مذاهبهم في التفضيل وغيره )) يقصد تفضيل أهل السنة لأبي بكر وعمر وعثمان على علي رضي الله عنهم جميعا، وقال بعد ما ضرب أمثلة من الأخبار التي ضعفوها: ((وعكس هذا هو تصحيحهم لما يُباين مذهبهم إذا رواه الثقات)) وساق أمثلة كافية وشافية من هذا النوع من الأخبار. ثم قال بعد ذلك في كلام سأنقله على طوله لأهميته ونفاسته وقوة بيان حجته: ((تحريهم للصدق في كتب الجرح والتعديل، وعدم المداهنة، فقد تكلموا في تضعيف الأصدقاء والقرابات مثل نوح بن أبي مريم، وابن أبي داود، ووالد علي بن المديني، بل فيمن يعظمونه وهو حقيق بالتعظيم كالإمام الأعظم أبي حنيفة رحمه الله، ضعفه بعضهم من جهة حفظه، وصدعوا بذلك في التصانيف، مع أن الملوك حنفية في هذه الأعصار في مصر والشام، وهم مستمرون في ذلك. وتجد المحدث الشافعي إذا تعرض لذكر الشافعي في كتب الرجال لم يُعظمه في معرفة الحديث ورجاله وعلله كما يعظم غيره، بل يوردون في تعديله عبارات فيها لين مثل: لا بأس به، وثقة ونحو ذلك، ويخصون من هو دونه بما هو أرفع من ذلك مثل: إمام حجة لا يُسأل عن مثله. وقد كان الشافعي يوثق ابن أبي يحي أحد شيوخه في الحديث وأصفق [أي اجتمع] الأكثرون على تضعيفه، وكَذَّبه جماعة، وعمل أصحاب الحديث من أصحاب الشافعي على تضعيفه، وعدم المبالاة بتوثيق الشافعي له (...) تعديلهم لأعدائهم من غلاة الروافض، وكم في الصحيحين من رافضي سبّاب للصحابة، غال في الرفض، كما مر تعداد بعضهم، ونقل ذلك من كتبهم وهم يعلمون ذلك، ويذكرون مذهبه في كتبهم في الرجال، ويصرحون بأنه ثقة حجة مأمون في الحديث، والعدل على العدو من أبلغ أمارات الإنصاف)) انتهى كلام ابن الوزير. وبهذا الواقع الذي لا يدفع ولا يجحد نقول بأن أهل السنة والجماعة يصدق فيهم الحديث النبوي الشريف: ((وعليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ....)) رواه مسلم. بل يصدق فيهم قول الله تعالى وهو أبلغ: ((يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) [المائدة / 8]. ومن هنا ندعو إلى قاعدة ثانية هي مرآة للقاعة الأولى، وهي: ((من أثبت الروايات التي تخالف أغراضه فقد رواها لأنها تستحق أن تروى. ومن فعل ذلك فقد تحرر من الهوى)) وهذا حال أهل السنة والجماعة. ومن صدق في الرواية، بل وبذل كل وسعه رغم ما لاقى من عنت وتعب ومشقة ليصل إلى مصادر الخبر ثم يجد أن الخبر لا يوافق في ظاهره أغراضه الشخصية ولا المذهبية بل يبدو أن خصومه سيتكئون عليه ويعارضوه بقوة من جهته؛ إن من يفعل هذا بنفسه ومذهبه ومألوفاته وأهوائه، دليل على أنه معجون من عجينة الصدق الخالصة، أي صار عنده الصدق طبعا وهيئة تتحكم في كل ما يصدر عنه. فهذا الصدق الذي ساقه هذا المساق المعجز في عالم الرواية والإخبار هو نفسه سيتحكم فيه ويسوقه ليصدق في إعمال النظر الصحيح في مجموع الأخبار ثم الصدق في البوح بما انقدح في خاطره من معان وأحكام حفظها الصدق من الهوى والغلو والتعصب للمذهب. وهذا هو حال أهل السنة كما شهد بذلك المنصفون من مخالفيهم، ودلت عليه هذه القاعدة التي يسوقها إخواننا الشيعة ليوهنوا طريقة أهل السنة والجماعة. وبرجعة متأنية إلى تاريخ عِلْمَي الرواية والدراية، الحديث وأصول الفقه عند السنة والشيعة، سنتبين بوضوح جلي أن الصدق الذي حرر الرواية عند السنة من الهوى والرغبات الذاتية والتعصب المذهبي، حرر الدراية كذلك. وهذا لا يعني أنه لم يوجد بين أهل السنة من يتعصب لمذهبه العقدي أو الفقهي تعصبا مقيتا.. لقد وجد منهم الكثير في العصور المتأخرة. وإنما نقصد أن أصول العلوم التي وضعها الأئمة الأعلام هي التي قامت خالصة من شوائب الذات والتعصب المذهبي.. ومن هنا أخاطب إخواني المسلمين من الشيعة: إن المذهب الذي لم يرو إلا ما يناصر اختياراته متهم بالتعصب حتى تثبت براءته.. وهذا وللأسف ما يصادفه الباحث في كتبهم القديمة والحديثة. فلا تجد فيها ما يخالف مذهبهم العقدي رغم أن حركة تاريخ المسلمين كانت تتفجر بالأحداث والأخبار والروايات المتضاربة والمتناطحة، الصحيح منها والضعيف، السقيم والمختلق المكذوب، تساق إما لمناصرة المذاهب أو محاربتها.. ولم ينج مذهب من الكذب له أو عليه، ومن المذاهب من رضيت بالكذب لها والكذب على خصومها، طريقا للانتصار، ومنها من رفض الكذب له والكذب على خصومه وأبى إلا الصدق له أو عليه، سبيلا إلى الحق، لا يهمه بعد صدق الخبر لصالح من صدر. وعلى رأس أهل الصدق أهل السنة والجماعة كما تمت الإشارة من قبل. والمذهب الذي لا يوجد في أخباره إلا ما وافق اختياراته، يدل على تواطؤ واتفاق اصطناعي، تَحَكَّم فيه ووَجَّهَهُ تَعصُّبٌ مذهبي متنطع ومتوارث. فهو مذهب انتقى من الأخبار ما يوافق مسلكه ولو كان ضعيفا، واجتنب ما يخالفه ولو كان صحيحا، وربما متواترا. أي حَكَّم المذهب الضيق في حركة التاريخ الرحبة، الواسعة.. مما يجعل المذهب يتقوقع على نفسه ويُحرم من فرص التجدد التي تتيحها المراجعات التمحيصية للأخبار التاريخية. ومن ثم يحرم من إدراك كماله المقدر له كمذهب.. فليس في الدنيا مذهب وُجد من أول يوم كاملا، بل يكمل وينضج مع الصيرورة التاريخية بصدقه في التعاطي معها. ولست بحاجة إلى تفصيل الكلام على أن مذهب إخواننا الشيعة الجعفرية كان منغلقا على نفسه، فسور حقوله المعرفية العقدية منها والفقهية بسور منيع لا يتجاوزه من الروايات والدرايات إلا ما كان شيعيا جعفريا خالصا.. وإذا ما استغفلتهم بعض الروايات أو الدرايات المخالفة وتسللت إلى أحد حقولهم المعرفية ، حاصروها وضربوا دونها من الحجب والسواتر ما يطمسها عن الأنظار، ويطمرها في قبر النسيان.. أسأل الله للمسلمين جميعا بكل طوائفهم ومذاهبهم ومدارسهم أن يريهم الحق حقا ويرزقهم اتباعه والباطل باطلا ويرزقهم اجتنابه في روح وريحان من الأخوة في الله. ((ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)) ..