مهما حاول المرء الترفع عن "البوليميك" الذي يثيره بعض الباحثين عن الشهرة السهلة، إلا إنه يجد نفسه مضطرا بين الفينة والأخرى إلى الإدلاء بدلوه حتى لا يعتبر صمته عجزا أو قلة حيلة أو ضعف حجة. فرغم انني أحاول ما أمكن ألا اشارك في النقاشات التي يكون موضوعها الدين أو الفقه أو الشريعة، لأنها غالبا ما تكون من باب "حوار الصم يحضره العميان"، أي أن الهدف هو الهرج والمرج وليس البحث عن الحقيقة، والسعي لاستقطاب الأضواء أملا في شهرة سريعة ولو كانت من قبيل شهرة "أبي لهب".. إلا أن الاستفزاز يبلغ في بعض الأحيان مبلغا يكون السكوت معه من باب المشاركة في إعلاء راية الباطل. فخلال السنوات الأخيرة، كثر الخائضون في العلوم الإسلامية، إما عن طريق التنقيب عن بعض الأقوال الشاذة في التراث الإسلامي ونشرها وكأنها بنت يومها من أجل التشهير والتدليل على أن هذا "التراث" -وهو مرادف للدين كله عند البعض- مليء بالخزعبلات وأنه ينبغي تصحيحه بما يتماشى مع روح العصر.. أو عن طريق الادعاء بأن بعض من يمشون في أسواقنا ويأكلون طعامنا تنبهوا إلى ما فات أجيالا متعاقبة من العلماء والفقهاء الذين يستحقون فعلا هذه المراتب.. في هذا السياق، سمعنا مثلا عن "باحثين" يدعون للتعامل مع القرآن كنص أدبي، أي بنفس آليات نقد الشعر الجاهلي .. لأنه في نهاية المطاف "إبداع ابن بيئته".. وهذا كلام يكفي لتأكيد تهافته أن نستحضر كيف أنه لم يجد سوقا رائجة خارج الدوائر الضيقة لمن يعتبرون أنفسهم مشمولين بقول المعري: وإني وإن كنت الأخير زمانه ..لآت بما لم تستطعه الأوائل وفي إطار تنويع الاستراتيجيات، وأمام العجز عن اقتحام الأسوار العالية المحيطة بالقرآن، جرب البعض حظه بالطعن في السنة، فرأينا من يتهم أبا هريرة رضي الله عنه ب"الإكثار" وكأن ذلك سبة، ومن يطعن في مصداقية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لأنها انفردت من بين أمهات المؤمنين برواية اكثر من الفي حديث.. قبل أن يتجرأ آخرون على صحيح البخاري الذي يعتبر ثاني أهم كتاب بالنسبة للمسلمين. ولتبديد بعض النقع المحيط بهذا الموضوع تحديدا، أسجل الملاحظات التالية: - الكلام عن السنة النبوية، خاصة ما ورد منها في صحيح البخاري لا يكون إلا مع مسلمين مؤمنين. وليس في هذا مصادرة لحق أحد في اعتقاد ما شاء، لكن شرط عدم الطعن في معتقدات الآخرين. لأنه إذا انطلقنا من منطق الدين، فيكفي أن نستحضر أنه :"لما كانت رحلة الإسراء والمعراج جاء المشركون إلى أبي بكر فقالوا له: إن صاحبك يزعم أنه أُسري به إلى المسجد الأقصى في الليلة الماضية ونحن نقطع أكباد الإبل إليها في شهر كامل، فقال أبو بكر: إن قال فقد صدق. وفي رواية أنه قال: إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشية، أفلا أصدقه في بيت المقدس؟! [البداية والنهاية لابن كثير (3/ 108)]. والمعنى هنا أنه حين يكون الكلام صادرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حق مطلق... أي إذا صحت نسبة الحديث إلى رسول فقد صدق.. وهنيئا لأصحاب "العقول" بعقولهم.. وعلى رأي الإمام علي كرم الله وجهه: ( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه..) -رواه أبو داود- أما إذا انطلقنا من منطق العقل -الذي يعتبره البعض أولى من النقل- فالمسألة في غاية البساطة إذا كان الاحتكام يتم إلى قواعد العلم طبعا. فهل يمكن ان يسمح لدجال يرفض الاعتراف بالطب الحديث، أو ل"عشاب" يستخف بالعقاقير الصيدلانية ان يخوضا في الطب أو الصيدلة؟ والمعنى هنا أن من له موقف مسبق من السنة أو من صاحبها عليه السلام، لا حق له في الخوض لا في الصحيح ولا في الضعيف، بل الأولى له التحلي بالشجاعة الأدبية وإعلان "معتقده" صراحة بدل محاولة التسلل من بين ثنايا كتب "التراث". - بعض الذين يطعنون في صحيح البخاري، يبررون ذلك ب"الغيرة" على نبينا عليه السلام، الذي لا يجوز أن تنسب إليه أقوال او أفعال "تسيء" إليه وإلى الدين الذي جاء به.. بمقاييسهم هم طبعا.. معنى هذا أن أجيالا من المحدثين الذين نذروا أنفسهم لخدمة الحديث النبوي، غضوا الطرف عن هذه "الإساءات" أو لم ينتبهوا إليها، وكان على الامة الإسلامية أن تنتظر 15 قرنا كاملا ليظهر في المغرب الأقصى من يستدرك "هفوات" البخاري.. وانتبهوا، نحن هنا لا نتحدث عن "كليلة ودمنة" و"الف ليلة وليلة" بل عن الكتاب الذي نال أكبر قدر من التمحيص والتدقيق سواء من طرف مصنفه أو من طرف من جاء بعده، وسجل المحدثون عبر قرون ملاحظاتهم عليه لكن بطريقة منهجية بعيدة عن التحامل المجاني .. - قال الحافظ أبو بكر الحازمي إن شرط الصحيح -عند البخاري- أن يكون إسناده متصلا، وأن يكون راويه مسلما صادقا غير مدلس ولا مختلط متصفا بصفات العدالة ضابطا متحفظا سليم الذهن قليل الوهم سليم الاعتقاد. - كتاب شروط الأئمة الخمسة - هذا باختصار هو المنهج الذي اعتمده البخاري في صحيحه، وبالتالي فمن يريد الطعن في حيث أورده، عليه أن يدخل من هذا الباب، أن من سلسلة الرواة، لأنه ليس مطلوبا من متن الحديث أن يتفق مع ميولات المنتقدين ولا مع مقتضيات العصر الذي يعيشون فيه. وعلى سبيل الإشارة هنا، فقد كان في جامعة القرويين بداية القرن الماضي شيخ يحدث بهذه الصغية : عني ..عن فلان.. عن فلان.. إلى آخر السلسلة التي لا تنقطع.. وبالتالي فعلى الذين يحاولن التسلل من باب "مخالفة الحديث للعقل أو العلم أو حقائق العصر"، ان يبحثوا عن باب آخر للنفاذ منه، لأن علماء الحديث عبر أجيالهم المتعاقبة، سدوا بإحكام كل الجحور التي يمكن ان يتسلل منها الجرذان.. - التطاول على البخاري، وهذه رياضة جديدة انضافت إلى رياضات سابقة أوصلت ممارسيها إلى الطريق المسدود، تطرح سؤال "العلم"، فيما يتعلق بالتراتبية التي ينبغي احترامها عند ممارسة النقد أو التعليق أو المراجعة. فالمنطقي أن يكون الناقد أو المعارض -مساويا على الاقل- في المرتبة العلمية لمن ينتقده أو يعارضه. فكما أنه لا يعقل أن يطعن طالب في كلية الطب في عمل استاذ مبرز حاصل على جائزة نوبل، لا يمكن لمن هب ودب من عابري السبيل التعلق في البخاري. فالرجل بلغ أعلى مرتبة بين المحدثين (أمير المؤمنين) ولا يليق لا علميا ولا أخلاقيا أن يطعن في عمله من لا يحفظون حتى الأربعين حديثا النووية. - عطفا على ما سبق، يقال إن البخاري اقتصر في صحيحه على 2602 من الاحاديث (دون المقطع والمكرر).. وإذا أضيفت إلى ذلك المتون المعلقة المرفوعة يصبح المجموع 2761، من مئات الآلاف من الأحاديث التي وقف عليها. ولن أتوقف هنا عند الأسباب ولا الدوافع، بل يهمني أن اسجل هنا كيف أن الرجل اقتصر على هذا العدد المحدود رغم أنه كان في مقدوره الإطناب والإطالة ونشر كل ما اطلع عليه من مرويات. والغريب أن كثيرا من الذين يتطاولون على البخاري لا يعرفون حتى العنوان الكامل لصحيحه وهو :"الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه".. فكل كلمة هنا لها وزن لمن أراد ان يذكر أو أراد شكورا.. - بعض المتهافتين اختاروا ان يلعبوا لعبة اكثر قذارة، عبر إعلان تفضيل "موطإ مالك" على "صحيح البخاري"، والهدف واضح من هذه المناورة، تماما مثل المفاضلة بين القراءات القرآنية، حيث هناك من يقول بأن رواية ورش "أفضل" من غيرها مع أننا نتحدث عن كلام الله الذي أنزل بسبعة أحرف، وليس عن اغنية تم إعادة توزيع ألحانها في عصور أو بلاد مختلفة. وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي: "الموطأ هو الأصل واللباب وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، وعليهما بنى الجميع كمسلم والترمذي"... علما أن جل أحاديث الموطأ وردت في صحيح البخاري ومسلم. - إننا إذا أمام قضية ساقطة شكلا قبل الخوض في الموضوع. فالذين يطعنون في صحيح البخاري وفي شخص مصنفه، لا يحترمون منهجية علوم الحديث، ولا يزنون المرويات بميزان علمي دقيق، وضع السابقون ضوابطه بما لا مجال للتشكيك فيه، بل إن كتب الحديث بمختلف مراتبها خضعت للتمحيص والتدقيق الشديدين، وظهرت مصنفات اعتنت بمراتب المحدثين والرواة، بل إن البخاري نفسه كتب كتابين : "الضعفاء الصغير"، و"الضعفاء الكبير" وهما عبارة عن لائحة بأسماء الرواة الذين لا يوثق بحديثهم، كما له أيضا كتاب "التاريخ الكبير" وهو من أهم الكتب التي اهتمت بالترجمة للرواة، حيث اهتم فيه بذكر السماعات، وإثبات الاتصال من عدمه.. فهذه المصنفات لا يتحدث عنها أحد ولا يناقشها أحد، مع أنها تكشف المكانة العلمية الحقيقية للرجل، بينما يتم الانشغال بالبحث عن أحاديث للطعن فيها.. وأظن أن البخاري لو عاش في عصرنا لأضاف إلى سلسلة مؤلفاته "التاريخ الأصغر"، يرصد فيه اسماء كل المتسلقين الباحثين عن الشهرة، ممن لا يستحقون الذكر في "الضعفاء" الكبير والصغير.. لأنهم لم يبلغوا حتى مرتبة الضعف.. - خريج جامعة القرويين