قبل بضعة أشهر كتبت هاهنا منشورا حول العلوم الشرعية، وفضلها على سائر العلوم وإن توهم واهم خلاف ذلك.. وتحدثت في سياق ذلك عن (الحلاوة) و(اللذة) التي يجدها طالب هذا العلم، (فإن لذة العلم تزيد على كل لذة)، [صيد الخاطر، ص:197]. وذلكم (الأنس الروحي) الذي يتغذى به من ينهل من هذه العلوم، وذلكم (الإدمان) المحمود للكتب حتى لقد أضر كثير منهم وذهبت أبصارهم جراء إدمان القراءة والتأليف.. وتلكم (الرفعة) والمنزلة العالية التي يراها (القُبان) كما يرى أحدنا القمر في االأفق البعيد، فهيهات الوصول إليه، وهيهات التشبه به، وهيهات جمال كجماله وبهاء كبهائه ونور كنوره!! ثم الأجور العظيمة جدا التي ينالها العالم العامل بعلمه المخلص في تبليغه… فماذا بعد؟؟ إن عامة المنتمين للتخصصات (العلمية الأخرى) حين نضجت أفكارهم واكتملت عقولهم أيقنوا أنه لا علم على الحقيقة إلا علم الشريعة، ولا فخر إلا لحملة الشريعة، ولا نبل ولا مقدار إلا للعلماء الفطاحل، فهم النجوم وسط هذا الظلام الدامس، بهم يهتدى في متاهات الحياة، وهم الباقون من بعد الممات. وسواهم فانون ماضون مهما علت مناصبهم وكثرت نياشينهم وتصدروا عناوين الصحف والأخبار. ولما أدرك القوم هذه الحقائق وأبصروها عيانا، أخذتهم الغيرة، فراموا أن يقلدوا علماء الشريعة، ولو من دون رصيد علمي سابق، بل بمجرد خيال متوهج {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}. فلا تعجب إذا رأيت (عصيدا) وهو يتسربل بسرابيل الفقهاء في بعض مقالاته، ويشن الغارة على من (يحتكرون) معارف الشريعة دون غيرهم! كأن هذه المعارف كلأ ترعاه البهائم، ونهر ترده الأبقار! فهي إذن متاحة ل(كل) عاقل ولو لم يسمع بها قط!! ولا تعجب إذا رأيت (القمني) و(شحرور) و(الجابري) و(أركون) وعشرات المفكرين والكتاب الصحفيين ممن هم بمعزل كلية عن معين الشريعة وعلومها، لا تعجب إذا رأيتهم يلغون في هذا المعين، ويحاولون عبثا أن يسرقوه من أهله، فإن القوم عطشى، وأفئدتهم هواء، والعمر لا يسعف بالطلب، والغبن فاحش والخسارة عظيمة! الشيخ الفايد لا يخرج عن هذا السياق.