بطاقة: قدم علي زيعور، أستاذ التحليل النفسي والفلسفات النفسية، في أعماله ومؤلفاته، نتائج علمية مبهرة وجديدة في الفلسفة العربية الراهنة وحقول علم النفس والتحليل النفسي وعلم الاجتماع. اقترنت كتاباته بالمنهج التحليلي المتعدد التخصصات، مما سمح له بالنفاذ إلى الأفكار وواضعيها والأعلام والظواهر التاريخية في المجالين العربي والإسلامي، ضمن رؤية موسوعية تأخذ من حقول عدة. وقد أجرى صاحب "الفلسفة المحضة والفلسفات النفسية والطبيعية" دراسة «في العمق» لبعض «الحداثيين» يتقدمهم عالِم الإسلاميات محمد أركون (1928-2010) والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري (1935-2010)، بالاضافة إلى قضايا أخرى ترتبط بأطروحته في «فلسفة الوعي».
ثمة أسئلة كبرى تطرح على النخب الثقافية العربية التي كانت تقف، في بعض نماذجها القوية، على محك التنافر القطري، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافي الغربي. غير أن أطروحات كثيرة أنجزها مثقفون ومفكرون عرب ما زالت حتى الآن تطفو على السطح، لراهنيتها وقوة مضامينها، ذلك أن البلاد العربية ما زالت مستهدفة أكثر من أي وقت آخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث- بغض النظر عن تلك المرحلة التي كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسي والحضاري. في ما يلي حوارات فكرية مع بعض أعلام الثقافة والفكر في الوطن العربي.
p أود الانتقال من أبزر نظريات فلسفة الحداثة في المدرسة العربية الراهنة إلى إجراء قراءة لبعض "الحداثويين" العرب وسأترك لك حرية الاختيار. n تنفعنا قراءةٌ تحليليّة لِنفرٍ من "الحداثويّين" المغرقين في التأثُّر بالتصورات الغربية عن الغَرب والعرب؛ أو بالصورة التي يريدها الغربي للآخرين أو للفلسفة ومعنى البشريّ، ولمستقبلِ الحضارة في العالم؛ أو بالصورة والمعنى للعقل والأنوار، وللحرية والقَطْعِ مع الماضي والنقليّ، القديم والغابرِ أو التراثيّ والتاريخيّ. ليكُنْ محمد أركون عيّنةً مُمثّلةً للفكر المحلي، الخاصّ المخصوص، في فهم الإسلام والعقل الإسلامي؛ ثم في فهم "جماعة" محمد عابد الجابري للعقل العربي مُبَخَّسًا و"مرذولًا"، أي معتبراً حاجزًا وعائقًا بُنيويًّا أمام التقدم الحضاري، وإنتاج العلم والفلسفة والإبداعات المطِّورةِ للمسيرة البشرية. (...)استجلب الالتزامُ العام عند الطالب العربي في باريس حالة شابةٍ جزائريةٍ اسمها عائشة، كانت تعمل في فندق (جادة سان ميشيل، قرب السوربون) في أوائل الستينيات. بكت عائشة لأنها أُرغِمت على الاختيار بين تركِ عملها و(بين) التكثْلُك. لم أستطع أن أكون مفيداً؛ فأنا مُراقَب. والفرنسي ظالم يقسو بعنفٍ قاتمٍ وغير ناعم. وسبق أن ذكّرتْ حالة "جماعتنا" بحالة محمد أركون الذي كان يصعد على سُلَّم الأمجاد؛ وغير مهتمّ بالضعفاء. لا تفاصيل. ولا تفضيلات هنا بيننا وبينه؛ لكنّي أعود، للمرّة الثالثة ربما، إلى تذكُّر ردّ مُتَرجِم كُتب أركون، هاشم صالح؛ فقد قال (وأنا أسامحه): في انتقاد محمد أركون يجب أن تكون الأسلحة متكافئة. كان الحق مع أحدنا... غضب جورج طرابيشي؛ ولم يبتسم بشير الداعوق (دار الطليعة، بيروت، مجلة دراسات عربية) أمام نعومة "المعركة" غيرِ المكشوفة بيني كطالب في النفسانيات وبين أركون، المدرِّس في السوربون... أنا أعترف، اليوم، أنّي تسرَّعتُ يوم قلت عن هاشم صالح – أركون إنّهما دون كيشوت ودون سانشو دي بانثا، أو عنترة وشيبوب... الأهم، الذي بقيَ وسوف يبقى، أنّ البطل ومساعده نجحا جدًّا وجيداً. ولمرةٍ أخرى، أنا ندمت؛ وهاشم صالح رفض مرارًا وبِحدّة كل مصالحةٍ... والآن، لقد صار السؤال عن القول في الكنز الذي أهداه أركون للعربي، للمسلم الأوروبي، بل للإنسان في العالم الراهن. احتاج الفكر الإسلامي إلى عقل أركون ومناهجه، أي إلى رؤيةٍ متقدّمةٍ علمانيّةٍ وتقدُّميّةٍ تاريخيةٍ للدين. فهو قد أنتج بلغةٍ أوروبيةٍ انجازاً معرفيًّا أو تطويريًّا ذا مستوى رفيع، وحلّل موضوعاتٍ وقضايا تاريخية يحتاجها المسلم في فرنسا، وأوروبا، بل في العالم أو داخل الدار العالمية للدين والإيمان، وللأيديولوجيا، وللفلسفة الكونية والإنسان[i]. انتصر أركون في كل حقل: فهو قد هزم المستشرق والاستشراق، وغيّر الاتجاه الفلسفي الوسيطي، وقدّم الفكرَ الإسلاميَّ فكرًا عالميًّا وغير مُعادٍ للحرية والسلام، ولِما هو اقتصاد عالمي، وسياسة كونية، وحركات سلامَوية وسَلْماوية، حداثية وتنويرانية، اجتهادانية وإنسانوية، مؤنسَنة ومؤنسِنة... منتَجات أركون مميَّزة. وإنجازاته جديرة، وعالميةُ القيمةِ والمكانة والمستوى. لعلّها أجدى وأبقى وأهمّ من كتابات معظم اللاعبين على الساحة العربية – الغَرْبية الراهنة. ذاك نفسُه هو ما يدعونا إلى أن نبدأ هذه "التبصرة" أو الحوارية بالكلام على ما لم يحلله أركون، أو ما أهمل وأغفل. هنا نقول: لعل الإستنفاع لم يكن قليلاً إذا قرّبنا بين المناهج أو العقل الإنتاجي عند المؤلف الموسيقي، وعند الحارث أو الزارع في حقول الفلسفة والفكر، والتصوّفات السياسيةِ الاجتماعية، كما الإستسراريّة أو النفسيّة والمعرفيةِ بل العرفانية. إنّ طرائق التفكير أو التوليد أو الصُّنع الفني والموسيقي عند بليغ حمدي أو الموجي أو محمد عبد الوهاب، كشاهد، هي عينها ما اعتمده في الزمان عينه علي سامي النشار أو إبراهيم مدكور، مصطفى زيوَر أو عبد الرحمن بدوي. بعد ذلك، الأهم في صدد المنهجية، في قواعد العمل والحَرْث، عند الملحِّن والفيلسوف، هو أنْ نتعلّم اعتماد المتخيَّل أيضًا، والتحرر التلقيني والتلقي... وهذا كلّه بغير أن يعني ذلك أنّهما يُغمِضان العين عن إعطاء المكانة الأولى للمناهج المألوفة الناجحة إنْ في العلوم الوضعيّة (الطبيعيّة، الدقيقة...) وإنْ في علوم الإنسان داخل المجتمع ومغروساً في الوجود والتاريخ أو في الطبيعة والثقافة. قد يُسأل عن رأيِ ((من)) لا يَنْظر بعينٍ واسعة هنيّةٍ إلى ما قيل إنّه تكرار محمد أركون لنفسه؛ ومن ثم في مؤلفاته المتنوّعة الحقول. ذاك تكرار يقال أيضاً عن الجابري، والعروي، وبخاصة حسن حنفي وأصحاب العقلانية والتفسيرانية، وجماعة المدرسة العربية في الفلسفة والتصوف كما في الفكر والرقم والمستقبلانية (فلسفة المستقبل الاستراتيجيّة، الكونيّة). إنّ تكرار الأفكار، في الحالة الراهنة للفكر، لا يعني تبسيطها وتمييعها؛ أو لا يعني السرعة، وبالتالي الإهمال والإستسهال والإسالة. أو التسييخ يستحق أركون الشهرة التي نالها. طالما كررتُ، أنا، هذا الحكم. فالرّجُل قد درس الثقافة العربيةَ الإسلامية وأدواتها العقليّة تبعاً لطرائق المقارنة بين "الغربي" والإسلام (العقيدة، التاريخ، الرِّجال العِظام، الخبرة، الحضارة...) وهو علماني وتاريخاني، "وجهازُ مقارنة"، "وأدواتُ" تحليلٍ وتفسير ومرونة... وأعماله مترابطةٌ متماسكة، نافعة ومفيدة، منفتحة ونقديةُ المنزِع والمقصد، كما الغرضِ والرؤية. يوضع أركون، بحسب ما أكّدته وزخّمته المدرسةُ العربية الراهنة في الفلسفة، بين خاموس أو سادوسِ كبارِ الفكر العربي الراهن الذي سبق أن صقلنا الخطاب الفصل في أنّهم، جميعهم أو برمّتهم، برعوا في مناصرة النظريات الفلسفيّة الموصوفةِ المميَّزةِ بتأجيجها وتحرّكها بالقيم السلامويّة والسّلمانية، الحداثانية والتنويرانية، الكونية والإنسانوية، والكينونية والمسكونية، العالمية والعالَمينية... وفي مطلق الأحوال، إنّها لَضَرورية ثم نافعة هي هذه "الأفكار" العريضة الباسقة، الأشمل والأوسع أو المعتبرة بمثابة الأقدر والأبقى والأصلح، والمفسّرة لكل شيء في الوجود والتاريخ. في عبارةٍ أقصَر، إنّه ممكنٌ ثم صالحٌ الإسرافُ نفسه في تفضيلِ العقلانية والقيمِ الإنسانوية، وتكريم الفكر المتوقِّد المتأجّج، المتوهّج. p في الكتاب الأخير لمحمد أركون "قراءات في القرآن" ثمة حوار أُجري معه لم يتم فيه الإشارة إلى المُحاور بحيث نُسب ذلك في الهامش إلى أحد الطلاب، ما هو برأيكم السبب وراء التجهيل؟ n السؤال الأصح هو كيف استنتجنا، إنْ لم نقل كيف افترضنا اسمَ الطالب المحاوِر لأركون. بل لماذا لم يورِد أركون اسم ذلك الطالب، واكتفى بإيراد أسئلةٍ يودّ أركون نفسُه أن تُلقى عليه، وأن يضع أجوبةً عنها جيدة، مُعتنىً بها وحلوة؟ في الواقع، لم يجْرِ حديث، لا قديماً ولا جديداً، بيني وبين أركون. فأنا نفساني يحلِّل الخطاب، والشخصيةَ أيضاً، وبخاصة عند شخصياتٍ مؤثِّرة، فلسفية هي أو نفسانيّة، واجتماعيّة أو تاريخيّة. كنتُ طالبًا مراقَبًا زمان كان أركون يطال فيه النجوم. وكان شائعاً أنّ أركون غير ودود، غير انبساطي، أي أنّه كان من النمط الانكفائي وما قد يلحق بهذا النمط من صفاتٍ غير تعاونية، ووجهٍ أو سلوك يستكفي بما عنده ويشبه الإستعلائيّين؛ كأنّ فيه قسوة "الماكيزار" الجزائري حينذاك. لم يكن لشخصٍ من هذا القبيل، ربما، أن يُحِب ويَعشق، أن يرتاح أو يهنأ، أن ينفتح على صداقاتٍ أو يقيم تعاطفاً. هذا لا يفيد أنّي لم أحترم موقعه ومُنجَز. ومرّ أنّي قد أكّدتُ أنّه باحثٌ مفيد. وعَمِل بدقةٍ؛ وبصرامة لازمته طيلة عمره. قد ينفعنا، إلى حدٍّ ما، النظر في طرحٍ آخر للطالب المحاوِر منسِيِّ الاسم، مجهول الهوية. الجواب، كالسؤال، شأنٌ غير ميسور؛ والتبسيط يقتله. الأهمّ هو أنّي، كما ذكرتُ في قراءتي القديمة لأركون، سألتُ كثيرًا، في جلسة حوارٍ أكاديمي، أحد الزملاء، مهدي فضل الله، الذين كانوا يشكون من "جلافةٍ" (!) أو عدم لطافةٍ، عند أركون، في استقباله الطلّاب الراغبين في الإفادة منه كمشرفٍ على رسائل دكتوراه الدولة بعد أن دخلوا سلك التدريس الجامعي... ردّ الزميل على سؤالي الأوّل بالقول: كلا! لم ألاحظ أنّه يتبسّم أو "يتنازل". كان كالمتعنّت. كان عاجزاً عن أن يبدو مبتهِجاً، طليق المُحيَّا، بشوشاً، استقباليًّا واستضافيًّا.