غالبا ما أصادف منشورات تستنكر الانتشار الواسع للمحتويات الهابطة والرديئة، وأحياناً يتم هذا الاستنكار من خلال التعليق على محتوى هابط أو مشاركته، تعبيراً عن الامتعاض منه. والمفارقة أن مَن يستنكرون هذا المحتوى هم مستهلكوه ومروجوه، وأن الاستنكار بهذه الطريقة هو إسهام في نشره. وأما محاربة هذا المحتوى فيكون بالإعراض عنه، والتبليغ عنه كلما اقتُرحت عليك مشاهدته. فلم يعد الأمر كما كان مع التلفاز، حيث يُفرض عليك المحتوى فرضاً، فإما أن تشاهده أو تغلق التلفاز، بل أصبح المشاهد هو الذي يقرر ما الذي يشاهده وما الذي لا يشاهده. من المؤكد أنه كما توجد محتويات هابطة، توجد كذلك محتويات هادفة، لكن التافه دائما يجد جمهورا أوسع وأكبر من المحتوى الهادف والمفيد. وأي محتوى حين يحقق مشاهدات كبيرة، تقترحه مواقع التواصل الاجتماعي على مزيد من المشاهدين، فيزداد انتشارا واشتهارا. وبذلك فأنت حين تشاهد هذا المحتوى لا تُسهم في انتشاره فقط لأنك أضفت مشاهدةً إضافية له، بل وأيضا لأنك تدفع خوارزميات هذه المواقع لاقتراحه على أشخاص لهم نفس اهتمامك، فيشاهده آخرون بسببك. وواقعاً، حين ينتشر المحتوى الهابط، فإن المحتوى الهادف تلقائيا ستقل مشاهدته، ومع استمرار قلة المشاهدات سيتوقف المحتوى، لأنه من غير الممكن أن يستمر المرء في إنتاج محتوى لا يحقق نسبةً من المشاهدات تبرر الجهد المبذول في إعداده وإنشائه. وهكذا، من دون وعيٍ منا، نسهم في انتشار التافه والرديء واندثار الجيد والمفيد. ولذلك حين تجد صانع المحتوى يبالغ في شكر المشاهدين والمتابعين، فلأنه يَعي ويدرك أن المتحكم في نجاح أو فشل المحتويات هو المشاهد، مهما كانت طبيعتها وتصنيفها، جيدة أم رديئة، هادفة أو هابطة. والذي يترتب عن هذا أن صنَّاع المحتوى الناشئين والمبتدئين، عندما يرون أن نوعاً معينا من المحتوى يحقق مشاهدات عالية، فإنهم يتوجهون إليه رأساً، خاصةً أنه يعينهم في تحقيق شهرةٍ سريعةٍ، وربما دخلٍ سريع. وبمنطق السوق، فهم يَعرضون ما يطلبه المستهلك بكثرة. وبذلك تتناسل وتتكاثر المحتويات التافهة حتى أصبحتْ تغزو سوق صناعة المحتوى على الأنترنت. في حين أن المحتويات الهادفة يُحكَم عليها بالفشل منذ البداية، لأنها لا تلقى ذلك الإقبال المطلوب، ولا تتم مشاركتها على نطاق واسع. وتبعاً لما سبق، سيكون من المفيد جدا، قبل أن نطالب الجهات الإدارية والقضائية بإيقاف نوعٍ معين من المحتويات، أن نعي أننا نحنُ من نسهم في انتشاره، وأننا أصحاب القرار في إبادته إن أعرَضنا عنه. وكَمْ أُمِيتَ الباطلُ بالسكوت والإعراض عنه.