الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين. العلاقة بين سكان شنقيط وسلاطين المغرب علاقة وثيقة.. فقد كان السلاطين في المغرب يمثلون السلطة الدينية بالنسبة لبلاد شنقيط وما جاورها من بلاد السودان. وأحيانا يخضع الناس في هذه البلاد لسلطة محلية تفرض نفسها بالقوة، لكن ولاءهم لسلاطين المغرب لم ينقطع أبدا، لكونهم يمثلون السلطة الدينية، وهم محل البيعة الشرعية، فالأئمة من قريش، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (فو ببيعة الأول فالأول). لقد كان هذا الولاء مدفوعا بقناعة شرعية وممزوجا بعاطفة جياشة نحو البيت الشريف الذي ينتمي إليه سلاطين المغرب.. ولهذا يقول ابن رازكه في مدح الأمير محمد العالم الذي كان حاكما على السوس: وِدادُكَ في مَشيجِ دَمي وَلَحمي…. وَفي عَظمي وَفي ضاحي أَديمي فالعلاقة بين سكان شنقيط وسلاطين المغرب كانت علاقة دينية بالدرجة الأولى قبل أن تكون علاقة سيطرة وغلبة.. ولهذا نلحظ استمرار هذا الولاء حتى في الفترات والأماكن التي يضعف فيها نفوذ السلاطين. كانت بلاد شنقيط مجرد صحراء ومعظم أهلها من البدو الرحل، وكانت المدن الموجودة فيها -على قلتها- مدنا صغيرة وكثافتها السكانية منخفضة جدا، فكانت أشبه ما تكون بالقرى الريفية الصغيرة، وكانت تعتمد على الاستهلاك والاستيراد أكثر مما تعتمد على الصناعة والإنتاج.. وفي بيئة بدوية كهذه إضافة إلى بعد المسافة لم يكن من الضروري بالنسبة للسلطة المركزية في المغرب الحضور الدائم في الصحراء والفيافي من أجل فرض النظام على البدو الرحل والتعامل معهم بالطريقة نفسها التي تتعامل بها مع سكان المناطق الحضرية والمدن الكبرى القريبة من مركز السلطة.. ولهذا كان سلاطين المغرب يكتفون من بسط النفوذ على هذه المنطقة بالزيارات المتكررة والتواصل مع السكان، وقضاء حاجتهم في ما يرفعون إليهم من أمور.. ولم يكن هناك أي سلطة شرعية تنافسهم في السيطرة على هذه المنطقة.. بل كانت الممالك السودانية المسلمة تخضع لهم وتقر لهم بالولاء والبيعة الشرعية.. وهناك مجموعة من الشواهد التاريخية التي تدل على ولاء أهل شنقيط لسلاطين المغرب وتبعيتهم لهم، ومن هذه الشواهد: أولا: حفاوة أهل شنقيط بسلاطين المغرب والترحيب بهم في كل جولة وزيارة يقومون بها لهذ المنطقة النائية.. ويحدثنا المؤرخ المغربي شهاب الدين أحمد بن خالد السلاوي (المتوفى: 1315ه) عن رحلة المولى إسماعيل التي وصل فيها إلى بلاد شنقيط، ويصف لنا مدى الحفاوة التي استقبل بها الشناقطة سلطان المغرب فيقول: (ثمَّ دخلت سنة تسع وَثمانين وألف فيها غزا السُّلطان الْمولى إِسْماعيل صحراء السوس فبلغ آقاوطاطا (لعله يقصد: آفطوط) وتيشيت وشنكيط وتخوم السودان فقدمت عليه وفود الْعرب هنالك من أهل السَّاحل والقبلة ومن دليم وبربوش والمغافرة وودي ومطاع وجرار وغيرهم من قبائل معقل وأدوا طاعتهم وكان في ذلك الوَفد الشَّيْخ بكار المغفري والد الْحرَّة خناثى أم السُّلْطان الْمولى عبد الله بن إِسْماعيل فأهدى الشَّيْخ الْمذْكُور إِلى السُّلْطان ابنته خناثى المذكورة وكانت ذات جمال وفقه وأدب فتزوجها السُّلْطان رحمه الله وبنى بها وجلب في هذه الغزوة من تلك الأقاليم أَلفين من الحراطين بأولادهم فكساهم بمراكش وسلحهم) الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى(58/ 7). فكيف يقال بعد هذا إن المغرب لم يجب إليها خراج من بلاد شنقيط؟ ويحدثنا السلاوي أيضا عن رحلة السلطان ملاي الحسن التي عاصرها فيقول: (في شعبان الأبرك عام ثلَاثة وثلاثمائة وَألف – تجاوز السُّلْطان (ملاي الحسن) أيده الله قطر السوس الأقصى إِلى صحراء كليميم فوفدت عليه هناك أشياخ عرب معقل وكبراؤها خاضعين مطيعِين وفرحوا بمقدم السُّلْطان ووطئه بلادهم غاية الفرح حتَّى لقد اتَّخذوا موضِع خبائه الَّذِي كان مضرُوبا به مزارا يتبركون به إِلَى الْآن إِذْ لم يكونوا هم ولَا آباؤهم من قبل رَأَوْا سُلْطَانا بأرضهم وَلَا سمعوا بوصوله إِليها وأجروا خيولهم وإبلهم بمحضره ولعبوا عليها بالبارود إِذْ عادة عرب الصَّحراء أَن يسابقوا على الْإِبِل كما يسابقون على الخيل) الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (181/ 3). وتأمل قوله: (فوفدت عليه هناك أشياخ عرب معقل وكبراؤها خاضعين مطيعِين)، فإنه يدل على مبايعة أهل هذه المنطقة للسلطان. وهذه المنطقة المذكورة معدودة في بلاد شنقيط. وقد ذكر أحمد الأمين في "الوسيط" حدود شنقيط من جهة الشمال فقال: (ويحدها شمالا الساقية الحمراء وهي تابعة لها) الوسيط، ص:( 422). بل إن بعض الشناقطة كان ينسب نفسه إلى أرض السوس، ومن ذلك قول العلامة لمجيدري مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل الى مسجده: وجئت من أرض السوس خائفا وجلا حتى دخلت حمى شباكك العالي. وقد كان لهذه الجولة التي قام بها السلطان (ملاي الحسن) أثر عظيم في نفوس الشناقطة ويظهر ذلك من خلال الانتشار الواسع لاسم (ملاي الحسن) في بلاد شنقيط بعد هذه الزيارة، ولم أقف على من تسمى بهذا الاسم من الشناقطة قبل هذه الزيارة. ومن الأدلة على ولاء سكان شنقيط لسلاطين المغرب أنهم كانوا مهتمين بأخبارهم ومتابعين لها.. ومن ذلك ما ذكره صاحب "فتح الشكور" (ص :45): من أن الفقيه المحدث الشيخ احمد بن الشواف بن حبيب الله بن احمد بن حبيب الله الوداني الحاجي تنبأ بوفاة المولى اسماعيل ملك المغرب فوجدوه كما قال. ثانيا : الشناقطة كانوا يعتبرون أنفسهم من رعية سلطان المغرب ويصرحون بذلك.. فقد ذكر أحمد الأمين في "الوسيط": (أن محمد بن محمد العلوي خرج إلى مراكش رفقة ابن عم له ونزلا عند محمد الأمين بن أبي ستة وكان من المقربين عند السلطان ملاي عبد الرحمن وطلبا منه أن يخبر السلطان بقدومهما ولما ابلغ ابن ابي ستة خبرهما الى السلطان أمر بإحضارهما فلما سلما عليه واستقصى خبر الجهة التي قدما منها انشد قصيدتيه الآتيتين وكان السلطان رحمه الله شديد الاهتمام بأقصى المسلمين من أهل مملكته حتى إنه يعلم أهل الخير من كبار أهلها وأهل الشر) الوسيط، ص: 51. فهذه شهادة صريحة من أحمد الأمين-وهو من أعرف الناس بشنقيط – بأن الشناقطة يعتبرون من ضمن رعية سلطان المغرب. وكما أن الشناقطة يقرون بأنهم من رعية سلاطين المغرب، فإن سلاطين المغرب يقرون أيضا بأن الشناقطة من ضمن رعيتهم.. وقد ذكر في الوسيط (ص: 423) أن بعض أهل المشرق أنكر دخول الشناقطة في وقف المغاربة فسافر الشيخ عبد الرشيد الشنقيطي من المشرق متوجها إلى فاس لأخد شهادة السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وصدق له السلطان على أن الشناقطة من المغاربة. وهذا التصديق لا يصدر من السلطان إلا إذا كان يعتبر الشناقطة من رعيته وما خرج الشيخ عبد الرشيد الشنقيطي من المشرق متوجها إلى فاس لأخذ شهادة هذا السلطان دون غيره إلا لعلمه أن الشناقطة من رعيته. ثالثا: العلماء والشعراء الشناقطة حينما يمدحون سلطان المغرب يخلعون عليه أوصاف الإمامة والخلافة بما يشعر بمبايعته والتبعية له.. ومن أمثلة ذلك: قول معاوية بن الشد التندغي في مدح السلطان ملاي اليزيد بن السلطان سيدي محمد بن عبد الله بقصيدة طويلة منها: لا واهب أنفسَ ما ملكه…إلا الأمير بن الأمير المعتلي خليفة الله وبابه هم … أهل الخلائف على التسلسل وقال محمد بن محمد العلوي يمدح السلطان ملاي عبد الرحمن ويصفه بلفظ (إمامنا): إني كفيل بنيل السؤل لي ولكم … إما بمراكش المحروس أو فاس أمامنا في كلا المصرين نورهما … إمامنا المستماح المطعم الكاس خليفة المصطفى وهو ابن بضعته ثوبا من المجد لم يعلق بأدناس الله منك حقوق الناس قلدها … يقظان لا غافل عنها ولا ناس عمرت عمرت من عهد الشريعة ما.. باض النعام بدور منه أدراس داركتها بعدما مالت دعائمها … فاستحكمت واطمأنت فوق آساس ويصفه بالخليفة في قوله: خليفة مصباح الهدى وحفيده … ومحيي عافى ربعه المتقادم غيور على بيضاء سنته التي … أبيحت لها لولاه كل محارم فكم غض عنها طرف من رام طرفها … بغض وكم قد كف من كف ظالم حماها حماه الله أن تستبيحها …من أعدائها دهم الدواهي الدواهم أنام عيون الناس تحت عدالة … وقت رجل سار الليل لدغ الأراقم على جده في كل بدء ومختم.. مبادي صلاة مالها من مخاتم ولا يفوتهم الدعوة إلى طاعة ملوك المغرب اتباعا لسيرة الآباء والأجداد، كما قال ابن رازكه في مدح محمد العالم: فَأُمَّ كَوالِدَيكَ بِوالِدَيهِ… بِهِ أَمَّ الصِراطِ المُستَقيمِ وفي الوقت نفسه كان السلاطين في المغرب يكنون منزلة خاصة لشعر الشناقطة وفي ذلك يقول الأميرمحمد العالم: أتانا من قرى شنيقط شعر…تعالى فوق سحر الساحرين يقصر شعرنا عنه لو انا …بعثنا في المدائن حاشرينا رابعا: وبما أن الشناقطة كانوا يعتبرون من ضمن رعية سلطان المغرب فقد كان من الطبيعي أن يكون لهم دور وتأثير في السياسة والشؤون العامة ومن أمثلة ذلك: 1- أن العلامة الشنقيطي محمد الاغظف بن أحمد مولود الجكني اتصل بالسلطان الحسن بن محمد سنة 1311ه/ فأعجب به، واتخذه معلما لأهل بيته من الأمراء وكان من بين تلاميذه من الأمراء الأمير عبد الحفيظ. والمكانة السامقة التي وصل إليه العلامة محمد الاغظف من بين علماء المغرب أهلته لحمل لواء الفتوى القاضية بخلع المولى عبد العزيز بن الحسن ومبايعة أخيه المولى عبد الحفيظ الذي هو تلميذه سنة 1320ه، وقدعينه المولى عبد الحفيظ بعد توليه الحكم مفتيا للديار المغربية. 2- الفقيه الشنقيطي (محمد المامون) بعد ان امضى فترة بفاس انتقل إلى تازة سنة 1910 فجلس للتدريس بها ثم انخرط في صفوف المقاومة والجهاد ضد الفرنسيين. واصيب بجروح في إحدى المعارك سنة 1913، ثم تمت مبايعته سلطانا للجهاد من قِبل قبيلة غياتة واكًزناية وبني وراين ومطالسة والبرانس والتسول...، فكان يوقع رسائله ب"سلطان ملوية وتازة والنواحي". وبعد مبايعته استقبلته قبيلة مطالسة واكًزناية وولاد بوريمة ومغراوة في منطقة سيدي بلقاسم. وعندما انضمت إليه كافة قبائل تازة علم الفرنسيون بخبر التفاف قبائل تازة حوله واعتبروه خطراً حقيقياً، وسعوا الى القضاء عليه. وإلى جانب ما أسهم به من مقاومة لسنوات بعد احتلال تازة، ورد أنه شارك في ثورة الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي ضد الاحتلال الإسباني، قبل إلقاء القبض عليه في بورغة غير بعيد عن فاس عام 1925 من قِبل السلطات الفرنسية، ثم طلق سراحه وعاد إلى تازة من أجل التدريس. ثم توجه إلى العيون سنة 1934، وتفرغ للتدريس حتى وفاته رحمه الله عام 1966 انتهى بتصرف من مقال بعنوان :(تازة .. الشنقيطي رمزيةُ وطنيةٍ وذاكرةُ مَوطِن) للباحث: عبد السلام انويكًة. 3- احمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين عقدت معه قبائل السوس والصحراء البيعة كأمير للجهاد ضد المستعمر ودخل بقواته مدينة مراكش وأعلن سلطانا على المغرب في 17اوت 1912 فأرسلت فرنسا جيشا لمقاتلته لكنه انتصر على هذا الجيش ثم أرسلت له جيشا أكبر من ذلك فهزمه هذه المرة في معركة سيدي بوعثمان عام 1916 وفر من مراكش لكنه واصل ثورته وتحصن في تارودانت فطاردته القوات الفرنسية حتى وصل الى تيندوف فهزمهم ثم جهزت له فرنسا جيشا بقيادة كورو فاستطاع الأخير أن ينتصر على أحمد الهيبة، وكانت وفاة أحمد الهيبة عام 1919 4-محمد محمود البيضاوي الشنقيطي عين باشا في مدينة تارودانت وبها توفي عام 1945كما ذكر الخليل النحوي في "بلاد شنقيط بلاد المنارة والربط". 5- ومن صور تأثير علماء الشناقطة في توجهات بعض السلاطين في المغرب أن العلامة لمجيدري ولد حبيب الله كانت له علاقة وطيدة بالسلطان سيدي محمد بن عبد الله، وكان الشناقطة أخوال السلطان فجدته لأبيه هي خناثه بنت بكار السابقة الذكر. وقد كان العلامة لمجيدري ينتقد دراسة كتب الفروع ويدعوا إلى دراسة الأصول، وقد صنف في ذلك كتاب: "السراج الوهاج في تبيين المنهاج"، وكان معجبا بالمحلى لابن حزم وقام بنظمه. ويبدو أن السلطان سيدي محمَّد بن عبد الله تأثر بمنهج العلامة لمجيدري فقد ذكر السلاوي أنه كان ينتقد الِإعراض عن الأصول والأمهات المبسوطة، حيث قال: (ومن عجِيب سيرته رحمه الله((أي السلطان سيدي محمَّد)) أَنه كان يرى اشْتغال طلبة الْعلم بقراءة المختصرات فِي فن الْفقه وغيره وإعراضهم عن الْأُمَّهَات المبسوطة الْواضِحة تضييع للأعمار في غير طائل وكان ينهى عن ذلك وَلَا يترك من يقرأ مختصر خلِيل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما ويبالغ فِي التشنيع على من اشْتغل بِشيء من ذلك حتَّى كاد النَّاس يتركون قراءة مختصر خليل) (الاستقصا ج 4 ص 120). خامسا: كان أهل شنقيط دائما يعتبرون سلطان المغرب مسؤولا عن حمايتهم ويفزعون إليه كلما ألمت بهم نازلة طالبين منه المدد والعون. فعندما حل الأوروبيون بالبلاد طلبا للصمغ وظهرت نواياهم الاستعمارية أطلق الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي الإبييري صرخة تحذير لأهل شنقيط من هيمنة الاوروبيين على البلاد يحضهم فيها على الاستعانة بسلطان المغرب فقال: حماة الدين ان الدين صارا .. أسيرا للصوص وللنصارى فإن بادرتموه تداركوه .. وإلا يسبق السيف البدارا بان تستنصروا مولا نصيرا … لمن والى ومن طلب انتصارى مجيبا دعوة الداعي مجيرا… من الأسواء كل من استجارا ومحمد بن محمد العلوي له أبيات تدل على أنه يستنجد بالسلطان ملاي عبد الرحيم لإطفاء لهيب فتنة وقعت بين أبناء شنقيط حيث يقول: ودارك بالنجاة دماء غرقى … قد اقتحموا بما اقتحموا بحارا أطاعوا أمر غيهم ولجوا … غرورا في عمايتهم سكارى فانهم وإن شحطت نواهم … لجارك فارع حق من استجارا رعاك الله من راع نصيح … رعاية من قد أودع واستعار وبارك فيك ربك من خديم … قد أحسن في أوامره ائتمارا والسلطان سيدي محمد بن مولاي عبد الرحمن راسله الشيخ سيديا الكبير طالبا منه العون العسكري أثناء حرب محمد لحبيب أمير الترارزة مع النصارى. وقد ذكر هذه الرسالة د.سيدي أحمد بن أحمد سالم في تعليقه على "حياة موريتانيا حوادث السنين" للمختار بن حامد، ص:532 وعندما دخل الفرنسيون البلاد سارع الشناقطة الى الاستعانة بسلطان المغرب من أجل صد عدوانهم. وفي ذلك يقول أحمد الأمين: (ولما اراد الفرنسيون احتلال شنقيط وصحراءه أرسل إليهم الشيخ ماء العينين يحضهم على الدفاع ويمنيهم بمساعدة السلطان لهم وكانوا يعتقدون ان السلطان اقوى من الفرنسويين فبعض القبائل سالمهم وبعضهم جعل يقطع عليهم الطريق ويحاربهم من بعيد بالهجوم ليلا ونحو ذلك ثم ان الشيخ بعث إليهم أحد أشراف فاس وأخبرهم بأنه هو خليفة السلطان عليهم فقدموا اليه من كل الجهات) الوسيط، ص:366. وقوله: (أخبرهم بأنه هو خليفة السلطان عليهم) فيه تصريح بأنهم كانوا مقرين بالتبعية للسلطان وراضين بها. ولم يكن من الغريب ان يدعي أحد في شنقيط انه نائب عن سلطان المغرب؛ فقد قيل بأن "ابن رازكة" حكم بقتل أشخاصٍ بسبب سبّهم لأبيهِ. فقال الشيخ محمد المامي في تعليل ذلك: أن ابن رازكة يعتبر نفسه واليًا من قبل سلطان المغرب (أنظر: محمد سعيد بن دهاه مقدمة "ديوان بن رازكة" ص22/23). وقال أحمد الأمين أيضا في "الوسيط" عند ذكر وفود (غز الاركاب) القادمة من شنقيط لطلب المعونة من سلطان المغرب على مقاتلة الفرنسيين: (قدم الشيخ ماء العينين من الساقية الحمراء في جموع كثيرة ليأخذ لهم المؤونة والسلاح من السلطان ملاي عبد العزيز وكان إذ ذاك برباط الفتح فلما وصل الى نواحي مراكش بلغه ان أهله بايعوا ملاي الحفيظ وان اهل المغرب ناقمون على أخيه السابق. وتعرض بينه وبين ملاي عبد العزيز بما أمكنه الا ان يبايع ملاي الحفيظ فقدم مراكش بمجموعة وبايع واحتفل به السلطان وأكرمه) الوسيط، ص: 367. وهذه الجماعة التي رافقت الشيخ ماء العينين وبايعت معه السلطان فيها كوكبة من شيوخ قبائل شنقيط. 6- وكما: كان السلاطين في المغرب هم الحصن الذي يأوي إليه الشناقطة لصد كل عدوان لأنهم هم المسؤولون عن حماية البيضة، كانوا أيضا هم الوجهة التي يقصدونها طلبا للإعانة في أمور الشرع لأنهم هم المسؤولون عن حماية الدين. ولهذا كان من أراد من العلماء الحج يأتي إلى السلطان في المغرب فيجهزه. ومن أراد منهم بلغة لطلب علم أو توفير ما يحتاج من كتب يأتي إلى السلطان في المغرب فيوفرها له. وقد بعث سلاطين المغرب إلى بني ديمان خزانتين من الكتب: الخزنة التي بعث بها سلطان المغرب مولاي إسماعيل، والخزانة التي بعث بها إليهم أيضا السلطان محمد بن عبد الرحمن حفيد السابق، وقد قدم بها ابن المقداد الفاسي.. وفي ذلك يقول الشيخ محمد المامي في الدلفينة: وساعدت كتب السلطان دولتهم…. فهم بحور أمدتها الطوافين. 7- كان اسم (المغرب) هو الانتماء السياسي لسكان شنقيط. وأما اسم (شنقيط) فلم يكن يدل على انتماء سياسي لأنها لم تكن مركزا سياسيا وإنما كانت مركزا تجاريا (قبل ضعفها بسبب الفتنة التي وقعت بين أهلها)، وكانت محلا لانطلاق القافلة السنوية الذاهبة إلى الحج، وهذا هو سبب شهرة اسم شنقيط عند أهل المشرق وعند كل من تمر بهم القافلة. وأما حين ينتسب أهل شنقيط سياسيا فإنهم ينسبون أنفسهم إلى المغرب، وعلماء هذا القطر كثيرا ما ينسبون أنفسهم إلى المغرب أو يسمون البلاد بهذا الاسم، ومن أمثلة ذلك: 1- يقول التجاني بن بابا أحمد في "منية المريد": قال ابن بابا العلوي نسبه المغربي المالكي مذهبه 2- حرمة بن عبد الجليل بن القاضي العلوي المغربي". هكذا يؤرخ له الولاتي في "فتح الشكور". 3- يقول الغلاوي في نظم بوطليحية: والاجتهاد في بلاد المغرب …. طارت به في الجو عنقا مغرب. وهو يقصد طبعا أن هذا الحكم يشمل بلاد شنقيط. 4-قال المولود بن اغشممت المجلسي: هذا وقد شاع بأقصى المغرب …هجر الوضوء لا لخوف العطب وهو هنا ينتقد عادة هجر الوضوء التي انتشرت في بلاد شنقيط، وربما وجدت بعض الفتاوى التي تدعم ذلك كما قال العلامة عبد الله بن أحمد بن الحاج احماه الله الغلاوي: ولم يجز لأحد وعمم… في الحوض مطلقا سوى التيمم ضَرر ماء صح عن تجريب… بخبر العالم والطبيب. 5- قال أحمد الأمين في الوسيط: (شنقيط من المغرب على ما كنا نعهد، وذلك معروف عند شنقيط وعند أهل المغرب) الوسيط، ص:422 والبعض يعتقد بأن هذه النسبة إلى بلاد المغرب المقصود بها المغرب العربي بشكل عام.. وهذا خطأ.. لأن الانتماء السياسي إنما يكون للسلطة التي يتبع لها البلد، وبعد سقوط دولة الموحدين انقسم المغرب العربي الى ثلاث دول هي: ا-الدولة الحفصية في المغرب الأدنى. ب-الدولة الزيانية "بنو عبد الواد" في المغرب الأوسط. ج-الدولة المرينية في المغرب الأقصى. وانتماء الشناقطة إنما هو للمغرب الأقصى دون غيره، لقربه ولأنه هو الذي يتبع له بلدهم. وأما بعد تبعية المغرب الأدنى والأوسط للخلافة العثمانية فقد أصبح مصطلح المغرب يطلق في الغالب على المغرب الأقصى دون غيره. **** فهذا كله يدل على أن ولاء سكان شنقيط لسلاطين المغرب حقيقة ثابتة لا تقبل التشكيك، وإذا كان بعض العارفين بالتاريخ من المعاصرين لا يريد أن يصرح بهذه الحقيقة فإن د. شوقي ضيف يقولها بشكل واضح: (وظلت البلاد -أي بلاد شنقيط منذ المنصور الذهبي تستشعر شيئا من الولاء لدولة السعديين في المغرب الأقصى ثم لدولة العلويين؛ وما زالت حياتها على النحو الذي قدمناه الى ان داهمتها القوات الفرنسية ووضعتها تحت الحماية) تاريخ الأدب العربي-عصر الدول والإمارات، ص:552.