يقول الراغب الأصفهاني: البلاء: المبالغة في الاختبار، كأنك أبليته وأخلقته من كثرة ما اختبرته به، ولذلك يقال: بليت فلاناً أي خبرته[1]. وأصل"البلاء" في كلام العرب: الاختبار والامتحان، ثم يستعمل في الخير والشر؛ لأن الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشر، كما قال ربنا جل ثناؤه: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 168]، وكما قال جل ذكره: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35]، ثم تسمي العرب الخير"بلاء" والشر"بلاء"، غير أن الأكثر في الشر أن يقال: "بلوته أبلوه بلاء"، وفي الخير: "أبليته أبليه إبلاء وبلاء"، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم **** وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو فجمع بين اللغتين، لأنه أراد: فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده[2]. وفي قوله تعالى: وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم، فسر غير واحد قوله"بلاء": نعمة، أي أنها نعمة عظيمة. ومن ذلك قول القرطبي (ت:671ه) في تفسير هذه الآية: و"بلاء" نعمة، ومنه قوله تعالى: وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا [الأنفال:17]، قال أبو الهيثم: البلاء يكون حسنا ويكون سيئا، وأصله المحنة، والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره، فقيل للحسن بلاء وللسيئ بلاء، حكاه الهروي[3]. وكذلك قال الشوكاني في فتح القدير (ت:1250ه): البلاء أصله: المحنة، ومعنى نبلوكم: نمتحنكم لنختبركم هل تصبرون على القضاء أم لا؟[4] يقول البغوي (ت:510ه) في تفسير قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي: ولنختبرنكم يا أمة محمد، واللام لجواب القسم، تقديره والله لنبلونكم، والابتلاء من الله لإظهار المطيع من العاصي، لا ليعلم شيئا لم يكن عالما به[5]. يضيف ابن كثير في تفسيره قائلا: أخبر تعالى أنه يبتلي عباده المؤمنين، أي: يختبرهم ويمتحنهم، كما قال تعالى: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [محمد: 31] فتارة بالسراء، وتارة بالضراء من خوف وجوع، كما قال تعالى: فأذاقها الله لباس الجوع والخوف [النحل: 112]، فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه؛ ولهذا قال: لباس الجوع والخوف. وقال هاهنا بشيء من الخوف والجوع أي: بقليل من ذلك ونقص من الأموال أي: ذهاب بعضها، والأنفس كموت الأصحاب والأقارب والأحباب، والثمرات أي: لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها. كما قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة. وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده، فمن صبر أثابه الله ومن قنط أحل الله به عقابه. ولهذا قال: وبشر الصابرين[6]. وفي قوله تعالى: بشيء من الخوف قال الزجاج: ولم يقل بأشياءَ، فإِنما جاءَ على الاختصار، والمعنى يدل على أنَّه وشيءٍ من الخوف وشيءٍ من الجوع وشيءٍ من نقص الأموال والأنفس، وإِنما جعل الله هذا الابتلاءَ لأنه أدْعى لمن جاءَ بعد الصحابة ومن كان في عصره – صلى الله عليه وسلم – إِلى اتباعهم؛ لأنهم يعلمون أنه لا يصبر على هذه الأشياءِ إِلا من قد وضح له الحق وبانَ له البرهان، واللَّه عزَّ وجلَّ يعطيهم ما ينالهم من المصائب في العاجل والآجل، وما هو أهم نفعاً لهم، فجمع بهذا الدلالة على البصيرة وجوز الثواب للصابرين على ذلك الابتلاء فقال عزَّ وجلَّ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ: بالصلاة عليهم من رَبِّهم والرحمة وبأنهم المهتدون[7]. وهنا نقف مع الشيخ الشعراوي (ت:1418ه) وهو يفسر لنا هذه الآية ببيان قمة الابتلاء وحقيقته في نطاق التكليف، فيقول: الحق سبحانه قد ذكر لنا قبل هذه الآية قمة الابتلاءات؛ وهي أن ينال الإنسان الاستشهاد في سبيل الله، وذكر ثواب الشهيد، وهو البقاء على هيئة من الحياة عند ربه، وكان ذلك مقدمة للابتلاءات الأقل، فقمة الابتلاء في حدود إدراكنا هي فقد الحياة، وأراد الحق أن يعطي المؤمنين مناعة فيما دون الحياة، مناعة من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات. وكل ما دون حياة الفرد هو أمر ترفي بالنسبة لفقد الحياة نفسها، فمن لم يفقد حياته، فستأتي له ابتلاءات فيما دون حياته، وهي ابتلاءات الخوف والجوع ونقص الأموال، ونقص في عدد الإخوة المؤمنين، وكذلك نقص في الثمرات، وكل هذه أشياء يحبها الإنسان، ويأتي التكليف ليطلب من المؤمن أن يترك بعضا مما يحب، وتلك الابتلاءات تدخل في نطاق بقاء التكليف. وأول تلك الابتلاءات هو الخوف، والخوف هو انزعاج النفس وعدم اطمئنانها من توقع شيء ضار، فالنفس لها ملكات متعددة، وعندما يصيبها الخوف، فهي تعاني من عدم الانسجام، والخوف خورٌ لا ضرورة له، لأنك إذا كنت تريد أن تُؤَمِّن نفسك من أمر يُخيفك، فأنت تحتاج إلى أن تجتهد بأسبابك لتعوق هذا الذي يُخيفك، أما إن استسلمت للانزعاج، فلن تستطيع مواجهة الأمر المخيف بكل ملكاتك، لأنك ستواجهه ببعض من الملكات الخائرة المضطربة، بينما أنت تحتاج إلى استقرار الملكات النفسية ساعة الخوف؛ حتى تستطيع أن تمد نفسك بما يُؤَمِّنك من هذا الخوف. أما إن زاد انزعاجك عن الحد، فأنت بذلك تكون قد أعنت مصدر الخوف على نفسك؛ لأنك لن تواجه الأمر بجميع قواك، ولا بجميع تفكيرك. إذن فالذي يخاف من الخوف؛ نقول له: أنت مُعِين لمصدر الخوف على نفسك، وخوفك وانزعاجك لن يمنع الخوف، ولذلك لابد لك من أن تنشغل بما يمنع الأمر المخوف، ودع الأمر المخوف إلى أن يقع، فلا تعش في فزعه قبل أن يأتيك، فآفة الناس أنهم يعيشون في المصائب قبل وقوعها، وهم بذلك يطيلون على أنفسهم أمد المصائب. إن المصيبة قد تأتي مثلا بعد شهر، فلماذا تطيل من عمر المصيبة بالتوجس منها والرهبة من مواجهتها؟ إنك لو تركتها إلى أن تقع؛ تكون قد قصرت مسافتها. ولك أن تعرف أن الحق سبحانه وتعالى ساعة تأتي المصيبة فهو برحمته ينزل معه اللطف، فكأنك إن عشت في المصيبة قبل أن تقع، فأنت تعيش في المصيبة وحدها معزولة عن اللطف المصاحب لها، لكن لو ظللت صابراً محتسباً قادراً على مواجهة أي أمر صعب، فأنت لن تعيش في المصيبة بدون اللطف[8]. وهذا الإمام فخر الدين الرازي (ت:606ه) في تفسيره القيم "مفاتيح الغيب" يُجلّي هذه الآية بياناً فيقول: اعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب، فينقسم إلى موجود في الحال وإلى ما كان موجودا في الماضي وإلى ما سيوجد في المستقبل، فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمي ذكرا وتذكرا، وإن كان موجودا في الحال يسمى ذوقا ووجدا، وإنما سمي وجدا لأنها حالة تجدها من نفسك، وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك سمي انتظارا وتوقعا، فإن كان المنتظر مكروها حصل منه ألم في القلب يسمى خوفا وإشفاقا، وإن كان محبوبا سمي ذلك ارتياحا، والارتياح رجاء، فالخوف هو تألم القلب لانتظار ما هو مكروه عنده، والرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده[9]. وقال في تفسير قوله تعالى عند دعاء سيدنا إبراهيم: رب اجعل هذا بلدا آمنا [البقرة: 126]، طلب من الله نعمة الأمان، والابتداء بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات، وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به، وسئل بعض العلماء: الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال: الأمن أفضل، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل، ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب، فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت، وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد[10]. ويقول في موضع آخر عند قوله تعالى: فكلي واشربي وقري عينا، وهاهنا سؤال، وهو أن مضرة الخوف أشد من مضرة الجوع والعطش، والدليل عليه أمران: * أحدهما: أن الخوف ألم الروح، والجوع ألم البدن، وألم الروح أقوى من ألم البدن. * والثاني: ما روي أنه أجيعت شاة ثم قدم العلف إليها وربط عندها ذئب، فبقيت الشاة مدة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها الشديد خوفا من الذئب، ثم كسرت رجلها وقدم العلف إليها فتناولت العلف مع ألم البدن، فدلت هذه الحكاية على أن ألم الخوف أشد من ألم البدن[11]. إذا علمنا ما سبق في تفسير الآية، نتساءل مع البعض فنقول: إنه تعالى قال: واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة: 152]، والشكرُ يوجب المزيد، لقوله: لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] فكيف أردَفهُ بقوله: َلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف؟ يجيبنا ابن الخطيب عن هذا التساؤل فيقول: والجواب من وجهين: الأولُ: أنه -تعالى- أخبر أَنَّ إكمَالَ الشرائعِ إتمامُ النعمةِ، فكأنه كذلك موجباً للشُّكْرِ، ثم أَخبر أن القيامَ بتلك الشرائع لا يُمْكِن إِلا بتحمّل المِحَن، فلا جَرَمَ أمر فيها بالصَّبْر. الثاني: أنه -تبارك وتعالى- أَنْعَم أولاً فأَمَر بالشكْر، ثم ابْتَلَى وأمر بالصَّبْرِ، لينال الرجل درجةَ الشاكرين وَالصَّابِرينَ مَعاً، فيكمل إيمانُه على ما قال صلى الله عليه وسلم[12]: «الإِيْمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ، وَنِصْفٌ شُكْرٌ»[13]. وفي قوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ قال سهل بن رفيع التستري (ت:283ه): هم الذين صار الصبر لهم عيشاً وراحةً ووطناً، يتلذذون بالصبر لله تعالى على كل حال[14]. وخلاصة الكلام حول تفسير هذه الآية: أن الناس جميعا مبتلون فى هذه الحياة- سواء أكانوا أفرادا أو جماعات أو أمما- بشىء من الخوف والجوع- يختلف قلة وكثرة- وبنقص فى الأموال والأنفس والثمرات.. فليس أحد فى هذه الدنيا بمأمن أبدا من أن تنزل به هذه النوازل، متفرقة أو مجتمعة.. والجزع فى هذه المواطن هو الذي يثقل المصيبة، ويولّد منها مصائب، فيضاعف معها البلاء، ويعظم الألم، ويطبق اليأس، ويغلق كل باب للأمل والرجاء!. أما الذي يلقى أحداث الحياة ومصائبها بالصبر، ويواجهها بالتسليم والرضا، عن يقين وإيمان بأن ما وقع إنما هو بقضاء الله وقدره- فإن ذلك يهوّن عليه من وقع المصائب وإن عظمت، ويمدّه بمعين عظيم من الصبر والاحتمال، ويفتح له بابا واسعا من الأمل والرجاء فيما هو خير عند الله وأبقى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فحين يذكر المؤمن أنه- ذاتا ومالا وأهلا وولدا- ملك لله، لا يملك مثقال ذرة مما فى ملك الله، وأن مصائر الأمور كلها إلى الله، ومردّها جميعا إليه- حين يذكر المؤمن هذا لا يأسى على فائت، ولا يحزن على مفقود، وتلك هى أولى بشريات المؤمنين فى هذه الدنيا، لا ينزل الحزن ساحتهم، ولا يرهق الهمّ والكرب قلوبهم: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[15]. [1] تفسير الراغب الاصفهاني (ت: 502ه)، 1/350. [2] جامع البيان في تأويل القرآن للطبري، 2/48-49. [3] جامع أحكام القرآن، 1/387. [4] فتح القدير، 1/184. [5] معالم التنزيل في تفسير القرآن أو تفسير البغوي، 1/185. [6] تفسير ابن كثير (ت:774ه)، 1/467. [7] معاني القرآن وإعرابه، لأبي إسحاق الزجاج (ت: 311ه)، 1/230-231. [8] تفسير الشعراوي، 2/659-660. [9] مفاتيح الغيب، 4/129. [10] مرجع سابق، 19/103-104. [11] نفسه، 21/528-529. [12] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، باب في الصبر على المصائب، وعما تنزع إليه النفس من لذة وشهوة، ح.ر: 9264؛ وهو من رواية يزيد الرقاشي عن أنس، ويزيد متروك الحديث كما عند النسائي والذهبي، وثبت مثل هذا الحديث من قول عبد الله بن مسعود، والله أعلم. [13] اللباب في علوم الكتاب، لسراج الدين النعماني (ت:775ه)، 3/81. [14] تفسير التستري، 1/32. [15] التفسير القرآني للقرآن، لعبد الكريم يونس الخطيب (ت: 1390ه)، 1/177.