بعد رفع الحجر الصحي أو تخفيفه رأينا الأسواق والمرافق الدنيوية مكتضة بالناس لا يبالون بشيء. فإذا كانت أسواقنا اليوم بهذا الاكتضاض طيلة اليوم، والدولة بمؤسساتها تسمح بذلك، فكيف لا يسمح بفتح المساجد لثلثساعة في أوقات متفرقة في اليوم والليلة، مع اتخاذ الاحترازات المطلوبة و مع كون عدد الناس بالمساجد أقل بكثير مما عليهالأسواق. فندعوا الجهات الوصية على شؤون المساجد إلى إعادة النظر في هذا الأمر، وليحذوا حذو إخوانهم في باقي البلدان الإسلامية التي فتحت فيها المساجد، وكذلك ندعوا العلماء والمشايخ الذين لا زالوا يؤيدون إغلاق المساجد إلى إعادة النظر فيهذا الأمر مع تفهمنا وموافقتنا لما أفتوا به في وقت الذروة لانتشار المرض والعمل بالحجر الصحي في عموم المرافق، أما الآنفقد تغيرت الحال والمناطات. وللذين يقولون لا تقارنوا بين الأسواق والمساجد نقول لهم بل نفعل وإيراداتكم ليست إلا مغالطات، فالنظر في المقارنة إلىالتجمع البشري الذي يخاف معه العدوى وهو مناط الحكم، وليس إلى المنزلة والقدر والشأن كما تصورون. إن الإحترازات المطلوبة من التباعد في صف الصلاة و حمل كل مصل لسجاده الخاص ووضع الكمامات مع الحرص علىالتعقيم كفيل بجعل احتمال نقل العدوى ضعيفا هذا مع تصور وجود مصاب بين المصلين و هذا الاحتمال أيضا يكون ضعيفالا سيما في المناطق التي ينعدم فيها انتشار المرض أو ينتشر بشكل محدود، وإن فتحت المساجد واستثني من ذلك بعضالبؤر التي تعرف انتشارا واسعا للمرض وذلك بأن يؤجل فتحها الى أن يسيطر على المرض فلا بأس. و الذين يقولون بأن الصلاة مع المباعدة ووضع الكمامات مخالفة لهيئة الصلاة، والصلاة إما نقيمها على هيئتها أو لا نقيمها،نقول لهم هذا مخالف للقوعد الشرعية ومنها كون الميسور لا يسقط بالمعسور، لا سيما اذا كان المعسور من السنن لا منالواجبات، والاخلال به أو تركه عمدا بلا عذر أو حاجة لا يبطل الصلاة بله تركه للضرورة أو للحاجة. فأداء الصلاة مع التباعد في الصف من التدابير الوقائية التي تخل بتسوية الصفوف و التراص لكن ذلك لا يخل بصحة الصلاة في مذهب مالك وغيره، لكون التراص سنة وليس واجبا بل لو كان واجبا وترك للحاجة كما هيالحال في نازلتنا لاستقام القول بعدم بطلان الصلاة لكون الواجب يسقط بعدم القدرة وكذلك لكون هذا الواجب منفك عن ماهيةالصلاة. وقد نص علماؤنا من المالكية على حكم التراص في الصفوف ففي مختصر خليل:"وجاز عدم إلصاق ما على يمين الإمام أويساره بمن حذوه". قال الخرشي في شرحه على مختصر خليل: " ويجوز لمن على يمين الإمام أو على جهة يساره أن يقفمكانه ولا يلتصق بمن خلفه وهو مراده بمن حذوه، ومعنى الجواز هنا المضي إذا وقع لا أنه يجوز ابتداء من غير كراهة". وفي الذخيرة للقرافي :"قال في الكتاب : العاجزون عن الستر يصلون أفذاذا قياما متباعدين بعضهم عن بعض وجماعة بإمامإن كانوا في ظلام". ومن يعتبر هذه الصورة من صلاة المنفرد خلف الصف فإن هذا أيضا لا تبطل صلاته عند المالكية، قال مالك رحمه الله كما فيالمدونة: "من صلى خلف الصفوف وحده فإن صلاته تامة مجزئة عنه ولا يجبذ إليه أحدا". وفي النوادر والزيادات :"ولا بأس على أهل الخيل أن يصلوا بإمام متباعدين، لحصانة خيلهم. قال عنه علي في المجموعة: وهوأحب إلي من صلاتهم أفذاذا" وهذا فيه تغليط للذين يقولون بأن الصلاة في هذه الظروف وعلى هذه الهيئة فيه شيء من الخوف الذي يخالف الطمأنينة المطلوبة في الصلاة، زد على ذلك أن صلاة الجماعة تشرع في الخوف الشديد و العدو قريب متربص فكيف لا تشرع فينازلتنا هذه والخوف فيها خفيف و مظنة المرض فيها ضعيفة مع اتخاذ التدابير المشار إليها لا سيما في الأماكن التي عرفتانتشارا محدودا للمرض. أما بالنسبة للصلاة مع وضع الكمامة الطبية فيقال فيه مثل الذي قيل في التراص، فهو في مذهب مالك لا يؤثر على صحةالصلاة ولو فعله المصلي عمدا بدون حاجة، فكيف إذا كان للحاجة التي تزول معها الكراهة؟ قال ابن القاسم في المدونة : "وبلغني عن مالك في المرأة تصلي متنقبة بشيء ، قال : لا إعادة عليها وذلك رأيي، والتلثم مثله،ولا أرى أن تعيد" . وقال ابن عبد البر في الاستذكار: "وأما تغطية الفم والأنف في الصلاة فمكروه لمن أكل ثوما، وإنما أصل الكراهية فيه لأنهمكانوا يتلثمون ويصلون على تلك الحال فنهوا عن ذلك". بل التلثم – والكمامة في معناه– لا يكون مكروها في أصله إذا كان من شأن الإنسان أو من هيئته في عمله أو ما شابه. قال الحطاب في شرح مختصر خليل:" قال الشيخ زروق في شرح الإرشاد عند قول صاحب الإرشاد: ويمنع التلثم فيالصلاة، أما التلثم فيمنع إذا كان لكبر ونحوه، ويكره لغير ذلك إلا أن يكون ذلك شأنه كأهل لمتونة أو كان في شغل عمله منأجله فيستمر عليه، وتنقب المرأة للصلاة مكروه لأنه غلو في الدين، ثم لا شيء عليها لأنه زيادة في الستر. انتهى. وكذلك ما يدندون حوله من كون حق الله مبني على المسامحة، بخلاف أمور الدنيا وحقوق العباد مبنية على المشاححة، وكذلكما يورده البعض عن مسألة الرخصة وأن الصلاة متاحة في البيت، ويتناسى هؤلاء أن صلاة الجمعة فرض عين ولا تصلى إلافي المسجد، كما أن صلاة الجماعة فرض كفاية و من الشعائر الظاهرة التي يجب الحفاظ عليها لكونها من الحفاظ على الدينالذي هو من الكليات الخمس، وهو مقدم على حفظ النفس عند التعارض مع تيقن المفسدة في النفس فما بالك ان كانتالمفسدة مظنونة، بل السلامة أرجح مع تراجع انتشار المرض واستعداد الناس لاتخاذ الاحترازات اللازمة أثناء أداء الصلواتفي المساجد. ومن يدندنون عن الرخصة في هذا السياق لا يفرقون بين التعطيل العام للمساجد وبين موارد الرخصة المقيدة بأسبابها، والتيلا تعود على عامة المساجد بالتعطيل. فتعطيل الجمعة والجماعة في كل مساجد البلد إضرار بكلي الحفاظ على الدين، وإيراد الحفاظ على النفوس هنا محل نظر لاسيما أن الضرر على النفوس هنا مظنون، بل الظن ضعيف ومرجوح إذا استصحبنا التزام الناس بالتدابير الضرورية منحمل كل لسجادته والتباعد في الصفوف ووضع الكمامة والتعقيم و تخفيف الصلاة و الانتشار بعدها مباشرة، بينما الضررعلى الدين يقين. و من المناسب سوق كلام للآمدي رحمه الله في وجوب تقديم حفظ الدين على حفظ النفوس ، وأجاب عما يدل على خلاف ذلك. قال رحمه الله: " فإن قيل: بل ما يفضي إلى حفظ مقصود النفس أولى وأرجح، وذلك لأن مقصود الدين حق الله تعالى،ومقصود غيره حق للآدمي، وحق الآدمي مرجح على حقوق الله تعالى لأنها مبنية على الشح والمضايقة، وحقوق الله تعالى مبنيةعلى المسامحة والمساهلة، من جهة أن الله تعالى لا يتضرر بفوات حقه، فالمحافظة عليه أولى من المحافظة على حق لا يتضررمستحقه بفواته، ولهذا رجحنا حقوق الآدمي على حق الله تعالى، بدليل أنه لو ازدحم حق الله تعالى وحق الآدمي في محلواحد، وضاق عن استيفائهما، بأن يكون قد كفر وقتل عمدا عدوانا، نقتله قصاصا، لا بكفره. وأيضا قد رجحنا مصلحة النفس على مصلحة الدين، حيث خففنا عن المسافر بإسقاط الركعتين وأداء الصوم، وعن المريضبترك الصلاة قائما وترك أداء الصوم، وقدمنا مصلحة النفس على مصلحة الصلاة في صورة إنجاء الغريق، وأبلغ من ذلك أنارجحنا مصلحة المال على مصلحة الدين، حيث جوزنا ترك الجمعة والجماعة ضرورة حفظ أدنى شيء من المال، ورجحنامصالح المسلمين، المتعلقة ببقاء الذمي بين أظهرهم، على مصلحة الدين، حتى عصمنا دمه وماله، مع وجود الكفر المبيح. قلنا: أما النفس فكما هي متعلق حق الآدمي بالنظر إلى بعض الأحكام، فهي متعلق حق الله تعالى بالنظر إلى أحكام أخر،ولهذا يحرم عليه قتل نفسه والتصرف بما يفضي إلى تفويتها، فالتقديم إنما هو لمتعلق الحقين، ولا يمتنع تقديم حق الله وحقالآدمي على ما تمحض حقا لله… وأما التخفيف عن المسافر والمريض، فليس تقديما لمقصود النفس على مقصود أصل الدين، بل على فروعه، وفروع أصلٍ، غيرُأصل الشيء. ثم، وإن كان، فمشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر، وكذلك صلاة المريض قاعدا بالنسبة إلى صلاتهقائما وهو صحيح، فالمقصود لا يختلف. وأما أداء الصوم فلأنه لا يفوت مطلقا، بل يفوت إلى خَلَف وهو القضاء، وبه يندفع ما ذكروه من صورة إنقاذ الغريق وتركالجمعة والجماعة لحفظ المال أيضا، وبقاء الذمي بين أظهر المسلمين معصوم الدم والمال، ليس لمصلحة المسلمين، بل لأجلإطلاعه على محاسن الشريعة وقواعد الدين؛ ليسهل انقياده، ويتيسر استرشاده، وذلك من مصلحة الدين لا من مصلحة غيره" انتهى من الإحكام في أصول الأحكام (4/ 275). نسأل الله أن يجمع علينا بين العافية في نفوسنا وديننا و ان يرفع البلاء والوباء عنا. و صلى الله وسلم على نبينا محمد و آله وصحبه أجمعين.