ذهب جمع من أهل العلم إلى أن المقصود " بمصلاه " جميع المسجد ، قال الإمام زين الدين العراقي – رحمه الله - : ": ما المراد بمصلاه ؟ هل البقعة التي صلى فيها من المسجد ، حتى لو انتقل إلى بقعة أخرى في المسجد لم يكن له هذا الثواب المترتب عليه ، أو المراد بمصلاه جميع المسجد الذي صلى فيه ؟ يحتمل كلا الأمرين والاحتمال الثاني أظهر وأرجح "[1] . قلت : سوف أبسط في ثنايا هذا البحث أقوال أهل العلم في هذه المسألة وأدلتهم الشرعية ووجه دلالاتها ، وأسأل الله جل وعلا أن ينفع بهذا الكلمات وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم . * أولاً : القول الأول : المقصود ( بمصلاه ) جميع المسجد واستدلوا بما يأتي: 1 . ما أخرجه الطبراني في الكبير (17/129) من حديث أبا أمامة وعتبة بن عبد – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم : " من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم ثبت في المسجد يسبح الله سبحة الضحى كان له كأجر حاج ومعتمر تاما له حجته وعمرته " . قال الألباني : " حسن لغيره ". وجه الدلالة : قول النبي – صلى الله عليه وسلم – " ثم ثبت في المسجد " نص في هذا المسألة ،وأن مناط الأجر يتحقق للمصلي بمجرد صلاح النية ، وبمكوثه في المسجد من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الضحى . 2 . ما أخرجه البخاري في صحيحه( 445) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم : " الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث اللهم اغفر له اللهم ارحمه لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة " . وجه الدلالة : إن النبي – صلى الله عليه وسلم – رتب الأجر لمن حبس نفسه في المسجد ما دام ينتظر الصلاة ، فما دام المسلم قد صرف نيته لانتظار الصلاة فيترتب عليه الثواب المذكور في أي بقعة من المسجد . 3 . ما أخرجه مسلم في صحيحه (649) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة " وجه الدلالة : الرسول – صلى الله عليه وسلم – حث أمته على انتظار الصلاة ، وأن من حبسته الصلاة فهو في صلاة سواء لزم البقعة التي صلى فيها أو انتقل لأي مكان في المسجد . 4 . ما أخرجه مسلم في صحيحه (251) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط " وجه الدلالة : الثواب المذكور هو لمن حبس نفسه عن التصرف في الأمور الدنيوية من بيع وشراء وشهوة مباحة رغبة في الصلاة ومن هذا قيل انتظار الصلاة رباط لأن المرابط حبس نفسه عن المكاسب والتصرف إرصاداً للعدو . 5 . ما رواه ابن ماجة في سننه (180) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله له كما يتبشبش[2] - أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم " ( صحيح ابن ماجة للألباني – رحمه الله - ) . وجه الدلالة : إن النبي – صلى الله عليه وسلم – رتب الأجر لمن حبس نفسه في المسجد ما دام ينتظر الصلاة ، وأن الله يتبشبش للمصلي الذي يذكر الله في المسجد ، دون تحديد البقعة التي صلى فيها وملازمته لها بعد صلاته . 6 . ما رواه ابن ماجة في سننه (801) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب فرجع من رجع وعقب من عقب فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرعا قد حفزه النفس وقد حسر عن ركبتيه فقال : " أبشروا هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى " . وجه الدلالة : إن النبي – صلى الله عليه وسلم – رتب الأجر لمن حبس نفسه في المسجد ما دام ينتظر الصلاة في المسجد . 7 . ما رواه البخاري في صحيحه (482) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : " صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى وخرجت السرعان من أبواب المسجد " وجه الدلالة : في قول أبي هريرة – رضي الله عنه - : " فقام إلى خشبة معروضة في المسجد " ، وفي رواية عند مسلم : " ثم أتى جذعاً في قبلة المسجد فاستند إليها " فيه دلالة على مشروعية انتقال الإمام أو المصلي من البقعة التي صلى فيها إلى أي مكان في المسجد . 8 . ما أخرجه أبو داود في السنن (1119) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره " ( صحيح الجامع للألباني ) . وجه الدلالة : أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – المصلي أن يعتدل في جلسته وأن يتحول من مكانه ومجلسه إذا غلب عليه النعاس ، وهذا فيه مشروعية الانتقال والتحول إلى أي مكان في المسجد خاصة إذا كان يفضي إلى مزيد من الخشوع وحضور القلب ، ويقاس عليه من كان به أذى وألم في ركبتيه أو ظهره ومكثه في نفس المكان الذي صلى فيه يشعره بمزيد من التعب وعدم حضور القلب أثناء الذكر ، فإنه يستحب له أن يتحول من مكانه إلى أي مكان آخر في المسجد . 9 . ما رواه مالك في الموطأ(385 ) عن نعيم بن عبد الله المجمر أنه سمع أبا هريرة يقول" إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم يزل في صلاة حتى يصلي " . وجه الدلالة : أن المصلي إذا صلى في المسجد ثم انتقل إلى أي موضع آخر من المسجد ولم يخرج منه فإن الملائكة تدعو له مادام ينتظر الصلاة . ثانياً : القول الثاني : أخذوا بظاهر بعض الأحاديث وجعلوا الأجر والثواب فقط لمن التزم البقعة التي صلى فيها ، وأنه متى ما انتقل منها ، فإنه لا يدخل في معنى الحديث ، ويمكن لأصحاب هذا الرأي الاحتجاج بالأحاديث الآتية : 1 . ما رواه الطبراني في الأوسط (5598) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " من صلى الصبح ، ثم جلس في مجلسه حتى تمكنه الصلاة ، كان بمنزلة عمرة وحجة متقبّلتين " قال الألباني – رحمه الله - : " صحيح لغيره "[3] . وجه الدلالة : قوله – صلى الله عليه وسلم - : " ثم جلس في مجلسه " يدل على أن الثواب يتحقق فيمن لزم مكانه بعد الصلاة ، ومفهوم المخالفة يقتضي بأن من تحول عن مكانه فإنه لا ينال هذا الثواب . 2 . ما رواه الطبراني من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " من صلى صلاة الصبح في جماعة ، ثم ثبت حتى يسبح لله سبحة الضحى ، كان كأجر حاج ومعتمر ، تاما له حجه وعمرته " قال الألباني :" حسن لغيره " وجه الدلالة : قوله – صلى الله عليه وسلم - : " ثم ثبت " فيه تصريح من النبي – صلى الله عليه وسلم – على تعين التزام المكان الذي وقعت فيه صلاة الفريضة، وأن من تحول إلى مكان غيره فإنه لم يحقق هذا الشرط ومن ثم عدم وقوع المشروط . 3 . ما رواه مسلم في صحيحه(670) من حديث جابر بن سمرة – رضي الله عنه – أنه قال : " كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسنا " وعند أبي داود(4850) " كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناً " . وجه الدلالة : قول جابر بن سمرة – رضي الله عنه – كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس ، فيه دلالة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان لا يتحول من مكانه الذي صلى فيه . 4 . ما رواه الترمذي في جامعه (3474) من حديث أبي ذر – رضي الله عنه - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " من قال في دبر صلاة الفجر- وهو ثان رجليه - قبل أن يتكلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتبت له عشر حسنات ومحيت عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه وحرس من الشيطان ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله " قال أبو عيسى : " هذا حديث حسن غريب صحيح " . وقال الألباني – رحمه الله - : " حسن لغيره " . وجه الدلالة : قوله – صلى الله عليه وسلم - : " وهو ثان رجليه – قبل أن يتكلم – " فيه دلالة على أن الثواب متعلق بالمكث في نفس المكان الذي وقعت فيه الصلاة ، فإذا غير مكانه فإنه لم يحقق الأسباب التي حصول المسبب وهو الثواب. * ثالثاً : أقوال أهل العلم في هذه المسألة : - الإمام مالك – رحمه الله - : " سئل مالك عن رجل صلى في غير جماعة ثم قعد بموضعه ينتظر صلاة أخرى أتراه في صلاة بمنزلة من كان في المسجد كما جاء في الحديث قال نعم إن شاء الله أرجو أن يكون كذلك ما لم يحدث فيبطل ذلك ولو استمر جالساً "[4] . - القاضي عياض – رحمه الله – : " قال صاحب كتاب " مواهب الجليل " : وقال بعضهم وأظنه القاضي عياضا : إنه البيت الذي اتخذه مسجداً لصلاته وإن لم يجلس في الموضع الذي أوقع فيه الصلاة ، مثاله أنه إذا صلى في المسجد ثم انتقل من الموضع الذي صلى فيه ولم يخرج من المسجد إنه يبقى تدعو له الملائكة " .[5] - ابن عبد البر – رحمه الله - : " ومصلاه موضع صلاته وذلك عندي في المسجد ، لأن هناك يحصل منتظراً للصلاة في الجماعة ،وهذا هو الأغلب في معنى انتظار الصلاة "[6] . - ابن رجب : - رحمه الله - : " دل هذا الحديث على فضل أمرين : أحدهما : الجلوس في المصلى وهو موضع الصلاة التي صلاها ، والمراد به المسجد دون البيت "[7]. - الحافظ العراقي - رحمه الله - : " ما المراد بمصلاه ؟ هل البقعة التي صلى فيها من المسجد ، حتى لو انتقل إلى بقعة أخرى في المسجد لم يكن له هذا الثواب المترتب عليه ، أو المراد بمصلاه جميع المسجد الذي صلى فيه ؟ يحتمل كلا الأمرين والاحتمال الثاني أظهر وأرجح "[8] . - الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : " ( مصلاه ) أي في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد ، وكأنه خرج مخرج الغالب ، وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمراً على نية انتظار الصلاة كان كذلك "[9] - العلامة العيني – رحمه الله - : " فيه بيان فضيلة من انتظر الصلاة مطلقاً سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد أو تحول إلى غيره "[10]. - العلامة القاري – رحمه الله - : " ( من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله ) أي استمر في مكانه ومسجده الذي صلى فيه ، فلا ينافيه القيام لطواف أو لطلب علم أو مجلس وعظ في المسجد ، بل وكذا لو رجع إلى بيته واستمر على الذكر حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين "[11] - الزرقاني – رحمه الله - : " للمنتظر حكم المصلي سواء بقي في مجلسه ذلك من المسجد أم تحول إلى غيره فيمكن حمل قوله في مصلاه على المكان المعد للصلاة لا الموضع الخاص به الذي صلى فيه ... فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمراً على نية انتظار الصلاة كان كذلك ... ولو قعدت امرأة في مصلى بيتها تنتظر وقت صلاة أخرى لم يبعد أن تدخل في معنى الحديث لأنها حبست نفسها عن التصرف رغبة في الصلاة " [12] - وفي " الدرر السنية " سئل الشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين – رحمه الله - عن حديث " الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه " هل إذا تحول من مجلسه إلى موضع آخر في المسجد يحصل له ذلك ؟ فأجاب : الذي يظهر أن حكم المسجد الذي صلى فيه ، حكم موضع صلاته. - الشيخ شمس الحق العظيم آبادي صاحب كتاب " عون المعبود : " ( في مصلاه ) من المسجد أو البيت مشتغلاً بالذكر أو الفكر أو مفيداً للعلم أو مستفيداً وطائفاً بالبيت " [13] . - الشيخ محمد الشنقيطي صاحب كتاب " كوثر المعاني " : " فضيلة من انتظر الصلاة مطلقاً ، سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد ، أم تحول إلى غيره ، ولفظه " ولا يزال في صلاة ما انتظر " فأثبت للمنتظر حكم المصلي ، فيمكن أن يحمل قوله " في مصلاه " على المكان المعد للصلاة ، لا الموضع الخاص بالسجود " [14] - العلامة الوزاني المالكي صاحب كتاب " النوازل الكبرى " : " جلوس الإمام في المسجد ينتظر الصلاة يستدفع به مشقة الرجوع ، لمطر أو بعد دار لا يمنع من نيل الثواب المذكور في انتظار الإمام ذلك ، وفي انتظار الإمام الصلاة بالدويرة التي بالجامع "[15] - قال الباجي – رحمه الله - " قوله ما دام فِي مصلاهُ الذي صَلَّى فيه يعني موضع صلاته ،ويحتمل ذلك وجهين : أحدهما أنها تدعو له ما دام في مصلاه قبل أن يصلي فيه منتظراً للصلاة حتى يصلي فيه ، إلا أن يحدث قبل صلاته فيجب عليه القيام للوضوء ، فلا يصلي حينئذ لجلوسه ، والوجه الثاني : أن الملائكة تصلي عليه ما دام في مكانه الذي صلى فيه جالساً بعد صلاته فيه إلا أن جلوسه فيه يكون لأحد وجهين أما للذكر بعد الصلاة ، وإما لانتظار صلاة أخرى "[16]. - الشيخ ابن باز - رحمه الله - : " سئل : هل المكوث في المنزل بعد صلاة الفجر لقراءة القرآن حتى تطلع الشمس ، ثم يصلي الإنسان ركعتي الشروق له نفس الأجر الذي يحصل بالمكوث في المسجد ؟ فأجاب : هذا العمل فيه خير كثير وأجر عظيم ، ولكن ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك أنه لا يحصل له نفس الأجر الذي وعد به من جلس في مصلاه في المسجد ، لكن لو صلى في بيته صلاة الفجر لمرض أو خوف ثم جلس في مصلاه يذكر الله أو يقرأ القرآن حتى ترتفع الشمس ، ثم يصلي ركعتين فإنه يحصل له ما ورد في الأحاديث لكونه معذوراً حين صلى في بيته . وهكذا المرأة إذا جلست في مصلاها بعد صلاة الفجر تذكر الله أو تقرأ القرآن ، حتى ترتفع الشمس ثم تصلي ركعتين فإنه يحصل لها الأجر الذي جاءت به الأحاديث ، وهو أن الله يكتب لمن فعل ذلك أجر حجة وعمرة تامتين ، والأحاديث في ذلك كثيرة يشدّ بعضها بعضاً وهي من قسم الحديث الحسن لغيره والله ولي التوفيق " [17] الترجيح : القول الراجح في هذه المسألة – والله أعلم – أن القول الأول هو أقرب للصواب ، لقوة الأدلة من حيث ثبوتها ودلالتها على حد سواء ، أما الأدلة التي استدل بها أصحاب القول الثاني فالرد عليها كما يأتي : · استدلالهم بالحديث الذي رواه مسلم في صحيحه:" كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناً " فالرد يكون عليه من وجوه مختلفة : - أولها : ثبت في صحيح مسلم (592) من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت : " كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يقعد إلا مقدار ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " وعند البخاري (850) من حديث أم سلمة – رضي الله عنها – قالت : " كان إذا سلم يمكث في مكانه يسيراً " ،وقد ذهب الإمام مالك – رحمه الله – إلى حديث عائشة وأم سلمة ، فكره للإمام المقام في موضع صلاته بعد سلامه ،وعلى أية حال فهذه الأدلة توضح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يفعل ذلك أحياناً ويمكث كثيراً في مصلاه عند عدم الشغل ، وفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – هذا غاية ما فيه أنه يدل على الاستحباب ، لكن لا يدل على انتفاء الثواب لمن تحول عن مكانه. - ثانيها : قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " العبادات الواردة على وجوه متنوعة ينبغي أن تفعل على جميع الوجوه هذا تارة وهذا تارة بشرط أن لا يكون في هذا تشويش على العامة "[18] وقال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - : "إن العبادات الواردة على وجوه متنوعة ينبغي للإنسان أن يفعلها على هذه الوجوه ، وتنويعها فيه فوائد أولاً : حفظ السنة بوجوهها ثانياً : التيسير على المكلف ثالثاً : حضور القلب وعدم ملله وسآمته رابعاً : حفظ الشريعة وصيانتها " [19]. - ثالثها : في قوله " كان إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس " لا يلزم من ذلك مداومة النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وإنما قد تدل على فعل ماضي وقع لمرة واحدة فقط ، قال النووي – رحمه الله - : " المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين أن لفظة كان لا يلزمها الدوام ولا التكرار ، وإنما هي فعل ماض تدل على وقوعه مرة ،فإن دل دليل على التكرار عمل به وإلا فلا تقتضيه بوضعها "[20] - رابعها : من أصول قواعد الفقه أن فعل الرسول على وجه الذي فعله على وجه التعبد يكون للاستحباب لا الوجوب ، إلا أن يقرن بأمر ، أو يكون بياناً لأمر ، وما أشبه ذلك من القرائن التي تدل على الوجوب ، أما مجرد الفعل فإنه للاستحباب،وليس فيه اية دلالة على انتفاء الأجر لمن غيّر مكانه الذي صلى فيه إلى أي مكان في المسجد ، قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - : " من فعل شيئاً على وجه صحيح بمقتضى الدليل الشرعي فإنه لا يمكن إبطاله إلا بدليل شرعي لأننا لو أبطلنا ما قام الدليل على صحته لكان في هذا جناية على الشرع والمكلف ، وإعناة له ومشقة عليه "[21] · أما استدلالهم بقوله – صلى الله عليه وسلم - : " وهو ثان رجليه – قبل أن يتكلم – " ليس فيه دليل على أن الثواب متعلق بالمكث في نفس المكان الذي وقعت فيه الصلاة ، فإذا غير مكانه فإنه انتفى عنه الأجر ، وإنما فيه الحث والمبادرة والإسراع بهذا الذكر المخصوص بعد صلاة الفجر ليحترس به من الشيطان ، قال ابن مفلح - رحمه الله - : " ولهذا مناسبة ، ويكون الشارع شرعه أول النهار والليل ليحترس به عن الشيطان فيهما"[22]. · عدم وجود الدليل الصحيح الصريح على انتفاء الأجر لمن تحول من مكانه إلى موضع آخر في المسجد، والأجر أثبته النبي – صلى الله عليه وسلم - لمن ذكر الله بعد صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، ثم صلى ركعتين !! . قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - : " إن ما ورد عن الشارع مطلقاً فإنه لا يجوز إدخال أي قيد من القيود إلا بدليل ، لأنه ليس لنا أن نقيد ما أطلقه الشارع " [23] · في هذا القول تيسير على كثير من المسلمين خاصة لمن كان يشعر بألم في ركبتيه أو ظهره ، لأنه سينتقل إلى مكان آخر من المسجد ليذكر الله بطمأنينة وحضور قلب ، ومن جهة أخرى في هذا القول مراعاة لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – " لا ضرر ولا ضرار "[24]، إذ أن احتباسه في مكان واحد دون استناد لجدار أو حائط لفترة طويلة يضر ببدنه ضرراً بيناً ، لذلك نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة بحضرة الطعام أو عند مدافعة الأخبثين مراعاة لأداء الصلاة بخشوع وحضور قلب ، قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - : " إن المدافعة تقتضي انشغال القلب عن الصلاة ، وهذا خلل في نفس العبادة ، وترك الجماعة خلل في أمر خارج عن العبادة ، لأن الجماعة واجبة للصلاة ، والمحافظة على ما يتعلق بذات العبادة أولى من المحافظة على ما يتعلق بأمر خارج عنها ، فلهذا نقول : المحافظة على أداء الصلاة بطمأنينة وحضور قلب أولى من حضور الجماعة أو الجمعة " [25]. ---------------------------------------- [1] طرح التثريب 2/367 . [2] البش : اللطف في المسألة والإقبال على الرجل ، وقيل : هو أن يضحك له ويلقاه لقاء جميلاً ( لسان العرب – مادة بشش –6/266) [3] صحيح الترغيب 1/319 . [4] شرح الزرقاني 1/326 . [5] مواهب الجليل 2/74 . [6] الاستذكار لابن عبد البر 6/210 . [7] فتح الباري لابن رجب 6/40 . [8] طرح التثريب 2/367 . [9] فتح الباري حديث رقم 674 . [10] عمدة القاري 4/204 . [11] مرقاة المفاتيح حديث رقم 971 للملا القاري . [12] شرح الزرقاني 1/326 . [13] عون المعبود 4/117 . [14] كوثر المعاني في كشف خبايا صحيح البخاري لمحمد الخضر الشنقيطي 7/175 . [15] النوازل الكبرى 1/553 . [16] المنتقى 2/292 حديث رقم 378 . [17] مجموع فتاوى ومقالات 11/403 [18] مجموع الفتاوى 22/335-337 . [19] الشرح الممتع 2/52 . [20] شرح مسلم 6/21 .