ما زالت طقوس شهر رمضان تثير حيرة المواطنين، فبعد ما كان لهذا الشهر الفضيل عبادات خاصة، يستعد لها الناس في كل أصقاع البلدان العربية، من تغيير نمط الصلاة عن الأيام العادية، إذ تصبح صلاة التراويح التي ترافق صلاة العشاء أهم ما في اليوم لدى الصائم، إلى الصيام ساعات طويلة وقراءة القرآن، بالإضافة إلى زيارة الأهل والأصدقاء والتجمع على مائدة الإفطار. اليوم، وفي ظل الحجر الصحي وحالة الطوارئ المفروضة في عدد من الدول والمغرب من بينها لمنع انتشار فيروس كورونا المستجد، طفت تساؤلات في ذهن الناس حول الصيام وما يرافقه منها: هل يؤثر الصيام على الشخص ويرفع من إمكانية إصابته بفيروس كورونا؟ هل يمكن اعتبار أن العالم يعيش في ظروف استثنائية وإلغاء الصوم، كيف يمكن أداء صلاة التراويح بعد إغلاق المساجد؟ وغيرها من الأسئلة. هذه الأسئلة أثارت الجدل، حيث انقسم الناس إلى قسمين: قسم يدعو إلى إلغاء رمضان بحكم أن الصيام يقلل من المناعة ويسبب جفاف الحلق وهي البيئة التي يتكاثر فيها الفيروس، وفئة ثانية ترى أن ليس هناك تعارض بين الصيام وإمكانية الإصابة بالعدوى. هل نصوم رمضان؟ يعتبر صلاح النشاط، الأستاذ الجامعي والباحث في الفكر الإسلامي، أن ما قيل حول فيروس كورونا ومدى تأثيره على صحة الناس خلال شهر رمضان، يحددهما أمران أساسيان، أولهما: المسلم الذي ثبتت إصابته بفيروس كورونا، يعد في حكم الشرع مريضا، ويسري عليه ما يسري على المريض يقول الله تعالى: “فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر”، وهذا الأمر لا يطرح أي إشكال. أما الأمر الثاني، وهو القول بأن صيام رمضان في زمن جائحة كورونا قد يعرض الناس للخطر، هذا الأمر موكول إلى ذوي الاختصاص من أهل الخبرة، والمشهود لهم بالصنعة في هذا المجال، ورأيهم ينزل بمنزلة الفتوى الشرعية.. ولم تصدر لحد الساعة أي دراسة أو رأي علمي يثبت العلاقة بين الصيام وتعريض الناس للخطر في زمن كورونا، ويمكن الاستدلال بالرأي الأخير للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث المنعقد يومي 13 و14 أبريل 2020 بتقنية التواصل الشبكي والمخصص للنظر في “أحكام الصيام ومستجداته في ضوء نازلة فيروس كورونا كوفيد 19"، حيث تبين أنه من خلال “الاتصال بالأطباء والخبراء، والاطلاع على الدراسات العلميّة الموثقة أن هذه المعلومة التي تفيد بأن الصوم، وما يقتضيه من الانتهاء عن شرب السوائل طول النهار، يزيد من فرص تعريض الصائم للإصابة بوباء كورونا، أنها غير صحيحة، وليس لها أيّ دليل علمي تستند إليه؛ وعلى العكس من ذلك، فإنّ ما أثبتته العديد من الدراسات العلميّة هو أنّ للصوم فوائد صحية، ومن هذه الفوائد تقوية المناعة الذاتية للجسم لدرء الأوبئة؛ وهو ما يحتاج إليه الإنسان في مثل هذه الظروف الصحيّة الحاضرة”، على حد تعبير البيان الختامي للمجلس. بدوره اعتبر أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أن “المريض جائز له الإفطار”، وزاد ردا على دعاة الإفطار أن “الصيام لا يضعف المناعة والإفطار والأكل لا يقوي المناعة، ومن أُصيب بكورونا له أن يفطر”. رخصة إفطار رمضان بخصوص الرخص التي يمكن أن يُستثنى منها الفرد من الصيام شهر رمضان، اعتبر النشاط أن الحكم العام هو أنه لا يجوز للمسلم أن يفطر رمضان، باستثناء ذوي الأعذار الشرعية والرخص المبيحة للفطر، والتي أجملها الفقهاء في المرض والسفر والحمل والرضاع، والهرم وإرهاق الجوع والعطش… ففي حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ اللَه وَضَعَ عَن المسافر الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنْ الْحَامِلِ أَو المُرضِع الصَّوْمَ أَوْ الصِّيَامَ”، وفي هذا تفصيل عند الفقهاء. ويرى النشاط أن المرض يعتبر هو المرض الذي يشق على المريض الصيام بسببه، أو يتضرر به، والسفر المبيح للفطر هو ما تقصر فيه الصلاة، وهو ما يطلق عليه السفر عرفًا، بشرط أن يكون سفرا مباحا، وألا يشق عليه الصيام في السفر، فإن شقَّ عليه، أو أضَرَّ به، فالفطر في حقه أفضل؛ أما الحامل أو المرضع، فإن خافت على نفسها من الضَّرر مع الصيام أفطرت، وقضت كالمريض، والمرأة التي أتاها الحيض أو النفاس تفطر في رمضان وجوبًا، ويحرم عليها الصيام، ولو صامت لم يصح منها، وعليها القضاء؛ ويلحق بهذه الحالات كل من لم يستطع الصيام، ولا يقدر عليه؛ ككبار السن الذين لا تتحمل أجسادهم الصوم. جدل التراويح حسم المجلس العلمي الأعلى وقبله عدد من العلماء جدل صلاة التراويح بعد إغلاق المساجد، حيث أكد المجلس أن الحفاظ على الحياة من جميع المهالك مقدم شرعا على ما عداه من الأعمال، بما فيها الاجتماع للنوافل وسنن العبادات، مضيفا “أن الإمامة العظمى إمارة المؤمنين رفيقة بنا في حماية حياتنا أولا وفي قيامنا بديننا ثانيا، وهي رقيبة على الوضع الصحي في المملكة، وهي أحرص ما تكون على فتح المساجد من ضمن العودة إلى الحياة العادية متى توفرت الشروط”. وليضع حدا لهذا النقاش اعتبر المجلس أن العمل مع الله، مهما كان نوع هذا العمل، لا يسقط أجره بعدم الاستطاعة حتى ولو كان العمل فرضا، مثل الحج، وكذلك في مختلف رخص الشرع، فبالأحرى ألا يسقط الأجر في ما انعقدت عليه النوايا وتعذر عمليا من أعمال السنة، ومنها صلاة التراويح وصلاة العيد. وحسب المجلس العلمي الأعلى، فإن عدم الخروج إلى صلوات التراويح قد يعوضه إقامتها في المنازل فرادى أو جماعة مع الأهل الذين لا تخشى عواقب الاختلاط بهم، ومعلوم شرعا أن الجماعة في الصلاة ما زاد على الواحد. ويؤكد عدد من العلماء أن الأصل في صلاة التراويح أنها تؤدى في البيت، من بينهم رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أحمد الريسوني، الذي قال إن الحجر الصحي “سيعيد سنة التراويح لأصلها، إذ إن التراويح الأصل فيها أداؤها في البيت”، موضحا أن “المسجد سُنة الضعفاء وإقامتها في البيوت سنة الأقوياء”. كما اعتبر أن الصلاة خلف الإمام من خلال متابعته على شاشة التلفاز جائزة شرعا. وفي الوقت الذي يدعو الريسوني إلى التشدد في الصلاة المفروضة والتمسك بها وفق ما هو منقول قولا وفعلا، امتثالا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: “صلوا كما رأيتموني أصلي”، غير أنه يرى أن صلاة التراويح فيها أقوال، وهناك عدة علماء أفتوا بجواز أدائها وراء المذياع وما شابهه باعتبارها نافلة وليست مفروضة. وأضاف الفقيه المقاصدي أن للناس الاختيار في الصلاة بالبيت ولو بمصحف يقرأ منه ما تيسر، فهو الأسلم والأفضل ولا خلاف فيه، ومن لم يجد هذه الحالة وأراد الصلاة وراء التلفاز، فهذا ممكن. التراويح نافلة بخصوص كيفية صلاة التراويح قال صلاح النشاط الأستاذ الجامعي والباحث في الفكر الإسلامي إن صلاة التراويح تدخل في حكم الصلاة النافلة، وهي جزء من الصلاة المخصوصة لقيام الليل، وتكون في الفترة ما بين صلاة العشاء وصلاة الصبح، ويسري عليها ما يسري على مطلق النوافل في مختلف العبادات؛ فاعلها يثاب ويجازى عليها، وتاركها لا يُلام، ولا يسأل عليها. وإذا كانت الصلاة المفروضة تؤدى في المساجد يردف النشاط، فإن الأولى في عموم الصلاة النافلة أن تؤدى في البيوت، إلا ما استثني منها كركعتي تحية المسجد… وعليه، فالنوافل تتحمل التوسع والتخفيف على خلاف الفرائض. وفي الوقت الذي كان الأصل المتفق عليه عند الفقهاء، أن صلاة التراويح تؤدى في المساجد جماعة، اقتداء بما فعله عمر بن الخطّاب لما أمر أُبيّ بن كعب أن يُصّلي بالمسلمين جماعة، حيث مازال المسلمون في مختلف دول العالم يحرصون على أدائها في شهر رمضان جماعةً في المساجد. إلا أنه في فترة الحجر الصحي وفي ظل الإجراءات التي اتخذتها العديد من دول العالم ومنها إغلاق المساجد، سيؤدي المسلمون الصلاة الفريضة والصلاة النافلة، ومنها صلاة التراويح، في بيوتهم، موضحا أنه “لا حرج في ذلك، وفي ذلك سعة وتخفيف وأخذ بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حينما لم يُصلّي صلاة التراويح بالمسلمين جماعةً؛ خوفاً من أن تُفرض عليهم هذه الصّلاة فيشقّ عليهم القيام بها، حيث سبق للنبي صلى الله عليه وسلم أن صلى بأصحابه التراويح جماعة ليلتين، فَكثُرَ النَّاسُ ثمَّ اجتمَعوا منَ اللَّيلةِ الثَّالثةِ فلم يخرُج إليْهم رسولُ اللَّهِ صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ فلمَّا أصبحَ قالَ قد رأيتُ الَّذي صنعتُم فلم يمنعني منَ الخروجِ إليْكم إلَّا أنِّي خشيتُ أن تُفرَضَ عليْكم. واعتبر النشاط أن صلاة التراويح في البيوت خلال رمضان لهذا العام ستكون، أخذا بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو من باب التخفيف الذي راعاه لأمته، وبه يحصل الأجر إن شاء الله، مثل من كان يصليها جماعة في المسجد أخذا بسنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحالات العادية. سُنة عمَر في الوقت الذي يعتبر عدد من الناس أن صلاة التراويح هي سنة مأخوذة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أوضح مصطفى بنحمزة رئيس المجلس العلمي بوجدة، أن “النبي صلى الله عليه وسلم صلى التراويح جماعة ثم فردى، حيث أوضح أنه “في يوم خرج الرسول فاحتشد الناس عليه وصلى بهم وفي اليوم الرابع احتجب عنهم وقال لهم بعد ذلك حين استفسروه قال خفت أن تفرض عليكم”، وزاد” ظل الناس يصلون أوزاعا في عهد ابو بكر وجمعهم عمر بن الخطاب فكانت صلاة التراويح جماعة سنة من سنن عمر بن الخطاب”. ويرى بنحمزة أنه “بعدما اقتضت الضرورة لنعود للوضع الأول ونصلي فرادى فسنعود”، مشددا على أن “الصلاة لوحدك تكفى أما أن تبحث عن إمام تصلي وراءه هو نوع من التشدد لا داعي له، حين تصلي مع إمام غير موجود وأنت تتابعه في وسائل الاتصال فأنت لا تتابعه متابعة دقيقة فأنت تصلي وهذا الصوت والصورة تصلك بعد مدة ولحظات قليلة، يعني يكون هناك انفصال في الصلاة فأنت لا تصلي معه، وهذه ليست إمامة حقيقة”، يردف بنحمزة. وتابع بنحمزة “هذه فرصتنا لنعود لبيوتنا لنصلي ونفتح المصحف ونعلم أن فتح المصحف والنظر إليه فيه أجر”. الرضا بحكم الله بعد استمرار الحجر الصحي لشهر آخر، وتأثيره على حياة الناس، خصوصا أن شهر رمضان يصادف حالة الطوارئ، أكد المجلس العلمي الأعلى أن استحضار الرضا بحكم الله تعالى من شأنه أن يحمي من أي شعور مخالف للأحكام المشار إليها، مهيبا بالناس أن يتوجهوا إلى الله تعالى بالدعاء لأن يعجل برفع البلاء وكشف الغُمّة. وأوضح المجلس العلمي الأعلى أنه يستحضر، مع اقتراب شهر رمضان، شهر المبرة والغفران، ما يصاحب إحياء هذا الشهر المعظم، من مظاهر التدين، لاسيما تتبع الدروس الحسنية المنيفة برئاسة أمير المؤمنين حفظه الله والإقبال على الصلوات في المساجد، وقيام التراويح، واجتهاد العشر الأواخر من الشهر، وما فيها من إحياء ليلة القدر المباركة، ثم الخروج لصلاة العيد. ويستحضر المجلس هذه المظاهر وبلدنا، من جملة بلدان الدنيا، يعيش أحوال الاحتراز من الوباء وما وجب بسببه من منع التجمعات المنذرة بخطر العدوى المهدد للصحة، بل والمهدد للحياة، الأمر الذي بمقتضاه أصدر المجلس العلمي الأعلى فتوى بناء على طلب أمير المؤمنين، أعزه الله، حيث نصت على ضرورة إغلاق المساجد، وبناء على هذه الضرورة نفسها أوصت السلطات الصحية والإدارية بلزوم المنازل وعدم الخروج إلا عند الحاجة القصوى.