حاول مزدك بن مؤبذان (467 م/528م) أن يقدم خدمة لمجتمعه لما رآه مجتمعا متناقضا متناحرا يعيش في تناقضات صارخة تجمع ما بين الفضيلة والرذيلة والخير والشر والنور والظلمة، ففكر كثيرا في هذا الوضع الاجتماعي الخطير -في نظره- الذي عاشته أرض فارس، فحاول بكل ما أوتيه من قوة دينية بحكم أنه كان كاهنا مانويا أن يصلح هذا المجتمع الفارسي الذي أصبح على شفير الضياع والاندثار، فهدته قريحته إلى فلسفة غريبة أغرب من الوضع نفسه حيث وجد أن الأسباب التي تجعل الناس في صراع دائم وتقاتل مستمر هما: المال والنساء، فالكل يتقاتل ويتنازع ويتشاجر وينافق ويرائي ويحتال إما من أجل الحصول على المال أو الحصول على النساء، فهذان هما أصل صراع المجتمع الفارسي آنذاك وسيكونان هما أصل الصراع العالمي والبشري الكوني فيما بعد. من أجل فك هذا الإشكال ورفع هذا التناقض الاجتماعي الصارخ يخرج "مزدك" بحل أعجب الجانب الظلامي أكثر من الجانب النوراني للمجتمع الفارسي، حيث دعا إلى اشتراكية المال والنساء وذلك لرفع هذا الصراع فينعدم من الأساس، فمن أراد المال فليأخذه متى وجده وبأي طريقة ولا يحق لصاحب المال أن يتكلم لأنهما أصبحا شريكان فيه، ومن اشتهى امرأة ضاجعها ولو على فراش زوجها ولا يحق له النبس ببنت شفة لأنها أصبحت اشتراكية -وملكا وطنيا لجميع المواطنين- بحكم الحكم المزدكي الجديد. أعجب هذا القرار أصحاب النفوس الخبيثة والفسقة، وصارت عقيدة دينية يوالى ويعادى عليها خصوصا حينما اعتنقها الملك "قاباذ الأول" فصارت هي العقيدة الملكية، ووافقت ميولا جنسيا عنده حيث كان يحب مشاركة الأزواج في نسائهم فكان يشترط قبل ظهور المزدكية على العريس أن يرسل عروسه للملك في الليلة الأولى لكي يباركها، وكان الناس يتذمرون من هذا الأمر، حتى إن كثيرا من العرسان فضلوا الموت على أن يشاركهم الملك في نسائهم، فلما جاء "مزدك" بهذا الأمر وافق المرض الجنسي للملك فجعله عقيدة لها أسس وقواعد. فاشتهرت العقيدة المزدكية وقامت على أساسين اثنين: الأساس الأول: التقليل من أهمية الشكليات الدينية : فالإيمان مرتكزه القلب وهو الدليل على تقوى المزدكي، ولا حاجة لأن يظهر ذلك الايمان على سلوك المزدكي. الأساس الثاني: إضعاف موقف رجال الدين : خصوصا التابعين للطائفة الزراديشتية باعتبار أنهم هم من أوصل المجتمع الفارسي للتخلف والفقر وغلبة الأقوياء والأغنياء على الفقراء المستضعفين. وكان من مبادئ العقيدة المزدكية أن الأصل في الكون والخلق هو التساوي في كل شيء وأن المجتمع الفارسي انقلب على فطريته فصار مجتمعا فوضويا يحكمه الأغنياء ويأخذون فيه كل شيء وذلك لأنهم أطلقوا محررات الشيطان أو الخمس الشيطانية (الحسد، الغضب، الثأر، الحاجة، الجشع)، ومن أجل رد المجتمع الفارسي لفطريته وأصليته الأولى لابد له من الرجوع إلى المساواة القائمة على الحرية المطلقة. وبحكم أن الصراع المجتمعي قائم على المال والنساء دعا مزدك للمشاركة في المال والمشاركة في النساء وكان يسميه الحب الحر، فشاع الأمر في المجتمع الفارسي واختلطت الأنساب وصارت الزوجات ملكا مشاعا لكل من سولت له نفسه المضاجعة، بل إن الأمر وصل إلى درجة أنه لم يستفرد زوج بزوجته ولا أغلقا الباب على أنفسهما، فكل من خَصَّ نفسه بزوجة وحاول منع الناس عنها يتم الاتجاه إليه والدخول لبيته عنوة ومجامعة زوجته أمامه سواء برضاها أو بدونه فيتعاقب عليها الموجودون وهم في ذلك مأجورون في نظر العقيدة المزدكية لأنهم ينظمون المجتمع ويصلحونه، قال صاحب الملل والنحل "أحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركة فيه كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ". ظل الأمر على هذه الحال التي لم ترضي الكثير من النبلاء وأصحاب النفوس السليمة فحاولوا الإطاحة بالملك "قاباذ" ولكنهم فشلوا فتم إعدام الكثير منهم، فوصل المجتمع الفارسي لدرجة من التسيب والحرية القاتلة إلى أن أصبح الفارسي يجامع بنته وأمه أو يدعو من يجامعهما بحجة الحب الحر، واختلطت الأنساب وصارت البنت تلد من والدها والأم من ولدها، فقام النبلاء بمحاولة أخرى للإطاحة بهذه العقيدة الفاسدة واختار الملك "قاباذ" أن يتخلى عن "مزدك" وعقيدته خصوصا أن خبر إخفاء الملك لبنته وزوجته صار مشاعا بين أتباع مملكته، فسمح للزراديشتين بالانقلاب على المزدكين وتخلى عن عقيدتهم وصار زراديشتيا فقامت مذبحة عظيمة أعدم فيها "مزدك" أمام أتباعه بتهمة الهرطقة وممارسة القبائح، والذي ساعد الزراديشتين في نجاح هذا الانقلاب هم النساء أنفسهن، إذ تروي بعض الروايات التاريخية أن النساء هن من ساهمن بشكل كبير في إيصال "مزدك" لحبل المشنقة وحرصن على رميه بالسهام والنبال حتى خُرِق جسده بعدد كبير من السهام. ليس الغريب هو أن يشهد التاريخ دعوات الحرية الجنسية بدون حد ولا قيد فقد عُرف قوم لوط بذلك وصاروا يطؤون النساء في الأدبار، ثم أقبلوا على بعضهم البعض وصار الرجل يطأ الرجل علانية ويعرف أن فلان يطؤه فلان وخصصوا لذلك أماكن عبر عنها القرآن الكريم بقوله تعالى (إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر). فمع ما وصلوا إليه من رذيلة وفسق تحت مسمى الحرية الجنسية مع ذلك كانوا يرون أنهم متسخون خبثاء فسقة، فأنفسهم توقن أنهم مزاولون للفساد ولو سموه بما شاؤوا (وحجدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين)، فكانوا يقرون بالطهارة لمن خالفهم (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) لكن الغريب في الأمر أن ينادى اليوم إلى ما نادى إليه مزدك الخبيث تحت اسم وشعار الحرية الفردية دون أي حياء ولا استحياء لا لأنهم خبثاء بل لأنهم يصلحون المجتمع المتناقض فمن أجل محاربة الإجهاض لابد من تقنينه، ومن أجل محاربة الزنا لابد من تقنينه. لا أدري لعله يأتي يوم يقوم من هؤلاء من يدعو لتقنين الرشوة والمحسوبية والفساد لأن درجاتها فاقت عدد حالات الإجهاض السرية.