أعتذر للمخرج سعد الشرايبي عن هذا الاقتباس، حيث وجدت أن هذا العنوان يعبّر عن قصة واقعية لا تكاد تنتهي فصولها في المغرب، بل لا أشك أن هذا العنوان أنسب لسيناريو الواقع من السيناريو المحبوك الذي عبّر عنه الفيلم؛ فقبل أيام، وأنا في مكتبة آل سعود بالبيضاء، التقيت بامرأة في الخمسينات من العمر، بادرتني بالحديث، وأخذت تسأل عن بعض المراجع حول الفكر الاعتزالي والمصنفات في العقيدة. اكتشفت أن السيدة التي أمامي حديثة العهد بالبحث العلمي، وعلمت بعد سؤال فضولي أنها تحضّر موضوعا لنيل شهادة الإجازة، وتبيّنت بعد حديث مطوّل أنها تفرّغت لحُلمها في طلب العلم بعد أن بلغ أبناؤها مبلغا من الرشد والاستقرار، ولم تخف عني أن زواجها المبكر حال دون تحقيق المستوى العلمي الذي كانت تطمح إليه؛ حيث انقطعت بسبب هذا الزواج عن الدراسة، وتفرغت لتربية الأبناء وفي صدرها حرقة من ألم الانقطاع. بعد عشرين سنة بقي في صدر هذه السيدة جذوة من النار المشتعلة، حسرة على ما فاتها من أنوار العلم، ولذلك أخذت تسأل عن كيفية استدراك ما فات، خصوصا أنها غادرت المدرسة مباشرة بعد حصولها على شهادة "البروفي" (التاسعة إعدادي) فتبيّن لها –بعد البحث- أن المسلك لما تريد هو الحصول على شهادة البكالوريا. حصلت على هذه الشهادة وكان لها ذلك في أول سنة تقدمت فيها لخوض غمار الامتحانات، وجَدْتها فخورة بما حقّقت، وشجّعتها بدوري على استكمال التحصيل بعدما تبيّن لي أن طاقتها لا تحدّ، وأن حصولها على شهادة الدكتوراه مسألة وقت فحسب. ومن عجيب الموافقات أني وقبل لقائي بهذه السيدة بأيام، كنت قد اطلعت على خبر في الصحف الوطنية مفاده أن أختين مغربيتين متقاعدتين تجاوزتا من العمر ستين عاما، و بعد انقطاع عن الدراسة دام حوالي 40 سنة، حصلتا بدورهما على شهادة الإجازة في اللغة الفرنسية، ولم تكونا حصلتا من قبل على شهادة البكالوريا، ولا حتى على "البروفي"؛ حيث ترشحتا حرتين لاجتياز امتحانات التاسعة إعدادي بصفتهما حاملتين للشهادة الابتدائية. هذه النماذج أصبحت مألوفة في المغرب، وتنم عن يقظة نسائية حقيقية وإرادة عصامية تتجاهل غياب كل اهتمام أو توجيه أو برمجة من قِبل الدوائر المعنية. والواقع أن مثل هذه النماذج تقدّم لنا الدليل أن للمغرب القدرة على إعادة إنتاج طبقة مثقفة لم تسعفها الظروف لإتمام مسيرة الدراسة؛ فنحن نحتاج اليوم فعلا إلى برامج لمحو الأمية، ولكن حاجتنا إلى هذه النماذج أكبر ما دام هناك حرص. وهنا أشد بحرارة على يد البروفيسور مامون الدريبي الذي وعى هذه الحقيقة في برنامجه الإذاعي الشهير، وسعى إلى بث الروح العلمية لكثير من النساء اللواتي لا يحتجن سوى لهذا الدعم النفسي. إن الوعي بأهمية التعليم في مستوياته العليا مؤشر على سمو كفاءة العنصر البشري الذي هو صمام أمان المجتمع، والحافظ الواعي لقيَمه وهويته. ولقد سئمنا من الصورة السلبية التي كرستها فئة من النساء عشن على هامش هذا الوعي، ولم يجدن محفزات ترشدهن إلى سبل النجاح، وتدرأ عنهن المهانة والذل الذي أغرقن فيه أنفسهن، فأصابنا من مهانتهن عار وحْدة الانتماء؛ حتى أصبحنا نخجل من هذه الصورة التي أضحت تلاحق نساء المغرب أينما حلّ بهم المقام. ولن أنسى ما حييت تلك الإهانة التي تلقيتها من سفارة الأردن بالرباط شهر أبريل المنصرم حينما طُلب مني -للحصول على التأشيرة- أن أتوفر على "الرفقة" أو "المحرم"، مع أني في سفر علمي لا يخص غيري، ويوجد إلى جانب المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي وجّه لي الدعوة للمشاركة في مؤتمره الدولي جهة رسمية هي وزارة التنمية الاجتماعية والجامعة الأردنية. قيل لي وأنا في السفارة إن شرط المحرم واجب في حق من هي دون 35 سنة، وفاجأني طبعا هذا الاعتراض، خصوصا مع علمي أن الأردن ليست مثل بعض دول الخليج من حيث القوانين التي تعتبر المرأة قاصرا تحتاج دائما إلى مرشد من الرجال يدلها على الطريق. حُل المشكل بعد اتصالات هاتفية من الجهة المنظمة، وقُدّر أن أحضر أشغال المؤتمر حيث قدّمت مداخلتي، وبقي صدى الواقعة يشغل بالي. وفي أول فرصة أتيحت لي أثرت المسألة مع مشارِكات كن معي من الأردن، فلمّحن لي بأن المشكلة لا تتعلق بالقوانين، وإنما بالمغربيات اللواتي أصبحن متهمات بمجرد حمل الجنسية. أحسست يومها بحرج كبير وبحسرة على ما وجدت من مس بصورة المغرب على هذا النحو المهين، وقلت لنفسي: إن معركة النساء في المغرب أخطأت الطريق حقا وهي تناضل من أجل الدفاع عن حقوق الأمهات العازبات، في الوقت الذي لا تحرص فيه على قيمة العفاف، ولا تهتم بالإرشاد والرعاية القبْلية، التي من شأنها أن تعفيهن من ذل الفساد، وتساءلت عن هذا الهَوَس بالدعوة إلى الوقاية من السيدا الذي لا يُستصحب بتزكية القيم الإنسانية النبيلة التي تتمركز في العقل ولا تقف عند حدود الجسد، وقلت لنفسي: لابد أن يسعى المغرب لتقوية الرصيد القيمي والأخلاقي للمغاربة، فهو أفضل عازل يحمي النفس والجسد من الشرور والدنس. لا أشك أن المعركة الحقيقية التي يجب أن نخوضها في المغرب، تتجاوز التوعية بالصحة الإنجابية ومحو الأمية، وتتجاوز كذلك ثقافة الحقوق التي أصبحت في ظل الجهل والأمية أقرب إلى آلة حادة لقتل التماسك الأسري، وصارت وسيلة لتأنيث المجتمع وإشاعة الاستبداد المضاد. نعم، هناك جهود لا تنكر تحتاج إلى مراجعات جريئة، ولكننا نحتاج إلى السمو بمدارك النساء إلى مستويات أعلى، فقراءة الحروف ليست هي كل آمالنا، لابد من إحياء هذا الوهج الذي لا نلقي له بالا في صفوف الفتيات في سن المراهقة ليتوجّه نحو التحصيل بدل اختيار أقرب السبل إلى المال حيث السعادة الموهومة، فالحرص على تنمية الطاقات المعطلة -وما أكثرها في المغرب في صفوف النساء- كفيل باسترجاع الكرامة التي لا نقول إننا نفتقدها في المغرب، ولكننا نأسف لعدم استثمارها حتى تكون إشعاعا ينير العتمة التي غلفت آفاق هذه الطاقات، بل حجبت حتى رؤية التفوق النسائي المغربي الذي يزيد إشعاعا مع الزمن. إنني في هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور أجدني منتشية بحفل تسليم جائزة منظمة المرأة العربية في القاهرة للدكتورة حكيمة حطري، خصوصا وأن الجائزة الثانية لهذه المنظمة كانت أيضا من نصيب مغربية وهي الدكتورة أسماء المرابط التي أعتز بكونها رئيستي في العمل، وقد تفوّقتا معا في مجال العلوم الاجتماعية. وفي نفس الوقت الذي كنا نصفق لرموزنا في مصر جاءتنا الأنباء تخبر بحصول السيدة نزهة حياط، رئيسة نادي النساء المتصرفات بالمغرب، على جائزة الامتياز بلندن، تتويجا لمسارها الاستثنائي في القطاعين المالي والبنكي. وفازت كذلك الدكتورة الشابة ليلي الشياظمي بجائزة الشباب العربي المتميز في مجال البحث العلمي بشرم الشيخ. وقبل أيام قليلة مُنحت جائزة القدس في مسقط للكاتبة المغربية السيدة ختانة بنونة ضمن جهود دعم القضية الفلسطينية. وآخر الفائزات كانت السيدة خديجة الرياضي التي نالت جائزة الأممالمتحدة لحقوق الإنسان. هذا ما أذكره لهذا الشهر فقط، وإلا فإن إنجاز النساء المغربيات ينبو عن الحصر في شتى مجالات المعرفة والعلوم. النساء المغربيات لهن كفاءات كبيرة، وبينهن طاقات واعدة؛ من العيب أن نحصرها في الجسد أو أن نربطها بجمالية الصوت والصورة. المرأة المغربية الحرة، حتى وإن كانت في البوادي والوهاد، تحتاج إلى استثمار وعيها بوظيفتها الوجودية في البناء العمراني، فما أكثر الأمثلة عن نساء في قرون الجبال ممن أنجبن شخصيات لها وزنها العلمي وحضورها السياسي الذي لا يخفى، وقد يكون قطار المعرفة فات الكثير من النساء، ولكن شغف العلم يبقى خامدا في صدورهن، فلا يحتجن إلا إلى نفخة من أجل إيقاظ شرارته من جديد، وقد لا تُحيي النفخة الشرارة في الصدر الذي يحتويها، ولكن الأكيد أن نفخة الحياة ستمتد إلى أجيال لاحقة من شأنها أن تكون مفخرة للمغرب والمغاربة في مستقبل الأيام. إن مفاخر المغرب في صفوف النساء تحتاج إلى إشعاع يرفع عنهن الغبن الذي تسبّبت فيه فئة ضالة أصابها عطب اللامبالاة، فكاد هذا الصنف من النساء أن يوقف مسيرة نساء أخريات إن لم يؤثر على حركتهن ويبخسهن وجودهن، وتلك قصة عشت تفاصيلها وأحببت أن أقاسم مَشاهدها الحية مع القراء، حتى يتضح لمن قرأ مقالتي أن في المغرب نساء ونساء، ولن يكن في المستقبل بحول الله إلا صنفا واحدا يفخر به الوطن. باحثة بمركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام.