في الوقت الذي ينتظر فيه سكان الرباط وبشغف منقطع النظير، افتتاح المسرح الكبير كأهم وأكبر معلمة ثقافية في المغرب وإفريقيا، الكائن مقره على ضفة نهر "بورگراگ" قبالة "صومعة حسان" التي بناها الموحدون ومات السلطان "يعقوب المنصور" دون أن يراها وهي منتهية البنيان. وفي الوقت الذي تستعد فيه ساكنة الرباط وزوارها لمشاهدة أطول وأجمل برج في المغرب وعموم بلدان إفريقيا وهو واقف ناطح للسحاب بجانب نهر "بورگراگ" في الجهة الموالية لمدينة سلا، وقد شارفت أشغال تشييده وبنائه على نهايتها. وفي الوقت الذي افتتحت فيه فضاءات خضراء فسيحة وجميلة المنظر والمشهد في مختلف أرجاء المدينة العاصمة، وفي الوقت الذي افتتحت فيه متاحف الفنون القديمة والمعاصرة تضاهي المتاحف العالمية في أوروبا وغيرها بوسط المدينة، وشقت الممرات الطرقية تحت الأرض، وافتتحت المسابح الكبيرة والعجيبة بكورنيش المحيط، وهي التي تتسع طاقتها الاستيعابية إلى حوالي 8 آلاف سباح وسباحة في مختلف الأعمار، واعتبرت مسابح الرباط كأضخم مسابح في المغرب. وافتتحت؛ أيضا، بجوانب المدينة ومداراتها عشرات من ملاعب القرب تضم مختلف أصناف الرياضات من كرة القدم والسلة واليد إلى كرة المضرب... مجهزة بكل المعدات لممارسة الرياضة في الهواء الطلق، وهي ملاعب مفتوحة أمام الجميع بالليل والنهار وبشكل مجاني. وفي الوقت الذي توسعت فيه شبكة وخطوط "الترامواي" شرقا وغربا جنوبا وشمالا، وربطت حي "يعقوب المنصور" بالرباط بحي "قرية ولاد موسى" بسلا... وفي الوقت الذي افتتحت فيه مستشفيات جديدة بتجهيزات طبية جد حديثة ومتطورة على رأسها مستشفى "مولاي يوسف" قبالة المحيط الأطلسي الذي يعد من أحسن مستشفيات القرب في العاصمة والتي تنتمي إلى الجيل الجديد، وفي الوقت الذي افتتح فيه مول تجاري كبير بحي أگدال في انتظار افتتاح مول آخر أكبر منه بجانب البحر. وفي الوقت الذي تتأهب فيه الرباط افتتاح محطتها الطرقية بمواصفات تقنية وفنية عالمية بمدخل المدينة... وخلال كل تلك الأوقات وإبان كل هذه السياقات التي تعيش فيها الرباط نهضة عمرانية حديثة ومتطورة، عرفت مباراة كرة القدم بين فريق العاصمة الرباط وفريق العاصمة السابقة فاس بملعب "مولاي عبدالله" المقابل للمحطة الطرقية الجديدة وبجانب حديقة الحيوانات، أحداثا عنيفة وتخريبية ومواجهات دامية وخطيرة جدا بين أنصار الفريقين، هي أحداث مؤسفة أسفرت عن جروح بليغة لأفراد الأمن بمختلف أجهزته وعدد كبير من الأنصار، كما شهدت تخريب منشئات تقنية وفنية وتجهيزات كثيرة تابعة للملعب بمختلف مرافقه. أسباب هذا العنف المتفجر والتخريب كثيرة وعميقة، من يريد تفسير ذلك بشكل علمي سيحتاج إلى وقت طويل لأن الأمر يحتاج إلى تشريح دقيق في البنيات الثقافية للشباب والقاصرين الذين يتوافدون على الملاعب بشكل كثيف ومؤطر نسبيا تحت لواء تنظيمات هيكلية، تشكلت وتطورت من رحم المجتمع من طبقاته السفلى السحيقة المحرومة اجتماعيا واقتصاديا وتربويا وسياسيا. تلك التنظيمات هي مجموعات الإلتراس Ultras وهي تنظيمات شبابية في الغالب تتشكل من أنصار الفرق الرياضية، ظهرت في بداية عهدها بالبرازيل وتعني الكلمة "المتطرفون في الحب". وانتقلت الفكرة والأسلوب من البرازيل وانتشرت في كل ملاعب العالم، وطبعا هذا الانتشار الواسع والمخيف أدى إلى التطرف أكثر وأكثر يعني التطرف في "حب الفرقة". فهذه التنظيمات خلقت بين صفوفها "هويات جديدة" و"ولاءات جديدة" من داخل نفس المدينة أو من نفس الحي/ الحومة، وحتى من نفس البيت والأسرة، فيمكن أن نجد على سبيل المثال، أنصار فريقين مختلفين ينتميان إلى عائلة واحدة. الصحافة المغربية تطلق على هذه الظاهرة "شغب الملاعب" وهو وصف سطحي جدا وسريع، لأن هذه الظاهرة تجاوزت بكثير مقاعد المدرجات والمستطيل الأخضر الذي تجري فيه المباراة، وأصبحت هذه المجموعات تعتنق مواقف سياسية صريحة، لأن اللعبة أضحت جزءا من السياسية وإحدى آلياتها، ولا يمكن للأنظمة السياسية أن توظف اللعبة في أجندتها السياسية ك"أفيون الشعوب" لاستدامة الاستبداد والتستر عن الفساد، دون توظيف الجماهير لها أيضا للتعبير عن مواقفها السياسية والأيديولوجية الرافضة للتهميش و"الحگرة" والاقصاء، والمطالبة بالحرية والرفاهية والعدالة والمساواة، والتعبير عن الظلم الاجتماعي والقهر الاقتصادي والسياسي كما تعبر عنه أناشيد كثيرة كأنشودة "فبلادي ظلموني". تزامن صعود ثقافة "الألتراس" بخمود وتراجع ثقافة الأحزاب السياسية التي كانت لها طليعة شبابية مؤطرة إيديولوجيا وفكريا، وذلك بفعل هيمنة أحزاب الإدارة وأحزاب المال التي ساهمت بشكل حاسم في موت السياسة بالمغرب. فلم يعد للشباب أي أمل في التعبير عن ذاته وهمومه إلا في المدرجات التي يشعر فيها الشباب بالأمان والحرية ويتخذونها كمنصة تعبير ومرتع للصراع ضد الجميع. خلاصة القول، إن ما تعرفه الرباط من نهضة تنموية سريعة من خلال البنيات التحتية وإنشاء مؤسسات كثيرة ومتنوعة، كبيرة وضخمة، لا يوازيه مع الأسف مخطط شمولي من الأسفل يستهدف بناء الإنسان، فما قيمة كل هذا البنيان إذا كان مصيره هو الخراب والتخريب من طرف الإنسان نفسه المستهدف في هذه النهضة التنموية والعمرانية. فبناء الإسمنت والحديد وحده لا يكفي لتشييد عاصمة الثقافة وعاصمة الأنوار، لأن الثقافة فعل إنساني واجتماعي محض وليس بناء إسمنتيا، والأنوار هي عصارة عقل ومنطق واجتهاد فكري بشري، فإذا كان المقصود من "الرباط عاصمة الأنوار" هو أضواء المصابيح التي تضيء شوارع وأزقة الرباط ليلا، فكونوا متأكدين بأن المدينة مهما شُيد فيها من أبراج ومسارح ومسابح ومصابيح ومتاحف وطرقات فإنها ستبقى مدينة أشباح تعيش في ظلام دامس إلى الأبد.. فالاستثمار في الإنسان هو النور الحقيقي الذي سينير مستقبل البلاد والعباد، وبناء الأوطان وحمايتها يبدأ ببناء الإنسان.