يشير الفصل 70 من دستور 2011 بوضوح، الى كون تقييم السياسات العمومية من اختصاص البرلمان:"يصوت البرلمان على القوانين و يراقب عمل الحكومة و يقيم السياسات العمومية". و اذا كانت ممارسة الرقابة على الحكومة متيسرة عبر الاليات التقليدية المعروفة من اسئلة شفوية و كتابية و مناقشة لاستراتيجيات الحكومة و خطط عملها داخل اللجان البرلمانية،فان السؤال العريض يرتكز اليوم حول غياب آليات فعلية تمكن البرلمان من ممارسة اختصاص مهم يكمن في تقييم السياسات العمومية. و اذا كان مفهوم "السياسات العمومية" قد ورد في الدستور على غرار مفاهيم اخرى متقاربة و متشابهة دون توضيح دقيق للمعنى المراد منه،فان اختصاص تقييم السياسات العمومية هو اختصاص معطل في مغرب ما بعد 2011،ما دام البرلمان يفتقد الى الاجراءات و الآليات و الضوابط و الامكانيات المادية و البشرية التي يتطلبها عمل مركب و معقد من قبيل تقييم السياسات العمومية. لقد ورد المفهوم في سياق اخر في الفصل 13 من الدستور، حيث يشير الى ان "السلطات العمومية تعمل على احداث هيئات للتشاور قصد اشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في اعداد السياسات العمومية و تفعيلها و تنفيذها و تقييمها." صياغة هذا الفصل تحيل على غموض يكتنف عدة زوايا من دستور 2011،حيث يشير الى السلطات العمومية و ليس الى الدولة كما هو وارد في فصول اخرى او الحكومة في مواقع اخرى،علما ان الحدود بين هذه المفاهيم و المقصود منها في النظام المؤسساتي المغربي في حاجة الى نقاش عميق. يبدو من خلال هذا الفصل ان "السلطات العمومية" هي من يعد و يفعل و ينفذ و يقيم السياسات العمومية،و بذلك فهي مدعوة اليوم الى احداث هيئات للتشاور قصد اشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في العمليات السالفة الذكر. و بغض النظر عن المجهود التشريعي الذي يجب ان يبذله البرلمان او الحكومة لإخراج الاطار القانوني لهذه الهيئات،فان السؤال المثار يتمحور حول موقع البرلمان من عملية التقييم،و حول الناظم المنهجي المفترض وجوده بين مضموني الفصلين 13 و 70. تعتبر لحظة مناقشة مشاريع قوانين المالية التي تحيلها الحكومة على البرلمان،لحظة بروز هذه الاشكاليات بامتياز.فالبرلمانيون يجدون انفسهم اثناء المناقشة العامة لهذه المشاريع او مناقشة مشاريع الميزانيات القطاعية داخل اللجان، في حاجة الى تجاوز المنطق الرقمي الاحصائي و الموازناتي ،لمناقشة و تقييم الاستراتيجيات و المخططات القطاعية العابرة للسنوات و الميزانيات و الحكومات ،قبل تخصيص اعتمادات مالية جديدة لها،غير ان واقع الحال ينبئ عن عدم توفر البرلمانيين على الامكانيات و الخبرات و الوسائل اللازمة للقيام بهذا العمل،فضلا عن كون بنية الميزانية و طريقة تقديمها و عرضها من طرف الحكومة لا يسهل دائما هذه المهمة. و في انتظار صدور قانون تنظيمي جديد لقانون المالية، الذي سيدخل مرحلة التجريب مع اربع قطاعات وزارية سنة 2014 و الذي يؤمل ان يحمل جديدا في هذا الاطار،فان البرلمانيين يكتفون بإمكاناتهم الخاصة، حيث تبقى مداخلاتهم انطباعات عامة ،لا يمكن ان ترقى في ظل ظروف الممارسة الحالية الى مستوى التقييم الاحترافي الذي يمكن اعتماده.في الاطار ذاته، تبقى ردود الوزراء و تعقيباتهم على البرلمانيين ردود عامة لا تشكل بدورها مرجعيات للتقييم الجاد. مسؤولية هذا الواقع، تقع على مجلس النواب ذاته ،حيث عجز على تضمين نظامه الداخلي المراجع على ضوء الدستور الجديد، آليات قانونية و تدبيرية و كذا الوسائل المادية الكفيلة بضمان ممارسته لاختصاص هام و حيوي لا يزال محتشما ،رغم ان محاولة هامة تمت في في هذا السياق ،من خلال التوافق على احداث لجنة جديدة سميت في النظام الداخلي المصادق عليه في غشت الماضي قبل احالته على المجلس الدستوري بلجنة مراقبة الانفاق العمومي.حيث اشارت المادة 55 من النص المذكور، الى ان "اللجنة تختص بتدقيق الانفاق العمومي الذي تقوم به الحكومة من قطاعات وزارية تابعة لها و مؤسسات و مقاولات عمومية تعمل تحت مسؤوليتها من خلال صرف الموارد المالية المسجلة بالميزانية العامة للدولة في الحسابات الخصوصية للخزينة و مرافق الدولة المسيرة بطريقة مستقلة و في ميزانية المؤسسات و المقاولات العمومية ،قوانين التصفية،المجلس الاعلى للحسابات." غير ان الطريقة التي صيغت بها المادة اعلاه، جعلت المجلس الدستوري يعتبرها في رده الصادر بتاريخ 22 غشت 2013 مخالفة للدستور.معتبرا ان مراقبة البرلمان للمالية العامة ينبغي ان يتم من خلال مراقبة عمل الحكومة (باستثناء ما يسمح به للجان النيابية لتقصي الحقائق) و ان لا تمتد الى مراقبة القطاعات الوزارية و المؤسسات و المقاولات العمومية مباشرة لما في ذلك من اخلال بالفصل 89 الذي ينص على ان الادارة موضوعة تحت تصرف الحكومة التي تمارس ايضا الاشراف و الوصاية على المؤسسات و المقاولات العمومية،كما اصر المجلس الدستوري على ان الاختصاصات المقترحة للجنة هي من اختصاص المجلس الاعلى للحسابات الذي يحق للبرلمان الاستعانة به للإجابة عن الاسئلة و الاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع و المراقبة و التقييم المتعلقة بالمالية العامة و فقا لأحكام الفصل 148. و في مراجعته للمواد المرفوضة من لدن المجلس الدستوري،عدل مجلس النواب مقتضيات المادة 55 المتعلقة باللجنة المستحدثة في نظامه الداخلي ، ليمنحها اختصاص مراقبة و تتبع الانفاق العمومي للحكومة و دراسة التقارير الموضوعاتية للمجلس الاعلى للحسابات و كذا النصوص التشريعية المتعلقة بمراقبة المالية العامة. كان بإمكان مجلس النواب ان يضمن نظامه الداخلي مقتضيات تسمح له بممارسة اختصاصه في تقييم السياسات العمومية، من خلال تدابير تلزم الحكومة بتقديم كل المعطيات المتضمنة للأرقام و الاحصائيات و الاعتمادات المالية المرصودة لمختلف الاستراتيجيات و المخططات و الاختيارات المشكلة في مجموعها للسياسات العمومية الكبرى ،مع توفير كل الامكانيات البشرية و المالية اللازمة لذلك. و هو الامر الذي سيتجاوز –ان تم – منطق جلسات المساءلة الشهرية الموجهة لرئيس الحكومة حول السياسات العامة طبقا للفصل 100 من الدستور،و التي لا يمكن الجزم في كونها وحدها يمكن ان تشكل اجراءا برلمانيا لتقييم السياسات العمومية نظرا للاعتبارات السياسية الضاغطة التي تحكمها من مختلف الاطراف. لا يمتلك المغرب اليوم مرجعية معتمدة في تقييم السياسات العمومية ،لذلك تختلف تقديرات مؤسساته حول مختلف السياسات العمومية بين وصفها بالنجاح او الفشل او التعثر،كما تختلف تقديرات الحكومات المتعاقبة حول هذه السياسات استنادا الى هواجس سياسية اكثر منها مرتكزات موضوعية. و هو امر لا يخدم منطق الدستور الجديد في ربط المسؤولية بالمحاسبة و تحميل مختلف المؤسسات الدستورية مسؤولياتها تجاه الدولة و المواطن،كل في اطار اختصاصاته و ادواره، بما يمكننا فعليا من الانتقال الى دولة الحق و القانون. *نائبة برلمانية